تصنيفات مسرحية

الثلاثاء، 19 أكتوبر 2021

المسرح ونظرية الأنساق الدينامية(2) ترجمة أحمد عبد الفتاح

مجلة الفنون المسرحية 


المسرح ونظرية الأنساق الدينامية(2)


مسرح العقل: 

غالبا ما يستخدم المسرح كاستعارة للعقل. فالعقل يُرى باعتباره منطقة العرض، حيث تنسج عناصر العملية الإدراكية (الممثلون) التصورات والذاكرة والعواطف والمفاهيم معا لتشكيل مسار حياتنا. وفي كتابه «في مسرح الوعي: مساحة عمل العقل In the Theater of Consciousness: The Workspace of Mind» ينقل برنارد ج بارس Bernard J. Baars هذه الاستعارة خطوة إلى الأمام بتطوير نظرية مفيدة وان لم تكن مقنعة تماما تربط الوظائف الإدراكية بتضاريس العقل. ويقسم العقل إلي مناطق المسرح: خشبة المسرح والخلفية وقاعة المسرح. فخشبة المسرح ترتبط بالوعي، وهي المكان الذي يشكل فيه الممثلون – عناصر الفكر – صورا متماسكة ومستمرة تميز الحياة اليومية، وكما يعرف كل مسرحي، فان ما يحدث علي خشبة المسرح يعتمد علي الدعم التقني والتجهيزات التي تحدث خارج خشبة المسرح. وبالنسبة لبارس، فان خارج خشبة المسرح هو مجال اللاوعي، حيث تحدث عادة آليات وقرارات الحياة اليومية خارج وعينا. وعموما لا يحتاج الممثلون أن يفكروا في كلمة أو حركة تالية، فالأدوات حيث يحتاجون إليها، وتتغير الإضاءة دونما حاجة إلي مجهود. ويضع بارس المخرج في خلفية المسرح، حيث تركيز الانتباه والاستجابات الملائمة للظروف. ودور الجمهور، وهو أيضا وظيفة لاشعورية في هذا التكوين ليس مجرد التلقي: 
في الجمهور مجموعة واسعة من الآليات الذكية اللاواعية. فبعض أعضاء الجمهور أنماط تلقائية، مثل آليات العقـل التي ترشد العين أو الحركة أو الكلام أو حركــات اليديــن والأصابع. والبعض الآخر يتعلق بذاكـرة السـيرة الذاتيـة وشبكـات المعـني التي تمثـل معرفتـنا للعالـم، والذاكــرة التوضيحية للمعتقدات والحقائق والذاكـرة الضمنـية التي تحافظ علي المواقف والمهارات والتفاعلات الاجتماعية.
وتجد بقعة الضوء أيضا مكانا في استعارة بارس، للإشارة إلى ما ندركه في أي لحظة. ويحتاج السجل أن ينتبه الممثل إلى التبادل الحواري في كل لحظة، ثم ينقل بؤرة التركيز مع قياس استجابة الجمهور أو التحضير للتسلسل التالي في الأداء. وتستمر تجربة الممثل برغم التغير في التركيز المتعمد. ونادرا ما يعتقد الممثلون أنهم في أي مكان إلا علي خشبة المسرح ويعايشون ما يحدث هناك باعتباره تدفقا مستمرا. وعندما يحدث غير المتوقع فقط – أداة ليست في مكانها، أو سطرا منسيا – يلتفت الانتباه إلى مجموعة جديدة من التصورات وقد تبدو تجربة المكان والزمان مفقودة مؤقتا. 
 تفيد استعارة العقل باعتباره مسرحا في تحديد مختلف مناطق الإدراك، وتحديد وظائفها الأساسية، وتقديم رؤى كيفية عمل هذه المناطق في تناغ. ومع ذلك، فان تحديد كل جانب من جوانب مجاز تنظيم العقل أمر صعب، ليس بسبب عدم وجود مناطق مرتبطة بوظائف إدراكية معينة. فالمشكلة تنشأ بالأحرى لأن أغلب مناطق العقل تعمل في تناغم مع بعضها البعض وتنخرط في وظائف متعددة في نفس الوقت. وتزيد هذه التفاعلات المعقدة من صعوبة الكلام بشكل حاسم عن كيفية عمل العقل. ومع ذلك، فان تحديد مناطق مختلفة في العقل ووظائفها الأساسية هو أمر مفيد. والمناقشة التالية ليست حصرية لأن العقل ببساطة معقد جدا ومتعدد الأوجه. وبدلا من ذلك، فإنها تقدم تضاريس عامة للمناطق الرئيسية في العقل، وتسلط الضوء علي تلك الناطق الأكثر صلة بفن التمثيل. 
 هناك نموذجان معياريان في مناقشة العقل هما التطور والتجنيب. ويحدد التطور ثلاث مراحل تطور: مخ الزواحف، والجهاز الحوفي، والقشرة المخية الجديدة (وهي الجزء المتعلق بالسمع والبصر)، ويميز التجنيب النصف الأيمن من العقل عن الجزء الأيسر. وهنك قيمة في تمييز هذه الفروق، ولكن يجب أن نأخذ في اعتبارنا أن هذه التصنيفات محدودة جدا. والترابط بين المناطق المختلفة واضح جدا لدرجة أن هذه التقسيمات مفيدة فقط لتحديد تضاريس عامة، ونادرا يتم تحديد وظيفة لمنطقة معينة. 
 ويكرر تطور مخ الزواحف أولا، كما يوحي الاسم، النيات التي تظهر في الزواحف، والفقاريات. ويتكون من جذع المخ والمخيخ، ويتحكم في الوظائف  اللاإرادية مثل التنفس ومعدل ضربات القلب ويرتبط بالأنشطة الحسية الحركية والبعد العاطفي لغرائز البقاء علي قيد الحياة مثل القتال أو الهروب. وذكريات التجارب التي تتطلب استجابة انعكاسية متضمنة هنا، وتسمح للحيوان أن يستجيب للمواقف الجديدة بطرق أدت إلي نتائج ايجابية في الماضي. وفي البشر، يمكن ذكر هذا الجزء من المخ، وفي بعض الحالات، تُثبط بواسطة مناطق أخرى حديثة التطور في المخ والتي تنطوي علي التدخل الواعي واتخاذ القرار. وبالعكس، يمكن أن يتجاوز مخ الزواحف عمليات اتخاذ القرار المنطقية، كما في حالة عنف الطريق أو رهاب خشبة المسرح. ارتبط مخ الزواحف بشكل وثيق بالمعلومات من الجسم والدوافع للحركة البدنية. 
 والجهاز الحوفي، وهو المنطقة الثانية التي يتم تطويرها في المخ، تستخدم في البداية لدمج الادراكات الحسية وتنسيق التحكم الحركي في الجسم. وبالتلي لها روابط بجذع المخ والمخيخ. مع أنها طورت أيضا وظيفة أكثر تعقيدا مثل التوسيط والتيسير بين بنيات المخ الفطرية والقشرة المخية الحديثة (المسئولة عن السمع والبصر). ويتكون الجهاز الحوفي من عدد من الأجزاء المختلفة؛ أبرزها الحُصين hippocampus، واللوزة amygdale، والحزامية cingulated، و التلفيف gyrus، والمهاد thalamus. وهي مرتبطة بالاستجابات العاطفية، ودمج الذاكرة طويلة المدى، والعمل الاجتماعي، والذاكرة المكانية، ومعالجة الانتباه. في البداية يعمل علي التغذية الاسترجاعية لوضع الجسم وتوليد المشاعر وضبط الحركة، وهناك تكهنات متزايدة حول دور الجهاز الحوفي في الأداء المناسب للكائن الحي: معالجته للتجربة الحسية والإدراكية الأولية وتسهيل عمليات اتخاذ القرار الإدراكي. ويوجد الجهاز الحوفي في قلب المخ المتاخم لجذع المخ داخل القشرة المخية. 
 وأحدث جزء في المخ هو القشرة المخية، موضع معظم وظائف النظام العليا المرتبطة بالوعي – الخيال واللغة واتخاذ القرارات المعقدة. ويتكون الجزء الأكبر من المخ عدد من القشرات الفرعية (قشرة الحركة، والقشرة السمعية، والقشرة البصرية، والقشرة الجبهية، والقشرة الترابطية .. إلخ) والتي تميز الثدييات عن عالم الأحياء الأخرى. ويتم تقسيم كل قشرة مخية إلي مزيد من مجالات التخصص. فمثلا، تنقسم القشرة المخية البصرية الي ست مناطق (وفي بعض الحالات مزيد من التقسيم) كل منطقة بوظيفة معينة مثل التحديد المكاني أو اللون أو الانتباه أو حركة العين، والقشرة المخية الجديدة هي القشرة التي رأى ديكارت أنها مركز العقل وأنها منفصلة عن الجسم والعواطف. وأتمنى أن أوضح كيف أن هذا التمييز ساهم في المزيد من عملياتنا الادراكية فضلا عن تفسيرها. ومع ذلك، فان القشرة المخية الجديدة هي مكان العمليات التي تسمح لنا بالقراءة والفهم والتذكر والتخطيط وصنع التمازجات أو التداعيات بين الذكريات من مختلف أنواع التجربة. وبمصطلحات المسرح، تلعب دورا رئيسا في تحليل النص، واتخاذ القرارات فيما يتعلق بالشخصية وابتكار سجل الأداء. ورغم ذلك، يجدر بنا أن نكرر أن توظيف القشرة المخية الجديدة يعتمد علي نقل المعلومات وعمل منطقة الزواحف  والمنطقة الحوفية في المخ. 
 والتمييز بين نصفي القشرة المخية الخارجية  الأيمن والأيسر غالبا ما يكون مبالغا فيه. وتشير الدراسات التصويرية لأنماط  التنشيط العصب إلي أن الجانب الأيسر من المخ مسئول عن عمليات التفكير والتحليل العقلاني، بينما الجانب الأيمن مسئول عن الابداع والتوليف والحدس. وأن الوصول إلي استنتاجات من هذا بأن بعض الأشخاص يتميزون بقوة في الفص الأيمن من المخ وآخرين يتميزون بقوة في الفص الأيسر منه يضخم بشكل صارخ الديناميكية. فنصفا المخ مترابطان، ويحجبان الحدود بين العمليات الذاتية والموضوعية ويربطانها بشكل حاسم في تركيب وتنسيق مختلف العمليات. وفي نفس الوقت، فان نصفي المخ متماثلان وترتبط مختلف مواقعهما بمختلف الوظائف. أما بالنسبة لأجزاء المخ الأخرى فان هده الفروق ليست نهائية. فعلي سبيل المال يرتبط الفص الأيسر من المخ باللغة عند الغالبية العظمى من الناس، ولكن هناك حالات مهمة لنشاط الكلام من الجانب الأيسر أو حتى كلا الجانبين. ولذلك، بجانب الأدلة التي تدعم التمايز بين فصي المخ، هناك حاجة للتقدير المرن لبدء فهم نشاط معقد مثل التمثيل. 
 خلال التدريبات والعروض يستنتج الممثل باستمرار قدراته التحليلية ومهارته في الارتجال، وتكثيف المشاعر، واستعادة الذاكرة. وتحتاج هذه العمليات المعقدة التناغم بين أكثر من منطقة في المخ، ولكن التضاريس سوف تكون مفيدة في تحديد الأدوار التي تلعبها المناطق المختلفة في التمثيل. ومع مراعاة هذه التضاريس، سوف نحول انتباهنا إلي النظرية التي تحدد كيف تسمح لنا التفاعلات بين أجزاء المخ المختلفة أن نوظفها في العالم وعلي خشبة المسرح .. ورغم ذلك، سوف يتم تقديم عناصر النظرية قياسا علي الأداء المسرحي.  

نظرية الأنساق الدينامية والموجات 
التحدي الذي يواجه أي نظرية في المخ هو تشكيل الكيفية التي تعمل بها الشبكات العصبية في مناطق مختلفة من المخ بشكل متناغم، مما يسمح لنا أن نعمل في العالم وننخرط في التفكير المجرد. والحقيقة هي أنه لا أحد يعرف حتى الآن كيف توظف الشبكات معا، وأن أي محاولة لتطوير نموذج يقوم علي التخمين بدلا من الحقيقة العلمية. ولعل أحد الاتجاهات الواعدة لفهم التفاعل الادراكي المجسد هو نظرية الأنساق الدينامية، وهو مفهوم يقوم علي فكرة المعالجة المتوازية وظهور فعاليات المحرك الحسي والتمثيلات الواعية من خلال تكامل المدخلات والمخرجات من مختلف مناطق المخ. 
 نظرية الأنساق الدينامية ليست ثمرة العلوم الادراكية، ولكنها مجموعة من الصيغ الرياضية المصممة لشرح الظواهر التي تحدث في العالم المادي، مثل الأنماط تتشكل عند تسخين سوائل معينة  لدرجة الغليان. تصف الصيغ أيضا كيف تشكل الأنساق غير الخطية تحديا لنماذج السب والنتيجة الخطية. وأعتمد علي أعمال ثلاثة باحثين في مجالات مختلفة لمعالجة هذا التحول في التفكير حول الإدراك: ايفان طومسون أستاذ الفلسفة المتخصص في الفينومينولوجيا، ومارك لويس أستاذ علم النفس التطبيقي، و ج .سكوت كيلسو أستاذ الأنساق المعقدة وعلو المخ. ويعمل هؤلاء العلماء الثلاثة بشكل منفصل ولكن بالاعتماد علي عمل كل منهم الآخر، ويقدمون الأدوات اللازمة لفهم كيف تكن نظرية الأنساق الدينامية مفيدة في نمذجة العمليات الادراكية. وسوف يلي تعريف الأنساق غير الخطية مخطط تفصيلي للمفاهيم الرئيسية لنظرية الأنساق الدينامية وكيف توضح لنا هذه المفاهيم فهمنا للمخ/العقل/ الجسم / العالم المعقد. وفي هذه العملية أتمنى أن أوضح الكيفية التي تقدم من خلالها نظرية الأنساق الدينامية أساسا ماديا للتجريدات الفلسفية المقدمة في هذا المقال. 
 الممثلون، ولاسيما في مقاربات التمثيل الواقعية، يركزون علي تطوير سجل تمثيلي يقوم علي فكرة السبب والنتيجة. A يفعل ل B، و B يفعل ل A . 
وبينما يدرك الممثلون الظروف الأخرى التي تمس بينية السرد، فانهم يقبلون أن تكون هذه المعادلة هي النموذج المناسب لفهم السلوك. وبالمثل، نخلق في الحياة اليومية سرديات خطية للأحداث، علي الرغم من أننا نواجه دوافع مركبة تجعل سرد القصة غير ملائم. أو نعتقد أننا نفهم الدافع لحدث لكي يكتشفوا فقط أن هناك تأثيرات لا يعون  بها. وبهذه الطريقة هناك تأثيرات مماثلة لأعمال العقل. وقد افترضت نظريات الإدراك الحاسوبية المبكرة أن الذاكرة يتم تخزينها مثل مجموعات الأرقام الثنائية (البايت) علي القرص الصلب ويمكن استرجاعها في المحاولة التالية للخلايا العصبية. من الواضح أن هذا النموذج غير دقيق. ونظرية الأنساق الدينامية – أو أنساق التنظيم الذاتي، أو غير الخطية – تقدم بديلا يدرس بشكل أكثر دقة تعقيد التجربة، علاوة علي كيف يصل العلماء إلي فهم توظيف المخ. 
     يميل النسق الخطي إلي الانغلاق، بمعنى أن المنبه يطلق تسلسلا يتحرك علي طول المسار، لكي يُعاد توجيهه عند تقاطعات معينة أثناء تحركه نحو وجهة نهائية مثل الفعل أو استعادة الذاكرة. ويوازي هذا النموذج بنية البرهان المنطقي المعياري، الذي يتحرك من نقطة إلي أخرى نحو الاستنتاج، ويأخذ في اعتباره التحديات التي تقدمها وجهات نظر بديلة لرفضها. وهناك مساحة صغيرة جدا للارتجال أو لتغيير اتجاه المسار في منتصف الطريق. والحركة الكلية في الأنساق الخطية هي من الاثارة (اضطراب الحالة المستقرة) الي التوازن. بعبارة أخرى، تتبع الأنساق الخطية البنية السردية النموذجية للبداية والوسط والنهاية. تجادل نظرية الأنساق الدينامية ضد الشكلية الأنيقة لعمليات التمثيل الادراكي هذه. وبدلا من اتباع بنية محددة، فان النسق المفتوح هو التنظيم الذاتي : أي أن الاستنتاجات وأنماط السلوك تنشأ من نظام يكون دائما في حالة عدم توازن. ويؤدي تدفق المحفزات إلي زعزعة استقرار النسق، مما يؤدي إلي التعبير عن استجابة لأفعال أو صور أو مفاهيم ذات صلة بالموقف، ولكنه لا يعود إلي حالة ثابتة من التوازن المسبق. وتمنع الاثارة الأخرى النسق من العودة إلي التوازن . وربما يترك ناتج التجربة الادراكية انطباعا دائما (بناء الذاكرة طويلة المدى) أو يتم نسيانها بسرعة. وبغض النظر، فان هذه الحالة غير مستقرة ولكنها تتعطل بسبب الآثار الجديدة التي تؤدي إلي استجابات جديدة في عملية مستمرة. فأثناء الكتابة يتم فعلا صياغة فكرتي الثانية، مما يؤدي إلي العبارة التالية التي أكتبها أو تؤدي إلي عدم اليقين. فما يظهر عندما تخونني الكلمات هو الاحباط من عدم معرفة التالي. وهذا الشعور لا يتبدد فحسب، بل يزيد من اضطراب النسق، حيث أجد صعوبة في صياغة الكلمات التي ستوصل إلي ما أريد قوله. ويقول لويس عن نظرية الأنساق الدينامية : “يشير النظام الذاتي، المحدد علي نطاق واسع، إلي ظهور نماذج وبنيات جديدة، وظهور مستويات جديدة من التكامل والتنظيم في البنيات القائمة، والانتقال التلقائي من حالات الترتيب الأدني إلي حالات النظام الأعلي. وفي مرحلة ما يتم استبدال الشكوك باليقين، وهذا النظام الأعلى، بالنسبة للممثلين، يمن أن يكون فهم الفعل الذي يتطلب الأداء أو يصل إلي التعامل مع علاقات الشخصية.  
 ربما يتم التعامل مع مع تعقيد تداخل الوظائف الادراكية في نظرية الأنساق الدينامية مع التفاعلات الاجتماعية والثقافية بشكل غير مباشر من خلال القياس مع الأداء الذي طوره المسرح القوي في بريطانيا العظمى. وعرض « الأمواج « المقتبس من رواية فرجينيا وولف التي تحمل نفس الاسم عام 1931 من اخراج كيتي ميتشيل بالاشتراك مع ستة ممثلين وفنان الفيديو ليو وارنر عام 2006. 
 ورواية وولف تحكي قصة ستة أصدقاء هم سوزان و جيني ورودا ولويس وبرنارد ونيفيل، الذين شبوا معا، وابتعدوا عن بعضهم لبعض بمرور الزمن، ويعودون من حين لآخر لاحياء العلاقة التي كانت بينهم من جديد. يدور السرد الذي يروى كسلسلة من المونولوجات الداخلية حول بيرسيفال الذي لا نعرفه الا من خلال أوصافهم الذاتية. وبيرسيفال شخصية مثالية تدخل حياتهم في المدرسة ويبدو أنه يحمل المستقبل بين يديه ولكن يتم ارساله إلي الهند حيث يسقط من فوق الحصان ويموت. يحزن الستة أصدقاء لفقدان رمز الربيع والاخصاب هذا ولكن يتضاءل ذكرهم له مع وصولهم إلي منتصف العمر وانشغال كل منهم بحياته. يعكس التأثير غير المقصود لبرسيفال علي الشخصيات ظاهرة المد والجزر : فالتعرف عليه مثل الأمواج التي تصل إلي أعلى الشاطئ عند ارتفاع المد، وهو الأمر الذي بلغ ذروته في حفل العشاء الذي أقيم علي شرفه عند سفره إلي الهند وموته اللاحق وتلاشي ذكراه هو انحسار الأمواج نحو المحيط. ويتردد صدى هذا التتابع من خلال متواليات زمنية أخرى في الرواية. فكل فصل، يبدأ مرحلة جديدة في حياة الشخصيات الست، يبدأ بوصف التغير في الفصول والضوء الذي يلون الأمواج وهي تندفع نحو الشاطئ. وفي نفس الوقت، قصة حياتهم تساوي يوما واحدا، ويعكس ايقاع السرد تقلبات في طاقة الحياة : حيوية الطفولة تعني الصباح، والتقدم في العمر يعني المساء. وتتوازى الكثافة التي تضرب بها الأمواج الشاطئ في بداية كل فصل مع الكثافة العاطفية للشخصيات، فأحيانا تضرب بشغف وفي أحيان أخرى تدور برفق أعلى الشاطئ. 
 تمتزج ايقاعات الحياة، عند فرجينيا وولف، بايقاعات العالم الطبيعي، وتميز بنية شاملة (مثل فترة طويلة من التاريخ) تستمر علي الرغم من التقلبات الوجودية – الحب والغيرة والفقد – التي تحدد لحظة تأرجح الحياة اليومية وتشكيل الأبدية التي تميز الشعور بالذات. ومن تشابك هذه الايقاعات تبرز سلسلة من الانطباعات التي تدحض حتمية مخبأة تحت صخب الحياة اليومية. وبالنسبة للقارئ تظهر هذه الأنماط ببطء، ويصبح الفهم الشامل واعيا من خلال التوتر بين ما يتكرر وما هو جديد، ومن الانفصال بين الحياة البشرية والأحداث الطبيعية. وبقراءة الرواية نمضي قدما فيما نقرأ بينما نواجه ما هو جديد، فالأول يقدم اطارا، والثاني يعدل فهمنا الناشئ. فمن خلال عملية تكرارية يتحقق المعنى ويتكون في حياة الشخصيات الست التي تتجلى في رواية وولف. 
 وفي عرض « الأمواج « الذي قدمه المسرح القومي يواجه المتفرج شاشة كبيرة تغطي أغلب خشبة المسرح علي بعد اثني عشر قدما تقريبا من حافتها. وأمام الشاشة طاولة طويلة بثمانية كراسي، وبضعة ميكروفونات، ومصابيح معقوفة قابلة للتعديل. وهناك أربعة صناديق أسفل الكواليس علي اليمين واليسار، بمقاس ثلاثة أقدام وعمق بوصتين. ويوضع ميكروفون بحامل في أحد الصناديق علي كل جانب من خشبة المسرح، بينما تحتوي الصناديق الباقية علي مواد طبيعية، مثل الحجارة، والعشب والقاذورات. وتحيط بخشبة المسرح رفوف تحمل الأدوات لاستخدامها أثناء العرض. يدخل الممثلون في الظلام ويجلسون علي الكراسي، بينما يعرض فيديو شريط الشاطئ، وقد تم تصويره بكاميرا ثابتة، مصحوبا بصوت اصطدام الأمواج. وبينما تضاء خشبة المسرح، يجلس أحد المملين أمام الميكروفون، ويده سيجارة وهو يرتل مقدمة وولف للفصل الأول من الرواية – وهو نموذج يتكرر طوال العرض. وهذا هو الفيديو المسجل الوحيد، والباقي يتم ابتكاره علي خشبة المسرح أثناء العرض. 
     اختارت الفرقة أحداثا من الرواية ورتبتها في تتابع يتميز بالأنشطة اليومية البسيطة، ثم قسمتها إلي مهام منفصلة مطلوبة لنقل القصة للجمهور. وعند تجسيدها، يتم تجميع هذه المهام في بث مباشر بالفيديو يُعرض علي الشاشة الرئيسية. ينم تحديد كل جزء بزمان ومكان، ومعلومات موضحة علي سبورة موجودة علي يسار خشبة المسرح. يحمل ممثل أحد المصابيح المعكوفة لكي ينير السبورة، بينما يصور الممثل الثاني الممثل الثالث الذي يكتب المعلومات عل السبورة. ويجلس الممثل الرابع أمام الطاولة أمام الميكروفون، مبتكرا صوت الطباشير الذي يحتك بالسبورة ثم يفرك المكنسة بيده لكي يخلق صوت الكتابة. ويشهد الجمهور في نفس الوقت الممثلين وهم يبتكرون الفيديو والصور التي ولّدوها علي الشاشة الكبيرة. يستمر التذكير بالعرض بطريقة مماثلة، علي الرغم من أن الصور عادة ما تكون أكثر تعقيدا. 
 يسير نيفيل ورودا في شارع ممطر، بينما يقرأ الراوي مقاطع عن الحدث في رواية وولف. يقف الممثل الراوي أمام ميكروقون عل يمين المسرح، بينما يرش باقي الممثلين رذاذ الماء علي أرضية المسرح في اليسار، بحيث يقدمون انطباعا بالرصيف المبلل. يحمل ممثل آخر احدى اللمبات لخلق ايهام بأضواء الشارع التي تلمع علي الرصيف المبلل. بينما يصور ممثل ثالث الحدث ويركز علي الأقدام بينما يسير الآخران، ويقفان، ثم يستمران في طريقهما عبر الشارع. ومع ذلك يضيء ممثل آخر المشهد بمصباحين ليوحي بمرور سيارة. يكون لدي المتفرج خيار مشاهدة ابتكار المشهد، وانعكاسه علي الشاشة في خلفية المسرح أو تحويل انتباهه من أحدهما إلي الآخر .
 وفي مشهد آخر، تنظر الممثلة التي تجسد دور جيني في المرآة وهي تفكر في غياب لويس. وبينما تنظر، يظهر أمامها في المرآة، يطل في ذكرى شبحية من فوق كتفيها. يحمل ممثل مرآة ثنائية، بينما يضيئها آخر من الأمام، مبتكرا رد فعل فتاة. في اللحظة الصحيحة في السرد، الذي يقرأ بميكرفون علي الطاولة، ويظهر الممثل الذي يلعب دور لويس في الضوء من خلف المرآة، يجعل الذكرى التي تتحدث عنها الممثلة مرئية. وكا هو معروض علي الشاشة، فان الايهام دقيق جدا. 
     الطبيعة الانطباعية للقصة والبنية المجزأة للعرض ربما تبدو انفصالية وغير موصلة لعواطف قوية. ورغم ذلك يستمر العرض ويعتاد المتفرج علي الطريقة  تتجمع من خلالها الصور، ويكتسب المسار العاطفي للعرض كثافة. وعند النهاية، والشعور الذي نعايشه قوي للغاية وغير متوقع. فقد كانت العواطف حاضرة دائما، ولكن لا يوجد وقت لتقويمها تماما. فهي متضمنة في الحدث، ولكن ذلك فقط من خلال تراكمها عبر الزمن بحيث نشعر بتأثيرها الكامل. وهناك شعور بحزن أقل عند موت برسيفال أكثر من الحزن لفقدان الشباب والبعد الذي يضعف العلاقة الحميمة بين الصداقات. فوجود المشاعر يرجع جزئيا إلي السرد وجمال لغة وولف، ولكن هناك أيضا شيئا عاطفيا في النشاط الدقيق والهادئ علي ما يبدو لانشاء تسلسلات الصور التي توفر نقطة مقابلة للحزن والشعور بالفقدان. 
 يستخدم عرض «الأمواج «، مثل رواية وولف صيغ البنية والتأطير لكي يفحص العلاقات المتغيرة بين الشخصيات. فوولف تمزج ذكرياتها عن تغير المد والجزر والفصول بانطباعات شخصياتها في حياتهم الخيالية لكي تخلق مزيجا غنيا من السرد والتصوير الاستعاري. وتستخدم كاتي ميتشل وأعضاء فرقة المسرح القومي من الممثلين التجاور كصيغة شكلية، ولكن عند الانتقال من الوسيط المطبوع إلي الفيديو، يتحركون من التدفق الأفقي للغة إلي الأنية العمودية للتمثيل المسرحي. وبقدر ما يدرك المتفرج الحركة في كل فصل، فانهم يكونون علي دراية بكيفية تجميع السرد. ويرون كيف نزيل الفرقة ضغط اللحظات السردية، وتقسيمها إلي أنشطة أساسية، ويختارون من بين الاحتمالات التي لا تحصى أفضل وسيلة لخلق صورة لنقل مغزى اللحظة. ولا توفر هذه الصيغ فقط رؤية ثاقبة حول كيفية تأثير الرواية والعرض علينا، بل تقدم أيضا نموذجا للعمليات الابداعية لفنانين مختلفين. وسوف نركز هنا علي العرض المسرحي، حتى لو لم يكن دقيقا تاريخيا، لأن مناقشة كيفية اعداده توفر لنا استعارة مفيدة لأعمال العقل كنسق دينامي. 
..............................................................................
جون لوتيربي  يعمل استاذا بقسم المسرح والأداء المسرحي بجامعة واشنطون – الولايات المتحدة الأمريكية. 
هذه المقالة هي الفصل الثاني من كتابه « نحو نظرية عامة في التمثيل Toward a General Theory of Acting  « الصادر  عن دار نشر Palgrave , Macmillan .

-----------------------------
المصدر : مسرحنا العدد 734 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق