إن الحديث عن الهوية الاحتفالية، ووضعها في إطارها الجمالي، و تعميق الرؤية لهذه الحركة المسرحية بمقوماتها الدرامية و تصوراتها الفكرية و منطلقاتها الفلسفية، و بعدها التمسرحي يقتضي منا مساءلتها ، و الإحاطة بمدلولها الجمالي و قيمها الفكرية، و منطلقاتها الفلسفية التي ملأت الدنيا و شغلت الناس، و أثارت زوبعة من الجدل الفكري و الجمالي و الايديولوجي أفضى في النهاية إلى تخصيب الساحة الثقافية و الفكرية و المشهد المسرحي المغربي و العربي عامة. و لاشك في أن ملامسة حقيقة المسرح الاحتفالي، و جوهر الفكر الاحتفالي يقتضي – بالضرورة- طرح مجموعة من الأسئلة التي نعتبرها مفاتيح لفك مغالق هذه المنظومة المتكاملة تنظيرا و ممارسة و إبداعا .
فما معنى أن تكون احتفاليا؟ و ماذا تعني الاحتفالية؟
هل الاحتفالية مجرد شكل مسرحي؟ هل هي تقليعة أو موضة مسرحية؟
هل هي تقنيات و آليات فنية مغايرة. أم هي رؤية و تصور يستشرف أفقا منفتحا على الفكر و الجمال و الابداع؟
ما هي الأسس الجمالية و المنطلقات الفكرية للاحتفالية؟
ماهي حدود الاستمرارية و القطيعة في الفكر و التمسرح الاحتفالي؟
ما هي حدود الاتباع و مظاهر الابداع في الاحتفالية؟
أين يكمن التجدد في جوهر الممارسة الفكرية و الدرامية الاحتفالية؟
إن الإجابة عن هذه الأسئلة تدفعنا منذ البداية إلى الإقرار بأن الاحتفالية ليست مجرد شكل مسرحي قائم على أسس و تقنيات فنية مغايرة، و هي، بتعبير برشيد، ليست دفوفا و أعراسا، بل هي رؤية فلسفية و جمالية تحمل تصورا جديدا للوجود و الانسان و التاريخ و الفن و الأدب و السياسة و الصراع. و هي بذلك تتجاوز في مدلولها الجمالي و الفكري التنظير المغلق على فن الركح لتنفتح على الفضاء الرحب للحياة و الانسان و الوجود. فالاحتفالية منظومة فكرية و فلسفية تؤسس لتمسرح مغاير، لكنه أصيل يمتلك عمقه من الرصيد الثقافي و الدرامي العربي، و ينفتح على الجذور الافريقية للمغرب، و يمتد للثقافة المتوسطية المحملة بالتراث الموريسكي. إنها نظرية درامية و فلسفية شاملة غايتها الانسان بغض النظر عن أصله و جنسه و لونه، و لغته و دينه. لذلك رامت العودة بالمسرح إلى مظانه الانسانية، و فطرته و نقائه الطفولي، فهي ترفض قولبته في نماذج و أشكال جاهزة تفقده روحه و طبيعته التلقائية. فالمسرح في المنظور الاحتفالي " موعد عام، موعد يجمع في مكان واحد، و زمن واحد بين فئات مختلفة و متباينة من الناس انطلاقا من وجود قاسم مشترك يوحد بينهم داخل فضاء الاحتفال . و بذلك فإن المسرح الاحتفالي يتجاوز الوظيفة الايهامية للمسرح التقليدي ليؤسس لوظيفة أصيلة مغرقة في القدم، و هي الوظيفة التواصلية التي هي الاحتفال البشري، و جوهر الممارسة الدرامية في صيغتها و طابعها الانساني. فالاحتفالية بهذا المعنى تعود بالمسرح إلى طبيعته و جوهره النبيل، و هو التواصل التلقائي بين الذوات من أجل التجاوز و البحث عن الغد و الأفضل.
و إذا كانت الاحتفالية قد رسخت العودة إلى الأصيل و الثابت في الممارسة الدرامية الانسانية، فإنها بالمقابل قد أعلنت الثورة على القواعد و الأشكال السائدة في المسرح المعاصر و رفضت كل تطابق و ظيفي مع الممارسات المسرحية القائمة كالواقعية و الطبيعية و الملحمية، و مسرح العبث، و مسرح القسوة و غيرها من الأشكال و الطرائق و المذاهب و التيارات المسرحية السائدة. فالنزوع التحرري للفعل الاحتفالي ينبذ المعايير الجمالية للمسرح الغربي القائم على معمارية ضيقة و مغلقة " تعتقل العين، و تصادر الخيال، و تسلب الارادة" و تجهز على الفعل، و تكرس الوظيفة الإيهامية بدل التواصلية. و تمعن في الفصل بين المبدع/ الفاعل و المتلقي الذي يتحول إلى مستهلك و منفعل و متلق سلبي.فالاحتفالية تحتاج إلى متلق / فاعل لا يكتفي باستهلاك المادة الفنية ، بل يؤسس من خلال فعله التشاركي ، و انصهاره العقلي و الوجداني و النفسي و الحركي، و انخراطه في اللحظة و المحفل الاحتفالي ليؤسس لبديل مبتغى و منشود، يتجاوز الكائن و يستشرف الممكن.
إن الاحتفالية تعتبر المسرح ممارسة تواصلية إرادية ، فهو تجمع شعبي يقوم على وجود حرية الارادة، و هو احتفال نحياه جماعيا ، نحن ، الآن ، هنا . و ذلك بحس إبداعي تشاركي ينعدم فيه وجود متفرج من جهة، و ممثل من جهة ثانية. و من ثم، فإن المشاركة تقوم على صناعة إبداع تتماهى فيه الذوات، و تتحقق فيه إنسانية الإنسان. و هكذا ، فإن النزوع التحرري يتجاوز المعطى الدرامي ليتأسس على تصور إنساني جوهره و هدفه الأسمى إنسانية الإنسان، و مدنية المدينة . فالغاية من تحويل الإنسان من طابعه الاتباعي و القطيعي إلى إنسان مدني ديمقراطي تواصلي و تشاركي يؤمن بالاختلاف و التعدد و الحوار و التشارك.
فالاحتفال في عمقه " صرخة قوية ضد كل ألوان الاستغلال و القهر، و ضد كل أشكال العنصرية، و التعصب المذهبي و الايديولوجي و الديني و القومي" فهو ضد كل ما يشيء الإنسان ، و يفقده حقيقته المتمثلة في الحرية و العدالة و القدرة و الكرامة ( البيان الثالث ) .
و عليه ، فإن الاحتفالية تتحدد باعتبارها مشروعا تحرريا يستهدف الارتقاء بالانسان ، و يرمي إلى تغيير الواقع المباشر و الآني، و خلخلة الساكن ، و تكسير المألوف و الثابت و تجاوز الجاهز و النمطي، و ذلك برفض الوصاية و الاحتواء المؤسساتي ، و الدعوة إلى مسرح شمولي جماهيري و شعبي و إنساني يقوم على التواصل بين الذوات و التلقائية و الفعل ، و ينهض على حرية الإرادة.
إن هوية الاحتفالية بهذا المعنى هي التجدد ، فهي فعل معرفي و جمالي و إبداعي قائم على الخرق و التدمير و الانتهاك ، فقد فجرت عبر مسارها التنظيري الأسئلة ، و قفزت على الحواجز ، و دخلت في تحد سافر للذات و الآخر . و هي بذلك مارست سلوكا صداميا قائما على الانتهاك الجمالي ، و الخرق الابداعي . و التحدي للذات عبر التمرد على ضعفها و محدوديتها . كما دخلت في صراع مفتوح مع سلطتها المفروضة عليها و التي تمثلها بياناتها و كتابتها و ابداعاتها السابقة .كما انخرطت في مواجهة ضارية مع الآخر مسنودة بقيمها الفنية المتجددة و رؤيتها الدينامية المتحركة . و هي تؤمن بأن العنف الإبداعي و الجمالي " سمة ملازمة للحقيقة و للحركات التجديدية المختلفة " بيد أن عنفها انحصر في طابعه و مسلكه الفني و الإبداعي بما هو عنف قائم على الجدل الفكري و الكتابة النظرية و النقدية و الإبداعية التي تتغيا صوغ أفاق انتظار جديدة و رؤى مخالفة غير مهادنة لواقع ما فتئ يفرز عناصر سلبيته و تراجعه.
لقد كان قدر الاحتفالية أن تنشأ في أواخر السبعينات من القرن الماضي في ظل متغيرات تاريخية و سياسية و ثقافية محكومة بسلطة الانغلاق و التحجر الايديولوجي، و كان قدرها ثانيا أن تحمل جريرة نزعتها الانسانية ، لذلك كانت ضحية غبن في التلقي و مؤامرة استهدفت تحويل الفعل الاحتفالي من ثورة شاملة على التخلف و التبعية و الاستغلال و الذوق الهجين إلى مجرد ظاهرة عابرة و شطحات أسماء تسعى إلى إرضاء نزواتها في التميز و التفرد. و بذلك اختارت الاحتفالية المواجهة و الصراع مع الواقع و الطبيعة و الشرط الانساني في حدوده السكونية و مع أنماط المفاهيم المعلبة و المنظومات المعرفية و الجمالية و الأخلاقية و السياسية الوثوقية و المتحجرة في سبيل بناء احتفالية انسانية شاملة و متجددة. و التجدد في عمقه يفصح عن البعد الثوري في الاحتفالية التي ترفض التدجين و المجاملة و المهادنة و تبني مواقفها على قناعات فكرية و اختيارات جمالية قائمة على وعي نقدي شامل، إن ثورية الاحتفالية قادتها للرفض و المواجهة و الصراع . ذلك أن مواقفها تجسد ثورة على البيروقراطية و الأنظمة الشمولية، و الأنظمة ذات الحزب الواحد، و الاستبداد الحزبي ، و المافيا الثقافية و كل ما يمثل قوى تسلطية من منابر اعلامية و جهات سياسية تحلم بشاعر البلاط، و مثقف العشيرة، من هنا كان منطقيا أن ترفض الاحتفالية ما يسمى " بالعولمة" باعتبارها حركة تستهدف تنميط الانسان ، و سلبه حركية التفكير ، و سمة التعدد ، لصوغه في قالب واحد و شكل جاهز، و تحويله إلى كائن استهلاكي هجين، مسلوب الإرادة ، و فاقد لجوهره الانساني، و طابعه الابداعي الخلاق و المتجدد. لذلك كانت ثوريتها مؤسسة على منطق الصراع و المواجهة، و من ثم تشكلت هويتها و كينونتها المتجددة التي عبرت عن رؤية للعالم، و تصور للمسرح باعتباره مسارح فالمسرح الغربي، في المنظور الاحتفالي ، ليس أكثر من صيغة واحدة للاحتفال، و يبقى أن هناك امكانات بلا حدود لايجاد صيغ و طرائق جديدة و متجددة للاحتفال، و صيغ متعددة للتفكير، و الرؤية للواقع و متغيراته التاريخية و السياسية و الثقافية.
و هكذا يكون الفعل الاحتفالي فعلا ابداعيا قائما على تدمير الجاهز و النمطي ، و انتهاكا فنيا يرسم حدود التجديد ، و يفجر الأسئلة نحو ضفاف أخرى قادمة. بيد أن هذا الفعل يندرج في سياق منظومة متكاملة ، و بالأحرى نظرية شاملة و متجددة تنزاح عن القيم الجمالية الموروثة و المنظور الغربي للمسرح المستهلك المتجاوز لتأسيس رؤية متجددة منفتحة على اللحظة التاريخية و الذات الحضارية و الزمن العربي و الكوني بتحولاته و متغيراته، و المكان العربي بخصوصياته و ملامحه ، و ذلك من خلال المعادلة الثلاثية الأقطاب" نحن، هنا ، الآن" التي تجعل التمسرح الاحتفالي مشدودا إلى انطولوجية الذات و هويتها و خصوصية المكان و الزمان العربيين باعتبارهما جزءا من الذات و مظهرا لعمق الكينونة في علاقتها بالماضي و الحاضر و المستقبل.
و على المستوى الركحي ذهبت الاحتفالية في مسعاها التجديدي إلى البحث عن معيار جديد لكنه، في الآن ذاته ، يستجيب لخصوصية الهندسة العربية ، و يلغي ميتافيزقا الخشبة اليونانية. وهكذا ، فجرت الاحتفالية فضاء العرض / الخشبة و حولته إلى فضاء مفتوح على الساحات العامة و الأسواق و غير ذلك من الفضاءات الشعبية. و هذه الرؤية التجديدية على المستوى السينوغرافي واكبتها تصورات جديدة على مستوى التمثيل و المنظور للجمهور الذي تحول من وضعه السلبي كمتفرج في العرض إلى مشارك و صانع للفرجة / الاحتفال. و هكذا زاوجت الاحتفالية بين الذات الحضارية الأصيلة و اللحظة التاريخية المتجددة، في قالب حداثي يستوعب الكيان الحضاري التليد، و ينفتح على العصر و الراهن بمتغيراته التاريخية و السياسية و الثقافية و الحضارية عامة. و هذا ما يمنح النظرية الاحتفالية هويتها الابداعية و سمتها المتجددة التي عكستها بياناتها الناضجة، و ممارستها الركحية / الابداعية المتميزة. غير أن هذه البيانات و ان امتلكت بعدها المعرفي و الجمالي ، فهي، من جهة ثانية، كتابة عبدية احتفالية تعبر عن وجود استثنائي ، و زمن استثنائي ، فهي عرس الكتابة و عيدها، و بهاء اللفظة و جماليتها ، و بلاغة الكلمة و عنفوانها في المنجز الابداعي و التنظيري و الاحتفالي.
نخلص ، إذن ، إلى أن الاحتفالية ليست ممارسة و شكلا دراميا مستهلكا و عاديا ، بل هي رؤية مستقبلية للمسرح ، و قفزة نوعية على مستوى الممارسة الجمالية و الانجاز الركحي و الرؤية المتجددة للعالم و الكون. فتحية تقدير لرائد الاحتفالية المتجددة ، و تحية للاحتفاليين في ربوع الوطن العربي الكبير، تحية للابداع المنكتب بالروح و الجسد و الكلمات، تحية للابداع الاحتفالي المتألق المتجدد و المجدد.
*ناقد و باحث من المغرب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق