المسرح في السودان: فن وافد ونافذة لفهم المجتمع
ما يختزنه المسرح المعاصر من أشكال ثقافية متشابكة ساهم في جذب اهتمام العلماء من مختلف مجالات العلوم الإنسانية، حيث أدّى التقدم اللافت في فنون الأداء وانفتاحها من النص إلى الحركة ومن الصمت إلى الفعل ومن القول إلى الإضمار وغيرها من ثنائيات اللعب، إلى تنشيط التفكير النظري والبحث الذي بدأ يدرك أن الأداء الفعّال يلعب دورا اجتماعيا أساسيا في منح المادة الثقافية معنى. كما ترسخ مع مرور الزمن الدور الأنثروبولوجي للمسرح الذي بات يعتبر بوابة لفهم الشعوب وثقافاتها.
تكمن أهمية دراسة “المسرح السوداني المعاصر ودوره في الواقع” للباحث محيي عبدالحي في كونها تتناول العلاقة بين المسرح بوصفه ظاهرة اجتماعية ومعطيات التحليل الأنثروبولوجي لتطور الظواهر الاجتماعية، ومن بينها الظواهر الثقافية والفنية والتي يعد المسرح واحدا منها.
ويتناول عبدالحي دور المسرح المعاصر في السودان وما قدمه من أعمال، في محاولة للتعرف على التغيرات التي طرأت على القيم المجتمعية لمجتمع الدراسة: الخرطوم، أم درمان، الخرطوم بحري.
المسرح والأنثروبولوجيا
المسرح السوداني بين النقد الاجتماعي والتحريض يثير قيم العدل والتحرر من قمع السلطة ويحاول تشكيل القيم المجتمعية
يعد المسرح مصدرا مهما للباحث الأنثروبولوجي كونه يتناول قضايا المجتمع من أجل معرفة الكثير عن أفكار الشعوب وتفسير سلوكياتها ورؤيتها إلى ذاتها وإلى الآخرين، حيث يقدم المسرح إلى الباحث قراءة حقيقية عن المجتمع وطرائقه المتنوعة من أجل التعايش مع ظروفه، وقدرة أفراد هذا المجتمع على الإنتاج الثقافي الملائم لمختلف أدوارهم الاجتماعية ومواقفهم الفكرية.
ويرصد الباحث أيضا في دراسته الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب الأدوار المتعددة والدلالات الثقافية والاجتماعية التي تعبر عن السمات العامة للمجتمع السوداني، وتلقي الضوء حول أنواع المسرح المختلفة وتبرز خصائص المسرح السوداني المعاصر. حيث يسعى إلى التعريف بالمسرح السوداني المعاصر وأشكاله ومكوناته وخصائصه الثقافية، ووظائفه، وأثرها في القيم المجتمعية، والكشف عن القيم المجتمعية التي يعكسها ويشكلها هذا المسرح.
ويشير عبدالحي إلى أنه تناول المسرح السوداني من خلال المرئي والمسموع المتمثل في العرض المسرحي في ضوء القيم، سواء أكان حيا أم مسجلا، حيث تم الاعتماد على قراءة بعض النصوص المسرحية المختارة، وكذلك مشاهدة بعض العروض المسرحية الحية والمسجلة.
ويقول الباحث “لا يزعم التعرض إلى جماليات النص أو العرض المسرحي، فهذا موضوع آخر له دارسوه ومتخصصوه، إلا أنني أولي اهتمامي على الدراسة الأنثروبولوجية لدور المسرح التي تعرض للقيم المجتمعية في السودان من خلال التفسير والتحليل وربط النص والعرض المسرحي بمجتمع البحث وبالسمات والعناصر الثقافية المتوارثة وما طرأ على المجتمع من تغيرات، من أجل الكشف عن أهم القيم المجتمعية التي رسخ المسرح السوداني المعاصر لبقائها، وكذلك البحث عن القيم المكتسبة الجديدة التي شكلها المسرح في مجتمع الدراسة”.
ويلفت الباحث إلى أن المكونات والخصائص الثقافية في مجتمع الدراسة والتي تتمثل في طبيعة المجتمع الجغرافية وتراثه التاريخي والحضاري، انعكست في كل الأبنية ومنظومة القيم المجتمعية، وعناصر كثيرة أخرى كالآداب والفنون الموسيقية والغنائية والحركية والقولية، وأن تكوينه السكاني تشكل من أعراق عديدة ولغات وديانات وأنشطة اجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية، اندمج فيها الجنس العربي والأفريقي، وامتزاج الثقافة القبلية مع الثقافة العربية والإسلامية والمسيحية، مما أفرز ثقافة هجينة ذات سمات وملامح أفريقية لها معتقداتها وأخرى عربية إسلامية ومسيحية.
فن وافد
يقر عبدالحي بأن المسرح فن وافد على الثقافة السودانية بشقيها العربي الإسلامي والزنجي الأفريقي، سواء أكان ذلك في صورته التقليدية التي تقوم على الأحكام الأرسطية أم في شكله المعاصر والحديث، حيث إن المسرح في السودان لم يعرف إلا في أواخر القرن التاسع عشر.
ويقول إن العديد من الباحثين والمهتمين بالمسرح في السودان قد عملوا على إيجاد اتجاهات جديدة تبحث عن أشكال مغايرة تعبر عن هوية وخصوصية المجتمع السوداني المعاصر وتخاطب فكر ووجدان وقيم الإنسان، وإيجاد مسرح يبحث عن أشكال ومضامين تتماشى مع روح العصر وما يحمله من أساليب وآليات وتقنيات حديثة ووسائل تكنولوجية، خصوصا بعدما أصبحت هناك معطيات أخرى من متغيرات اجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية ودينية تركت آثارها الواضحة في المجتمع السوداني.
وكذلك يلفت إلى أنه قد تكونت الفرق والجماعات المسرحية على مر تاريخ الحركة المسرحية مثل فرقة الخريجين، وفرقة السودان للتمثيل والموسيقى، وفرقة الفاضل سعيد، وفرقة أضواء المسرح، وفرقة الأصدقاء المسرحية، وفرقة الأرض المسرحية، وجماعة السديم المسرحية، وجماعة المسرح التجريبي، وجماعة مسرح شوف، والورشة المستمرة لتطوير فنون العرض، والورشة المسرحية الجوالة، وغيرها من الفرق والجماعات المسرحية العديدة التي أسهمت في نشأة وتطور المسرح السوداني بعضها كتب له الاستمرار، والبعض الآخر لم تسمح الظروف باستمراره.
ويذكر عبدالحي أن المجتمع السوداني شهد متأخرا نسبيا مقارنة بقية الدول العربية المهرجانات المسرحية فكان أول مهرجان مسرحي “الفرق والجماعات المسرحية” عام 1990، ثم مهرجان “نمارق للمسرحيات القصيرة” عام 1993، تلاه مهرجان “الشباب للمسرح التجريبي الأول” عام 1998، ثم مهرجان “أيام البقعة المسرحية” عام 2000، فمهرجان “أيام الخرطوم المسرحية” عام 2006، ومن ثم مهرجان “البيان للمسرح الجامعي” 2012، وكذلك مهرجان “المسرح الحر” والذي اتحدت على إقامته مجموعة من الجهات الإبداعية عملت على تنشيط الحياة المسرحية، وكان لها دور معرفي في نشر الثقافة.
وظائف المسرح
ويرى الباحث أن معظم المسرحيات التي قدمت منذ بدايات المسرح في السودان قد تعرضت إلى بعض القيم المجتمعية عبر مضامين المسرحيات مثل الوحدة الوطنية كما في مسرحية “الملك نمر”، والدعوة إلى التعليم كما في مسرحية “المرشد السوداني” وإزكاء الشعور الوطني والقومي كما في مسرحية “صلاح الدين الأيوبي”، ومحاربة الشر وارتكاب الجرائم عبر القيم السلبية المتمثلة في النفاق الذي يستشري في الحياة الاجتماعية كما في مسرحية “خراب سوبا” والتأكيد على القيم الإيجابية مثل مظاهر البطولة، الكرم، النبل، الوفاء، الحب والوحدة الوطنية كما في مسرحية “الملك النمر”.
وكذلك تعرضت المسرحيات إلى بعض القيم التي تصدرت في مجابهة ومحاربة الفساد الإداري لقضايا المحسوبية والرشوة وفساد كبار الموظفين، كما في مسرحية “أكل عيش” وأيضا التعرض إلى العديد من القيم الاجتماعية مثل إشكالية الاغتراب عن الواقع أو الفصام الاجتماعي كما في مسرحية “خطوبة سهير”، وكذلك بث قيمة العدالة من خلال استلهام التراث عبر القيم الدينية والمضامين والممارسات الشعبية كما في مسرحية “حصان البياجة” وكذلك نبذ القيم السلبية والثورة على التقاليد الاعتقادية الدينية والسياسية القمعية كما في مسرحية “نبتة حبيبتي”.
ويكشف الباحث أن للمسرح وظائف عديدة منها الوظيفية التطهيرية والنفسية والترفيهية والاتصالية، وقد تناول وظائف المسرح في مجتمع البحث، وخلص إلى أن الوظيفة الثقافية للمسرح تعمل على تنوير المجتمع بالمعرفة، واتخذ مسرحية “المرشد السوداني” نموذجا لإحدى قيم المحتوى “القيم النظرية” حيث كشف من خلالها عن وظيفة المسرح ودوره المهم في التفاعل المجتمعي؛ حيث عملت المسرحية على بث قيم العلم ونشر الوعي ومحاربة الجهل والرذيلة.
ويوضح أن الوظيفة الاجتماعية للمسرح تعمل على بث وترسيخ القيم الاجتماعية من خلال إعداد وتنشئة وتشكيل أفراد المجتمع، وتأكيد الضبط الاجتماعي، حيث يعد الضبط الاجتماعي أحد الوسائل والنظم التي تتبع في المجتمع، لحفظ النظام وتحقيق تماسك المجتمع، وتطابق سلوك أفراده مع مجموعة من القواعد من أجل تحقيق الأهداف العامة والحفاظ على قيمه الأساسية.
الباحث يسعى إلى التعريف بالمسرح السوداني المعاصر وأشكاله ومكوناته وخصائصه الثقافية ووظائفه وأثرها في القيم المجتمعية
وقد اتخذت مسرحية “خطوبة سهير” نموذجا لإحدى قيم المحتوى “القيم الاجتماعية”، حيث تناولت المسرحية قضايا التفكك الإنساني في المجتمع السوداني، وكشفت الأبعاد الاجتماعية للشخصيات والتغيرات والتحولات الكبيرة التي وصل إليها المجتمع، كما أبرزت دور المرأة في المجتمع، وكذلك كشفت الصورة الانهزامية للرجل واغترابه.
ومن ثم عملت العديدمن المسرحيات السودانية على ترسيخ وظيفة المسرح في إيجاد معادل درامي يجعل المتلقي ناقما على القيم السلبية متفاعلا مع القيم الإيجابية؛ من أجل إحداث التفاعل المرجو مع قيم التواؤم الأسرية.
وقد اتخذ الباحث مثالا على المسرح الوظيفي مسرحية “أكل عيش” التي تناولت قضايا الفساد والغش والكذب، وأوضح الدور الحيوي الذي قامت به المسرحية، حيث جاء التوظيف كاشفا للسلوك الاجتماعي من خلال إظهار القيم المستحدثة في المجتمع السوداني وفضحها، والتي لا تمثل أعراف وتقاليد المجتمع الأصيلة. فعملت المسرحية على بث القيم الاجتماعية الإيجابية.
وتكشف المسرحية التحولات التي أصابت القيم الاقتصادية في المجتمع السوداني ساعية إلى تعرية الواقع المرير الذي يمر به المجتمع من كذب وزيف، وجاء مضمون الخطاب المرسل بين ثنايا النص ليضع قضية البطالة عاملا مؤثرا في تغير السلوك الإنساني وبالتالي منظومة القيم.
كما اتخذ عبدالحي مسرحية “نبتة حبيبتي” نموذجا لإحدى قيم المحتوى “القيم السياسية” حيث يكشف من خلالها صراع الشعب ضد الفقر والجوع والاستلاب السياسي والديني من قبل سلطة الكهنة الظالمة، فعملت المسرحية على إيقاظ الشعور الوطني لدى المتلقي، حيث عملت الوظيفة على التحريض وأثارت قيم العدل والتحرر من قمع السلطة الذي يحث الأفراد على المشاركة السياسية داخل المجتمع. ومن جانب آخر مع مسرحية “الملك نمر” خلص إلى أن المسرحية اتخذت الوحدة الوطنية طريقا إلى الخلاص والتحرر من الاستعمار.
أما مسرحية “بت حلال” فتتناول قضايا الزواج مركزة على التسلط الاجتماعي في بنية الأسرة، وما يترتب عليه من إشكالات في عدم الاستقرار المؤدي إلى تفكك الأسرة وتحللها، حيث وجهت المسرحية نقدا لاذعا إلى القيم الاقتصادية الدارجة والتي ترسخ للعرف السائد في المجتمع، والمتمثل في ارتفاع قيمة المهور لمراسم الزواج السوداني، فجاء التوظيف كاشفا التقاليد السلبية التي يجب الاستغناء عنها.
وتناول الباحث بالتطبيق والتحليل مسرحية “النظام يريد” كاشفا عن دورها في تشكيل القيم المجتمعية من خلال جميع قيم المحتوى “النظرية والاجتماعية والساسية والاقتصادية والدينية والجمالية”، حيث قامت المسرحية بدور حيوي في بث وتشكيل القيم المجتمعية، محققة تفاعلا ونجاحا جماهيريا، واستمرت ما يقرب من أربعة أعوام واستحوذت على نسبة مشاهدة تجاوزت 900 ألف مشاهد من أفراد المجتمع في معظم أنحاء السودان، مما يدلل على مدى التفاعل الجماهيري ومدى الدور الذي قامت به.
تطوير الفن الرابع
من أهم النتائج التي توصل إليها الباحث أن المكونات والخصائص الثقافية في مجتمع البحث انعكست في كل الأبنية ومنظومة القيم المجتمعية، وأن تكوين المجتمع السوداني مختلف الأعراق قد أثر في الأعمال المسرحية المقدمة من حيث مواضيعها والقيم التي تحاول بثها والتي تراعي التنوع الديني والقبلي والعرقي كما تراعي الاختلافات الثقافية.
وقد حاول المسرح كفن وافد في السودان أن يتعرض إلى بعض القيم المجتمعية الإيجابية مثل الوحدة الوطنية والتعليم والبطولة والكرم والنبل والوفاء والحب والعدالة، وكذلك تعرض إلى بعض القيم السلبية مثل المحسوبية والرشوة والفساد والاغتراب والتفكك الأسري. وهو ما يراه الكاتب في العديد من الأعمال التي يعددها في الكتاب، ويقوم بتحليلها لا من منظور جمالي أو تقني بل من منظور المحتوى والأفكار التي تطرحها.
ويخلص عبدالحي إلى أن المسارح بمجتمع البحث الذي تناوله تحتاج إلى تطوير وإعادة نظر بداية من البناء المعماري وتجهيزاتها من خشبات، وغرف الممثلين وصالات المسارح، وغرف تحكم الإضاءة والصوت، وانتهاء إلى تزويد المسارح بالمعدات والأجهزة الحديثة لتتمكن من العطاء والتطور.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق