مجلة الفنون المسرحية
ميشيل فوكو .. وجوه متعددة للفيلسوف
لو قدر له أن يعيش حتى هذه اللحظة ، لكان قد احتفل بعيد ميلاده الـ " 95 " ، وأوقد الشموع مع الآن تورين الذي سيحتفل بعامه الـ " 96 " ، وادغار موران الذي سبقهما وسيدخل عامه المئة الشهر المقبل .. يعد ميشيل فوكو الذي يصادف اليوم " 25 حزيران " ذكرى ميلاده ، من بين فلاسفة العالم الأكثر تاثيرا والاقوى حضورا منذ رحيله قبل " 37 " عاما ، كما تشهد كتبه التي يعاد طبعها باستمرار ، والتي جعلت منه كاتبا اسثنائيا من حيث انتشار نصوصه الفلسفية ، وقد حضر بقوة في معرض بغداد للكتاب الذي اقيم قبل ايام ، حيث تسابقت دور النشر على عرض كتبه المترجمة أو الكتب التي تسلط الضوء على افكاره ، واذا كان فوكو قد رحل قبل اكثر من ثلاثة عقود ، فانه يحضر بشكل دائم من خلال كتبه المتميزة ، وايضا بحياته المليئة بالاسرار والالغاز والتي تشكل مادة لكتاب سيرته ، لتقديم الكثير من التأويلات والتحليلات وايضا الانتقادات التي رافقت تجريته الفلسفية .
في الاشهر الاخيرة خرج مثقف فرنسي اسمه " غي سورمان " بتصريح مثير قال فيه أن ميشيل فوكو كان من مؤيدي ممارسة الجنس مع الأطفال ومغتصبا ومارس الجنس مع أطفال أثناء إقامته في تونس في أواخر الستينيات، ورغم اتهام سورمان لفوكو لكنه كتب بعد الضجة التي احدثها تصريحه قائلا: "أنا معجب جدا بأعماله، وأنا لا أدعو أي شخص لحرق كتبه، ولكن ببساطة محاولة فهم حقيقته وكيف استخدم هو وبعض هؤلاء الفلاسفة حججهم لتبرير عواطفهم وميولاتهم. " ، في الوقت نفسه اتهم البعض سورمان بانه يريد الترويج لكتابه " قاموسي من الهراء " وهو سيرة ذاتية ياتي فيها على ذكر الاشخاص الذين تعرف عليهم ومنهم ميشيل فوكو . فيما قرر بعض الكتاب العرب مهاجمة فوكو وخرجت مقالات تعلن " سقوط فوكو " ، ولم تمر عاصفة سورمان دون ردت حيث نشرت مجلة " جون افريك " تحقيقا صحفيا اجرته " فريدة الدهماني " اكدت فيه عدم صحة اتهمات سورمان ، ولان فوكو شاغل القراء والنقاد ، فقد عثرت في معرض الكتاب على اكثر من كتاب له، البعض منها اعادة طبع وبالاخص ترجمات الزاوي بغورة وابرزها كتاب " يجب الدفاع عن المثقفين " ، إلا ان الكتاب الذي اثار اهتمامي وقرأته باستمتاع هو كتاب " فوكو المجنون " للباحث التونسي المتميز " محمد المزوغي " والذي سبق لي ان ناقشت على هذه الصفحة كتابه " التخلص من نيتشه " ، وربما اكتب قريبا عن كتابه " في نقد هايدغر " والذي انتهيت منه قبل فترة . في كتاب " فوكو المجنون " ، يحاول المزوغي ان يقدم صورة اخرى عن الفيلسوف الفرنسي الشهير ، صورة تناقض ما كتبه بعض المفكرين العرب من امثال مطاع صفدي وهاشم صالح ، حيث يقول المزوغي ان فوكو الحقيقي هو اقل جاذبية مما صوره عليه صالح وصفدي ، ويرى ان هؤلاء الكتاب قدموا صورة مغايرة لفوكو ،فهو حسب قوله يحرضنا على قراءة اعماله على انها نابعة من صلب تجربته الشخصية ، وكان فوكو قد اعترف بانه ينتمي الى ذلك الصنف من المفكرين الذين تختلط افكارهم بتصرفاتهم ، وان كتاباته هي انعكاس لما عاشه وجربه في حياته الشخصية . يقول فوكو :" حين اكتب أفعل ذلك خصوصا لتغيير نفسي " . كان احد طلبته قد سأله يوما : هل تعتبر نفسك فيلسوفا ام مؤرخا ، فاجاب فوكو :لا هذا ولا ذاك . يكتب محمد المزوغي وهو يتتبع حياة فوكو بان كل الذين خالطوه ، عبرو عن شعورهم بالحرج من شخصيته الملغزة العصية على الفهم والمتقلبة كثيرا .. المزوغي الذي نتفق او نختلف مع استنتاجاته ، ياخذنا في رحلة ممتعة مع فوكو ومواقفه حيث يخبرنا في نهاية الكتاب ان افكار صاحب " المراقبة والمعاقبة " متهافتة ومشوشة ومتناقضة ، وفلسفته مخيبة للامال بل يذهب ابعد من ذلك فيصف فلسفة فوكو بانها شريرة . الكتاب الآخر الذي عثرت عليه في معرض الكتاب هو " "فوكو في إيران" لبهروز تبريزي " – ترجمه الى العربية علي بدر وفرح شرف ، ولاهمية الكتاب ساخصص له مقالا منفردا . كان فوكو زار ايران زار إيران كصحافي مرتين بين 16 و24 ايلول وبين 9 و15 تشرين الثاني من عام 1978 ، وقد نشر سلسلة من المقالات جمعت فيما بعد في كتاب بعنوان " فوكو صحافيا، أقوال وكتابات" – ترجمه الى العربية البكاي ولد عبد المالك – وينتقد محمد المزوغي انبهار فوكو بالثورة الايرانية ويجد أن المفكر يقع في تناقض صارخ حين يروج لدولة دينية في القرن العشرين ، ساخرا من فوكو الذي يقول :" لقد ابهرتني محاولة فتح بعد روحاني في السياسة " .
منذ ان تعرفت اول مرة على كتابات فوكو في الترجمات التي اشرف عليها مطاع صفدي وصدرت في الثمانينيات ، وبعدها اطلاعي على الكثير من الدراسات والكتب التي صدرت عن هذا الفيلسوف المحير ، وكنت كلما انتهي من قراءة كتاب لفوكو او عنه اسأل نفسي : من هو فوكو ؟ .. هل هو فيلسوف ، ام عالم نفس ، ام متخصص بالطب النفسي ؟ هل هو ماركسي ؟ ام بنيوي ؟ او سيميائي ؟ ، هل يميل الى نيتشه ام يعشق كانط ؟ . يطالبنا في كتابه " حفريات المعرفة ان لا نطلب منه ان يقول من هو ؟ :" أن اكثر من واحد هم مثلي ، يكتبون بلا شك ، كي لا يكون لهم وجه واحد بعينه " . يرفض فوكو ان يوصف بالفيلسوف :" لا أريد ان يطلق علي لقب فيلسوف ، فليس ما افعله فلسفة ، كما انه ليس علماً يمكن ان نطالبه بالبراهين واللأدلة التي يحق لنا ان نطال بها كل علم " .
ينكر علاقته بالبنيويه ، رغم محاولاته لكشف اعمق طبقات الثقافة الغربية ، كتبته تمتليء بعبارات فرويد عن اللاوعي والاحلام والغريزة ، لكنه يقول :" بيني وبين فرويد جدار سميك " .. في كتابه " ميشيل فوكو .. النظرية الاجتماعية بوصفها انتهاكا " – ترجمت قسما منه خالدة حامد – يكتب تشارلز ليمرت :" لا تجعل منه شخصا آخر ، تعلم ان تعيش معه كما هو ، توصّل الى احكامك بعد قراءة الكثير من كتبه " .
من هو فوكو أذن ؟ يجيب فوكو نفسه قائلا :" انا صانع أسهم نارية ، اصنع شيئا صالحاُ وفي النهاية لضرب حصار ، لشن حرب ، للقيام بعمل تخريبي ، لكنني ادافع عن امكانية التقدم ، عن امكانية اسقاط الجدران " ..
يكتب جيل دولوز وهو احد المقربين من فوكو في كتابه :" المعرفة والسلطة مدخل لقراءة فوكو " ان صاحب كتاب الكلمات والاشياء يدفعنا من خلال كتاباته بعيدا عن المالوف ، ولهذا على القارئ ان لا يجعل منه شخصا آخر ، عليه ان يتعلم العيش معه كما هو ، وان يتوصل الى احكامه بعد قراءة كتبه ، فعندها سنفهم الكثير عن مفهوم العقاب في " المراقبة والمعاقبة ، وعن العلوم الانسانية في " الكلمات والاشياء ، وعن التفكك الفلسفي لنظرية السلطة في " تاريخ الجنون " ، وعن الفلسفة الشارحة للمعرفة التاريخية في " حفريات المعرفة ، ونظريات السلطة في " المعرفة والسلطة " وعن الدراسات الادبية لفلوبير ونيتشه وبروست في" اللغة والذاكرة " وعن المجتمع المدني وعلاقة الفرد بالجماعة في " يجب الدفاع عن المجتمع "
ويوصينا جيل دولوز ان كل من لديه رغبة لفهم فوكو عليه ان لا يحوله الى شيء آخر ، بل ينبغي رؤيته من خلال كتبه ، حتى وان كانت صعبة .
قبل 35 عاما وفي الساعة الواحدة والربع بعد ظهر الخامس والعشرين من تموز عام 1984 قطع التلفزيون الفرنسي برامجه ليعلن موت ميشيل فوكو، بمستشفى " لاسالبيتر" في باريس أثر تعقيدات صحية اصابت جهازه العصبي نتيجة لحالة من التسمم في الدم، لم يقل البيان انه مات بسبب ألايدز، لأن معظم المقربين منه لم يكونوا يعرفون شيئا عن طبيعة مرضه، فقد كان يحب الخصوصية، ولم يكن مستعدا لأن يشاركه احد اسرار حياته، في اليوم التالي ظهرت اللوموند وعلى صفحتها الاولى مقال كتبه زميله جيل دولوز بعنوان " موت فيلسوف عظيم: " لقد بدا لي أنه كان يرغب في أن يبقى وحيدا، وأن يسير إلى حيث لا أحد يستطيع اقتناء خطواته، باستثناء بعض من ربطته بهم حميمية، كانت حاجتي إليه أكبر من حاجته إلي ". فيما يكتب جاك دريدا:" أن ميشيل فوكو ورحيله، هو إعادة النظر لما نعرفه عنه، لتفكيرنا عنه، هل نحن نكتب عن فوكو أم عن انعكاسه فينا " ، وارسلت سيمون دي بوفوار خطاباً اكدت فيه ان فوكو كان يمثل صورة ازدهار الحركة الفكرية الفرنسية في القرن العشرين ووضعته الى جانب سارتر وميرلوبونتي ورولان بارت وغولدمان وكامو والتوسير، وتتذكر دي بوفوار أن فوكو كان قد اتصل بها بعد سماعه خبر وفاة سارتر بساعات عام 1980، ورغم الخلاف الذي نشب بينهما – سارتر وفوكو – إلا انه تحدث معها بحب عن سارتر مؤكداً لها ان وفاة فيلسوف الوجودية الأكبر هو ايضا ولادة لافكاره من جديد، وفي النيويورك تايمز كتب الفلسطيني أدورد سعيد: " لاشك ان قراء فوكو سوف يتذكرون انهم عندما قرأوا اعماله للمرة الاولى شعروا بصدمة خاصة عند لقاء هذا المفكر الحاد الشيق، الذي يعرض نفسه في شكل شحنات كهربائية متتالية، وفي اسلوب حساس لايتوفر لكاتب في عمق فوكو وصعوبته ".- نشر المقال ايضا في مجلة الكرمل التي كان يرأس تحريرها محمود درويش -
بعد مرور كل هذه السنوات هل لا يزال ميشيل فوكو مؤثرا في الثقافة الغربية ؟ . في كتاب صدرت ترجمته العربية حديثا عن دار " الكتب خانه بعنوان "فوكو: مقدّمة قصيرة جدّاً" نجد المؤلف غاري غاتنغ يُحاول تقديم صورة تربط بين تجربة فوكو الشخصية وتجربته الفكرية .
ولد ميشيل فوكو في 15 تشرين الاول عام 1926 لعائلة من سلالة البرجوازية الفرنسية، والده جراح مشهور، فيما والدته من اسرة غنية لديها الكثير من الاملاك، كان الوالد صارماً جداً الأمر الذي دفع فوكو أن يتمرد في فترة المراهقة، وحين اختار له الاب مهنة الطب، رفض وقرر ان يتخصص في الفلسفة، فدخل مدرسة المعلمين العالية ليدرس تحت اشراف ميرلو بونتي فلسفة هيغل، فيما كان التوسير يعيد معه ترتيب اوراق ماركس، وكمعظم طلبة الفلسفة تأثر في بداية حياته بنيتشه وسارتر وقرأ معظم اعمال هايدغر، وقد حاول من خلال الجمع بين سارتر وهايدغر ونيتشه وماركس وفرويد، أن يجد طريقة جديدة لاستكشاف جذور الواقع الذي يعيش فيه. اثناء دراسته تعرّض لحالات من الاكتئاب، واكتشف فيما بعد ميوله الجنسية المثلية التي سببت له حالة من الشعور بالذنب رافقته حتى آخر لحظة في حياته، حصل عام 1949 على شهادة عليا في علم النفس، وقد قضى هذه السنوات بمراقبة تصرفات المرضى النفسيين ومتابعة احوالهم، وكان يؤكد لاستاذه التوسير انه يرغب بالتخصص بالطب النفسي، عام 1952 يحصل على منصبه التدريسي الاول، مدرسا لمادة علم النفس لطلبة الفلسفة في مدرسة المعلمين العليا.
العام 1953 يشاهد فوكو مسرحية صمويل بيكيت " في انتظار غودو" يشعر بعد العرض ان المسرحية ساعدته في التحرر من الروح الفلسفية التي سيطرت عليها الماركسية والوجودية، لقد كان ينظر الى المتشردين على خشبة المسرح، وهم يتلقون دروسا عن الموت والحياة والحب.
بعد ان خرج من المسرح كتب مقالاً حماسيا بعنوان " ولادتنا كانت ابرز خساراتنا "، ويكتب الى صمويل بيكيت رسالة يقول فيها:" انني مثلك اصارع الحالة التي تركني عليها العدم ". وفي السنة نفسها قرأ كتاب نيتشه " تأملات في غير أوانها " بعد ذلك بسنوات سيعترف فوكو ان مسرحية " في انتظار غودو " كانت كشفاً ملهما له، أدى به الى قطيعة مع مشهد ثقافي فرنسي كان يبدو أسيراً لتنظيرات سارتر وظلال الستالينية، وقد أوحت له المسرحية بأن يتحرك باتجاه فكري مختلف، رافضا سارتر لأن فلسفته : " لاتزال تحتوي ذلك الافتراض المفلس عن الانسان كموضوع لاحترام الذات "، وسوف يؤكد في اشهر كتبه " الكلمات والاشياء " – صدرت ترجمته العربية عن دار الانماء العربي عام 1989 وشارك به عدد من المترجمين ابرزهم مطاع صفدي - عن الانسان ليست افتراضا يدافع عنه وانما هي عمليات اجتماعية وتاريخية وهي في آخر المطاف نتاج الحضارة الرأسمالية.ويكتب في مقال بعنوان " الانسان الغربي ان : " الكائن البشري لم يعد له اي تاريخ او بالأحرى، فانه يجد نفسه منذ ان يتكلم ويعمل ويعيش قد اصبح متداخلا في نسيج وجوده الخاص مع اكثر من تواريخ، لاهي تابعة له ولا متجانسة معه " ، ويتوصل فوكو الى نتيجة مفادها ان الانسان المعاصر معرض لشكل جديد من الاغتراب، اعمق مما كان يتخيل ماركس او اصحاب مدرسة فرانكفورت: " انه مغترب منذ اللحظة الاولى لوجوده " ويضيف في المقال:" غريب جدا ان لايكون الانسان اكثر من صدع في نظام الاشياء.. ومن المريح جداً والباعث على السلوى الاعتقاد بان الانسان اختراع جديد فقط، تغصن جديد.. وسوف يختفي مرة أخرى " هذا القول اثار استهجان التيار الوجودي الذي اعتبر مقولات فوكو محاولة لدفع الوجودية الى زاوية من زوايا النسيان.
كان نيتشه ايضا بالنسبة لفوكو اشبه بالكشف، لقد صعقته على وجه الخصوص مقالة نيتشه عن معلمه شوبنهور والتي يؤكد فيها ان السعي الانساني هو ان يصبح المرء ما هو عليه، ويجد في مقولة نيتشه ان كل انسان تقوده روح حارسة، وعلى المرء ان يتبع تلك الروح الحارسة . في ذلك الوقت، اصبح فوكو مبهوراً بفكرة الانتحار، ويحلم بالموت العنيف كتحقيق للوجود، في تلك الفترة ايضا سحرته كتابات جورج باتاي، الذي كان يصر على ان:" ما من وسيلة للتآلف مع الموت أفضل من رَبْطِهِ بفكرة داعرة " ، لقد اثبت نيتشه وباتاي ان لديهم مزيجا فلسفيا وفكرياً مناسبا لمزاج فوكو، في ذلك الوقت كان فوكو يمارس الجنس على انه " مسرح إيروتيكي للقسوة "، في العام 1955 يقطع فوكو علاقته مع التعليم، حيث يتم تعينه ملحقا ثقافيا في السفارة الفرنسية بالسويد، وفي هذه السنوات ايضا تبدا القطيعة مع الحزب الشيوعي، لكنه يبقى مخلصا للمعلم ماركس ونراه يعلن:" وداعا للمرجعيات المتماشية مع ما يُعلم في الجامعة "، في السويد يعكف على دراسة المركيز دي ساد، وتراوده من جديد فكرة الانتحار:" ان الحياة الحقة هي التي تنزلق من طرف أنشوطة " وهو يقصد متعة الانتحار شنقاً.
عام 1960 يعود الى باريس ليمارس التدريس استاذا للفلسفة، وفي تلك الفترة تزداد سمعته الاكاديمية بعد ان نشر كتابه الكبير تاريخ الجنون عام 1961، وفيه يحلل كيف تغير مفهوم المجتمع للجنون بعد عام 1500م، قبل ذلك التاريخ يخبرنا فوكو ان المجانين كانوا يعاملون باحترام ويعتبر ان لديهم منظوراً روحيا بينما اصبح الجنون يعامل لاحقاً كمرض يتطلب السيطرة الاجتماعية والعلاج وفي مقابلة معه يقول: " بعد دراسة الفلسفة اردتُ معرفة ما هو الجنون، كنت مجنوناً كفاية لأدرس العقل، وأصبحت الآن عاقلاً كفاية لأدرس الجنون.
في عام 1963 نشر فوكو كتابه ولادة العيادة حيث استكشف مشاكل الانتحار والسادية والمازوشية والمخدرات، الا ان كتابه الأهم الذي اثار ضجة كبرى كان كتاب " الكلمات والاشياء" الصادر عام 1966 وهو اول كتاب بعد كتب سارتر يلقى رواجا كبيرا عند القراء، ويعاد طبعه مرات عديدة في نفس سنة صدورة، وقد خصصت له مجلة الأزمنة الحديثة التي كان يشرف عليها سارتر ملفا خاصا، حيث تم تلخيص الكتاب، الحقته فيما بعد بمقال كتبه سارتر نفسه يهاجم فيه الكتاب:" يقدم فوكو للناس ما هم بحاجة اليه، اي خليطا انتقائيا نجد فيه ألان روب غريبه والبنيوية والألسنيات ولاكان، وقد استخدمت بالتناوب كلها من اجل استحالة اي فكر تاريخي.. لعل المستهدف من كتاب فوكو هو بالطبع الماركسية، ان الامر يتعلق بتشكيل أيديولوجيا فكرية جديدة تكون بمثابة آخر حاجز تقيمه البرجوازية ضد ماركس "
كان سارتر يشعر في قرارة نفسه ان فوكو يحاول ان يضع حدا فاصلا بين عالمين فلسفيين، عالم ما قبل سارتر وعالم ما بعد سارتر واعتبر البعض ان فوكو يحاول ان يحل محل سارتر ويتخذ وظيفته نفسها كقائد للفكر الفرنسي الجديد، إلا ان فوكو وهو يرد على مقال سارتر كان يحاول ان يلتزم حدود الاحترام للاستاذ كما كان يسمي سارتر:" وجدنا أنفسنا منذ نحو خمسة عشر عاما اننا بعيدون عن الجيل السابق، اي جيل سارتر وميرلو بونتي، جيل الازمنة الحديثة الذي كان فيما مضى قانون فكرنا وطرازنا في الوجود.. لقد عرفنا جيل سارتر كجيل شجاع وكريم بالتاكيد ورايناه جيلا مولّها بالحياة السياسية والاجتماعية والوجود، ولكننا نحن فيما يخصنا اكتشفنا شيئا آخر بالتاكيد وولهاً آخر.. انه الوله بالمفهوم، وبما سوف أدعوه بالنظام الضابط.. ان نقطة الانقطاع او القطيعة بيننا وبين سارتر تتموضع في اللحظة التي اكتشف فيها ليفي شتراوس وجاك لاكان، الاول فيما يخص المجتمعات والثاني فيما يخص اللاوعي ".
ولعل نقطة الخلاف بين سارتر وفوكو هي اعلان الأخير في كتابه عن موت الانسان، وقد احدثتت هذه العبارة الكثير من سوء الفهم، ليس فقط عند القارئ العادي وانما عند كبار المفكرين، حيث راح الكثيرون يتساءلون كيف يمكن ان يموت الانسان؟ وهل من الممكن ان ينقرض نهائيا من على سطح الكرة الارضية؟ وماذا يبقى اذن؟ ويتساءل سارتر بسخرية ان السيد فوكو اما يمزح، ام انه قد جن فعلا.
ينهي فوكو كتابه " الكلمات والاشياء " بعبارات شاعرية:" ذات يوم سيختفي الانسان مثل وجه في الرمال على حافة البحر " وتبدو هذه العبارة متوافقه مع نيتشه الذي كتب ذات يوم:" هل نتمنى ان تنتهي البشرية في النار والضوء او في الرمال.
عام 1976 نشر كتابه الكبير " تاريخ الجنسانية " في ثلاث اجزاء ظهر الجزء الاول بعنوان " ارادة المعرفة" ، ونشر الجزءان الثاني والثالث قبل وفاته بايام فقط وفي هذا الكتاب انتقل تركيزه باتجاه فهم الاخلاقيات في سياق تاريخي كيف فهم الناس في ازمنة سابقة أخلاقية تصرفاتهم. وبينما كان في الجزء الاول يبحث في الجنسانية في العصر الحديث، فقد استكشف في الاجزاء الأخرى الجنسانية في اليونان وروما القديمتين وفي المجلد الرابع الذي لم ينشر الا بعد وفاته يعود الى دراسة استخدام السلطة في المجتمع، لانه آمن بان القيود المطبقة على الناس تمنعهم من التعبير عن قواهم، مما يجعلهم يجدون مخرجا لهم في التخيلات الجنسية.
طوال السبعينيات كان فوكو ناشطا سياسيا، وأيد قيام دولة فيتنام، ودعم الثورة في ايران، في الثمانينيات بدات اعراض المرض عليه، وبعد تسليم المطبعة للمجلد الثاني والثالث من تاريخ الجنسانية انهار في شقته ليتم الكشف عن اصابته بمرض الايدز، عند موته وجدوا عند سريره الاعمال الكاملة لانطوان آرتو وقد وضع فوكو تحت هذه العبارة خطا كبيراً: "انا لست من عالمكم.. عالمي هو الجانب الآخر من كل شيء، يعرف، وعلى وعي بنفسه، ويرغب، ويصنع نفسه".
اذا كانت قصة فوكو الشخصية تبدو غريبة ووربما نطلق عليه صاحب الوجوه المتعددة ، فذلك لانه واصل فلسفته الى اقصى مداها المنطقي، وكما يقول جيل دولوز: "فوكو عمل بنصيحة نيتشه أن يصبح الانسان ما هو عليه بكل جدية، أو بمعنى آخر ان يصبح كائناً جوهره، هو إرادة القوة لديه".
في كلمة الرثاء التي كتبها موريس بلانشو يطالبنا بضرورة قراءة اعمال ميشيل فوكو من دون آراء مسبقة .
يكتب إدوارد سعيد :" سواء قُرئت اعمال فكو باعتباره فيلسوفاُ او رجلا لامع الذكاء ، فهذه الاعمال ستحتفظ بتاثيرها المثير والمضاد لاجيال قادمة ، واكبر اسهام ايجابي لفوكو هو انه بحث وكشف تقنيات المعرفة وذاتها ..ولعل الاكثر سخرية ان فيلسوف " موت الانسان " وهي التسمية التي اطلقت على فوكو ، بدا عند لحظة موته مثالاُ على عظمة الحياة الانسانية وشذوذها وفرديتها " .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق