تصنيفات مسرحية

الخميس، 29 يوليو 2021

الأداء المسرحي لمسرح ما بعد الحداثة / أ. د. حسين التكمه جي

مجلة الفنون المسرحية


الأداء المسرحي لمسرح ما بعد الحداثة 

يمكن القول أن مسرح ما بعد الحداثة قد ادخل الأداء التمثيلي للمؤدي في مسالك جديدة , فقد أخضع الأداء لمفهوم العمل الطاقمي أو الجماعي أو التعاوني , وسعى لفتح الورش المسرحية واستوديوهات التمثيل , والإكثار من زمن التمارين وطولها , وهو يفتح أفق لعمل الممثل على كافة الأصعدة , إلا أن ذلك سلب من الممثل نجوميته بعد انصهاره بالمجموعة , ولما كان غياب النص وإقصاء دور المؤلف احد توجهات مسرح ما بعد الحداثة فقد تم توظيف مفهوم الارتجال إلى أقصاه , وهو أمر استمد أساسا من المسرح التقليدي أصلا , كما عمد إلى توظيف البيوميكانيكية , وهو من تقاليد المسرح عند مايرهولد , وعلى هذا الأساس فقد تحول المؤدي إلى استنباط العوامل الروحية والجسدانية وتجليات الروح للجسد "" فان قابلية الممثل للغناء هي الموضوع الرئيسي لأي عرض مسرحي ... فها هو يموت مهما كانت الشخصية ...فهو لا يمثل سوى ذاته ""(5) . بعد أن كان لا يمثل إلا مساحة الشخصية أو الدور , أما المنولوجات التي تلقيها الشخصيات , فهي مزيج من مقتطفات مأخوذة من أكثر من عمل مسرحي لا رابط بينها ..ويمكن أن تسجل أصوات الممثلين على شريط تسجيل وتفريقها , بحيث تبث على عدد من السماعات المنفصلة .
ثم يوجه الأداء إلى توظيف الرقص بجل أنواعه كرقص جزر بالي والرقص التوقيعي والرقص التعبيري والهستيري والرقص الديني للشعائر والطقوس القديمة لبعض الشعوب الأسيوية والشرق آسيوية والهندية ورقص الهنود الحمر "" إن الرقصات وحالات الوجد باعتبارها جميعا مراسيم بدائية تعيد الدراما تشكيلها ""(1) ... ولعل مبدأ الجسدانية والقسوة والهلوسة يرتبط باشتغال عنصر الرقص معتمدا على ثلاث نظريات , كما تشير ( سوزان فوستر ) في كتابها قراءة الرقص , والتي قدم لها عالم الأنثروبولوجيا ( كورت ساكس ) , والناقد ( جون مارتن ) والفيلسوف (سوزان لانجر ) بوصفها "" تقيم تفاعلا بين هذه الحالات البدائية الأولى للتعبير عن المشاعر الإنسانية , وبين الأنماط الحركية المصطنعة التي فرضتها الحضارة فيما بعد .. وترى الرقص وسيلة يمكن تسترد منها طاقة حيوية وإحساسا بالاكتمال والوحدة والانتماء ""(2) .
ولعل هذا المفهوم الفلسفي للعرض لا يتقاطع مع الطاقة , لكنه بالمقابل يتقاطع مع تيار ما بعد الحداثة في الوحدة والاكتمال , فالرقص هنا لا يعدو كونه حركات وإيماءات وإشارات تستنهض جسد المؤدي وتدفعه نحو الهلوسة وتمزيق ذاته في محالة لتجليات الروح للجسد بوصفه طقس , فهم لا يستندون إلى فن البالية أو الرقص التعبيري المحكم أو الرقص الجمالي المحمل بالمعنى والمرتكز على فن الإيقاع , بل أن مفهوم الرقص يحطم الوحدات الإيقاعية والتنبو , فيما ندرك أنه روح العرض المسرحي , مما يؤكد عدم فهم الدلالات التي تنتجها هذه الرقصات,, وترى ( سوان لانجر ) بأن "" الدلالة أو المعنى هي خاصية الشكل ,, وضرورة النظر إلى العمل الفني كشيء قائم بذاته له خصائصه المستقلة "" (3).إن مفهوم لانجر يتعارض تماما مع توجهات الرقص ,إذ أن الشكل ما بعد الحداثة يتهشم ويتشظى بحيث لا يمكن لنا فهم المعنى , بل البحث الدائم عن معنى هو محجوب عنا تماما , أو هو شيء لا يمتلك كيانا ثابتا أو جوهريا واضحا .
إن استدعاء زمن المسرحية , من خلال الطقس والشعائر محاولة لخرق العالم الخيالي ,عالم كما يدعونه
(مقدس) ويقوم المؤدون هنا باستدعاء واستحضار الأرواح في الحدث الطقوسي , أن حدود الممالك المادية والأشكال المادية قد أحالت العرض إلى مكان وزمان ميتافيزيقي خيالي .حتى يمكن القول إننا أمام "" مسرح يعبر عن العالم غير المرئي باستخدام حيل مسرحية مستمدة من العالم المرئي , أما البلاتوهات و موقع الأحداث فكان المشاهد يبحث عن تفسير خاص لها ""(4).
فالطقس المطلوب يوظف التنويم المغناطيس والتعازيم السحرية والهمهمة اللغوية والصرخات تحت تأثير الإيقاعات غير المنتظمة , فما يقوم به المؤدي من أفعال صوتية وجسدية تصب في "" تغير أداء الممثل .. عن طريق قراءة الشخصية من البوتقة لفصل الذات عن الشخصية.. واستخدام الممثلين لحبوب الهلوسة ""(5) وللسبب ذاته أصبح للشخصية ملامح وسمات جديدة تجعل من المؤدي أن يقوم بمعجزات غرائبية لتحرير الروح من الجسد ,أنهم مقتنعون بأن المعجزة والفانتازيا التي تحرر الروح من الجسد, والجسد من الروح , يجب أن تكون في عالم آخر . وتتجلى هذه الروابط الأدائية في عالم الرقص , في محاولة لتفكيك المقاربة الموضوعية للحركة , ليس للواقع بل لمعطيات الجسد الحركية والصورية معا و"" يصمم الرقص الانعكاسي والذي يقوم بتفكيك المقاربة الموضوعية للحركة المرتبطة كنتاج هام , حتى يظهر للجسد قدرة على الكلام بلغات مختلفة "" (6) .
ولعل هذه التوجهات ماضية في الأخذ بفلسفة (نيتشه )على مبدأ العدمية وفقدان القيم والمعنى , وهو ما جعل النقاد ينظرون لفلسفة( نيتشه ) بأنها "" فلسفة فكر بري وما ضوي في آن 
واحد ""(7).ويمكن القول أن الأداء في مسرح ما بعد الحداثة يتعدى الحدود التقليدية , ويستخدم آليات مبتكرة , ويجعل من عمل المؤدي لعب جسداني , أكثر مما هو مؤدي مبدع , ويجعل من الشخصية ذات , قد تتحول إلى آلهة أو تموت أو تحل في جسم أخر , وتفنى في أي لحضه .
(5) فيليب اوسلاندر , من التمثيل الى العرض , المصدر السابق , ص 130
(1) كريستوفر أينز , المصدر السابق , ص 194.
(2) نك كاي , المصدر السابق نفسه , ص 122.
(3) نك كاي , نفس المصدر اعلاه, ص 124.
(4) كولين كانسل , علامات الأداء , المصدر السابق ً 148.
(5) فيليب اوسلاند , من التمثيل الى العرض , مصدر سابق , ص 98.
(6) فيليب أوسلاند , المصدر اعلاه , ص 108.
(7) ابراهيم الحيدري , نقد الحداثة وما بعد الحداثة , مصدر سابق , ص 323.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق