توفيق الحكيم .. الأديب والسياسة (1)
«إني لا أطيق أحدا يحقر الأفكار والكلمات، إن الكلمات هى التي شيدت العالم. إن محمدا لم ينشر الإسلام بالذهب بل بالكلمات، وعيسى لم ينشىء المسيحية بالمال بل بالكلمات. الكلمات الصادقة والأفكار العالية والمبادىء العظيمة هى وحدها التي قادت الإنسان في كل أطوار وجوده، وبنت الأمم والشعوب في كل أدوار تاريخها. ما من حركة وطنية أو قومية أو إنسانية قامت أول أمرها على شىء غير المبادىء» .. من كتاب «حماري قال لي» لتوفيق الحكيم.
الكلمة مسئولية وعليها يقع العبء الأكبر في تطوير المجتمعات ودفعها نحو المستقبل وما من أديب غاص بعمق المجتمع إلا وكان له علاقة ما بعالم السياسة .. الناقد المسرحي فؤاد دوارة في دراسته «مسرح توفيق الحكيم .. المسرحيات السياسية» يبحر داخل عالم توفيق الحكيم في محاولة للتعرف على طبيعة العلاقة التي ربطت ما بين توفيق الحكيم وآفاق عالم السياسة من خلال تحليل مسرحياته السياسية التي لم يلفتت إليها الكثير من النقاد.
مسرح توفيق الحكيم .. المسرحيات السياسية
توفيق الحكيم و«الضيف الثقيل»
استهل فؤاد دوارة تقديم دراسته بالإشارة إلى أن أغلب الباحثين الذين انشغلوا بمسرح توفيق الحكيم – فيما عدا قلة نادرة من بينهم دكتور علي الراعي ودكتور محمد مندور- قد أغفلوا الوقوف على مسرحه السياسي مكتفين بدراسة عالمه الفكري وربما يرجع ذلك لكون توفيق الحكيم ذاته قد حرص على عدم الإنتماء لأي حزب سياسي على عكس غالبية أدباء جيله إلى جانب رفضه المشاركة في النشاط السياسي العملي في مقابل انشغاله الشديد بقضايا الفن والآدب وتأكيده على مبدأ استقلال الأديب وحريته الفكرية وهو ما اكسبه بنظر البعض صورة الفنان الشارد عن الحياة والمجتمع المنصرف إلى تأملاته وشطحاته الفكرية وربما رسخت بعض عناوين أعماله مثال: «من البرج العاجي .. تحت المصباح الأخضر .. حماري قال لي .. قالت العصا» تلك الصورة الذهنية المتمثلة في صورة «الأديب الشارد».
على عكس الصورة الذهنية الشائعة عن توفيق الحكيم كأديب شارد جاءت ذكريات طفولته مشبعة بالعديد من الصور الدالة على تغلغل نفوذ الإنجليز بمصر حيث ولد توفيق الحكيم في 9 أكتوبر سنة 1898 ما جعل ذكرياته تأتي مسكونة بصور توغل نفوذ الإنجليز بمجمل شئون مصر بما في ذلك مجال القضاء الذي كان والده أحد رجاله.. ويروي توفيق الحكيم عنه وكيف تأخرت ترقية والده لكونه أبى أن يحكم بما يخالف ضميره فجاء حكمه على عكس ما أراد الإنجليز ما كان سببا مباشرا في تأخر ترقيته.
انصرف توفيق الحكيم عقب ثورة 1919 لدراسته بمدرسة الحقوق العليا ثم بجامعة باريس إلى جانب متابعة تجاربه الأولى في التأليف المسرحي والقصصي وجاءت أولى أعماله المسرحية «الضيف الثقيل» التي كتبها نهاية عام 1919 وقال عنها: «كانت من وحي الإحتلال البريطاني .. كانت ترمز إلى إقامة ذلك الضيف الثقيل في بلادنا بدون دعوة منا وبدون رغبة في الإنصراف عنا» لتبدأ بتلك المسرحية رحلته مع عالم المسرح السياسي.
قضى توفيق الحكيم ثلاث سنوات بباريس ما سمح له التعرف على حياة الأوربيين ومشكلات العمال الفرنسيين واستغلال أصحاب المصانع لجهودهم وذلك من خلال علاقته بالعامل الفرنسي «أندريه» الذي امتدت علاقته به بعد عودته إلى مصر وتبادل معه العديد من الرسائل التي جمعها بكتابه «زهرة العمر» كما كتب روايته «عصفور من الشرق» التي جاءت كتجسيد لخلاصة تجاربه بفترة إقامته تلك بباريس ما بين عامي 1925 و1928.
الفنان والسياسة
لم يحترف توفيق الحكيم العمل بالسياسة كما هو معروف عنه لكنه دائما ما كان يشير إلى عمق العلاقة التي تربط ما بين الأديب والفنان بشكل عام وعالم السياسة: «ما من فنان أيا كان يمكن أن يتنصل من مسئوليته نحو عصره ومجتمعه وأنا شخصيا لا أستطيع أن أتصور فنانا بهذا الشكل خصوصا في عصرنا الحاضر».
كثيرا ما أكد توفيق الحكيم على أن الكُتاب كانوا دائما ما يمهدون للإصلاحات والإنقلابات الإجتماعية ويستشهد في ذلك بكتابات: «ديكنز .. ويلز .. شو .. بريستيلي» وغيرهم من كبار الأدباء حول العالم ولئن كانت حركة الإصلاح الإجتماعي في مصر قد تأخرت فذلك من وجهة نظره «سببه تقصير الكتاب والأدباء .. إني اتهم بملء فمي الأدب بهذا الجرم!».
الأديب أو الفنان لدى توفيق الحكيم «ليس هو المصلح بل هو صانع المصلح .. كل أولئك المصلحين من ملوك وزعماء وساسة، ما كونهم وهيأهم لرسالات الإصلاح غير أدب الأدباء وشعر الشعراء وفن الفنانين» ولا يعني هذا أن يتوجه الكاتب فيما يكتب إلى السلطان دون الجماهير ذلك أنه – ووفقا لتوفيق الحكيم -«بعض أعمال الأديب أو الفنان من الممكن أن تكون ذات شطرين، فبينما يكون من أهدافها تكوين المصلح ولفت نظره إلى ما ينبغي فإنها يجب أن تتوجه إلى الجماهير في نفس الوقت، بطريق مباشر لتؤثر فيها تأثيرا عميقا واسع النطاق».
غير أن هذا كله لا يعني ضرورة إنشغال الأديب بالسياسة العملية فاعتناق الأديب لمبادىء حزب معين- وفقا لتوفيق الحكيم – يلغي وجود الأديب «ويحرمه من مباشرة سلطة الفكر وهى المراقبة والمراجعة على الجميع بما فيها ذلك الحزب وغيره .. فواجب رجل الفكر أن يحافظ على كيان الفكر وأن يصون وجوده الذاتي حرا مستقلا وأن يصمد به في وجه كل عدوان لأنه هو الضمان الوحيد على هذه الأرض الآن تجاه انجراف قوة العمل نحو الإنحراف الطاغي المدمر» .. لذا أصر توفيق الحكيم على الاحتفاظ باستقلاله الفكري ومن ثم لم ينضم لأي حزب سياسي رغم تعدد الظروف المواتية والمغريات التي لا حصر لها.
«أهل الكهف» .. بوابة توفيق الحكيم الأولى لعالم الشهرة
نشر توفيق الحكيم سنة 1933 مسرحيته «أهل الكهف» على نفقته الخاصة في طبعة محدودة أهدى معظم نسخها لكبار الأدباء والنقاد والصحفيين فإذا بغالبيتهم يرحب بها فيكتب عنها مصطفى عبد الرازق والعقاد والمازني وطه حسين وغيرهم وبذلك يتردد اسم توفيق الحكيم بكبريات الصحف المصرية وهو لم يزل يعمل وكيل نيابة بريف مصر.
سهلت تلك الشهرة التي حاز عليها توفيق الحكيم جراء نشره مسرحية «أهل الكهف» له من أن يتمكن في العام التالي 1934 من الإنتقال للعمل بالقاهرة مديرا للتحقيقات بوزارة المعارف وهو ما اتاح له فرصة متابعة الكتابة بشكل منتظم فتوالى صدور كتبه ومسرحياته وتعددت مقالاته وأحاديثه بالصحف والمجلات.
صلاة الملائكة
«يتصاعد إلى السماء دخان الحرب المشتعلة على الأرض ومعه أصوات صلاة استغاثة، فيقرر أحد الملائكة الهبوط إلى الأرض لمعاونة أهلها، فيتنكر في هيئة قروي بسيط، ويلتقي بفتاة فقيرة فقدت أهلها في الحرب، وراهب هارب بعد أن أحس بالعجز عن حماية الآلهة، وعالم يحاول أن يغرق علمه في الخمر لكي لا يستخدمه الطغاة في تأجيج نيران الحرب .. يتجه الملاك للقاء الطاغييْن اللذين أشعلا نار الحرب ويتهم الطاغيان الملاك بمحاولة اغتيالهما ويقدمانه للمحاكمة ويتقرر إعدامه رميا بالرصاص، فلا يملك إلا أن يعود إلى السماء حيث يجد الملائكة يصلون لأجله بعد أن طالت غيبته، فيطلب منهم أن تكون صلاتهم من أجل أهل الأرض المساكين».
يؤكد فؤاد دوارة على أن فكرة المسرحية ليست بجديدة كونها كثيرا ما ترددت في كثير من الأساطير والمسرحيات اليونانية والهندية القديمة حيث تظل الصلة قائمة دائما ما بين السماء والأرض، بين البشر والآلهة فلم يكن توفيق الحكيم أول كاتب حديث يلجأ لهذه الفكرة في مسرحه فقد سبقه عدد كبير من كتاب المسرح حول العالم كان منهم «جوته .. طاغور» وغيرهما.
طاغيا مسرحية «صلاة الملائكة» لتوفيق الحكيم وفقا لفؤاد دوارة هما «هتلر وموسوليني» اللذين اشعلا نار الحرب العالمية وإن لم تنص المسرحية على ذلك صراحة وقد حاول الحكيم في مسرحيته أن يحقق لها طابع الشمول الإنساني الذي يسم المآسي الكبرى فاستخدم القوى الخارقة ممثلة في الملاك الذي هبط من السماء للأرض كما أدار أحداث مسرحيته في زمان ومكان غير محددين ولم يطلق على شخوص مسرحيته أي أسماء بل جعلها أقرب إلى الأنماط أو الأقنعة «الملاك .. الفتاة .. العالم .. الراهب .. الطاغيان».
في «صلاة الملائكة» يدعو توفيق الحكيم إلى الصلح بين العقل والقلب ليستطيعا باتحادهما معا مواجهة الطغيان وحماية البشر فيوجه إليهما خطابا شديد التأثير على لسان الملاك: «كفا تنابذا .. لماذا لا تتفقان؟ .. كلاكما مؤمن .. وكلاكما راهب .. فما الدين إلا إيمان القلب، وما العلم إلا إيمان العقل .. آه .. لو اتحد العقل والقلب من قديم ضد الغريزة الحيوانية لكان للإنسانية اليوم شأن آخر».
المسرحية تقوم على رصد تلك العلاقة ما بين الجوع والفقر بالحرب، فالفقر والجوع لدى توفيق الحكيم هما السبب الرئيسي في اشعال الحروب ومع ذلك فإن الحروب لا تؤدي إلا إلى مزيد من الفقر والجوع للشعوب ويزداد الأمر سوءا إذا ما كان هناك طاغية فأنه يؤجج نار الحروب من أجل ترسيخ قواعد حكمه.
غير أن «ملاك» توفيق الحكيم لم يفقد الأمل في صلاح أهل الأرض رغم كل ما تعرض له من عذاب فها هو يعود للسماء حاملا تلك التفاحة الخضراء التي منحته إياها الفتاة الطيبة وهو يردد نشيدها العذب: «يا شجرة الحب للكائنات .. ان دمعك دمع السماء» .. وللحديث بقية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق