تصنيفات مسرحية

الجمعة، 1 أكتوبر 2021

جماليات المسرح البديل

مجلة الفنون المسرحية 


جماليات المسرح البديل

عيد عبد الحليم - مسرحنا

تشهد الحركة المسرحية في مصر الآن ازدهارا من نوع خاص، يقوم على أفق تجريبي من خلال مجموعة من شباب المؤلفين والمخرجين والممثلين والفنيين، الذين يحاولون إثبات النظرية القائلة بأن “المسرح ضرورة ومتعة في آن واحد”.

وهذا التجريب ليس ضربا في الفراغ أو شكلا هلاميا بل هو مراوحة بين الواقع والرؤية، من خلال بث روح التمرد الفني على خشبة المسرح ولاستنطاق جماليات النص المكتوب، من خلال ابتكار طرق جديدة في الأداء المسرحي والديكور والسينوغرافيا والإضاءة وغيرها من الأدوات المسرحية.
ولعل هذه الطفرة هي ما جعلت أحد كبار كتَّاب المسرح العربي وهو الراحل ألفريد فرج يقول في أحد الحوارات التي أجريت معه “بأن المسرح المصري يمر ـ الآن ـ بأفضل فتراته” على الرغم من وجود فترة تاريخية مهمة للمسرح وهي حقبة الستينيات التي شهدت مسرحيات يوسف إدريس وعبدالرحمن الشرقاوي ونجيب وسرور وميخائيل رومان ومحمود دياب.
وعلى ما أعتقد أن هذا التميز أتى من وجود مجموعة من الفنانين الذين استفادوا ـ كثيرا ـ من المنجز المسرحي العالمي والعربي وأرادوا أن يدخلوا الإنسان بجوهره وخارجه، بجسده وروحه وقضاياه الاجتماعية والسياسية والنفسية داخل بنية العرض فأصبحت لغة الشارع والمهمشين وأحلام البسطاء وأغانيهم هي ما يؤطر لغة الأداء ويضفي أبعادا شعبية على الديكور والسينوغرافيا، فكأن “يد الله أدخلت ـ هؤلاء ـ في التجربة” على حد تعبير الشاعر الراحل أمل دنقل.
ونرى عبر هذا التلاحم والتمازج والتقارب بين ما هو عام وما هو خاص أشكالا متنوعة للتعبير تتراوح بين المسرح الجسدي الذي يعتمد أعلى الأداء الحركي للممثل مع تنحية البعد الصوتي والخطاب اللغوي، حيث تتحول مركزية الحضور المسرحي من اللغة الكلامية المنطوقة إلى مسرحة الجسد وحده عبر أداء ارتجالي أحيانا، أو عبر نص مؤلف في أحيان أخرى.
وتأخذ هذه اللغة الحركية شرعيتها من تعبيرها عن العقد السيكولوجية التي يحياها الإنسان في العصر الحديث، وتأتي من خلال طريقتين للأداء إما بالرقص أو الإيماء كبديل موضوعي عن لا جدوى اللغة المنطوقة.
وبين الإطار الثاني للتجريب وهو “المسرح تحت الأرض” أو “مسرح مترو الأنفاق” “مسرح المقهورين” حسب تعبير “أوجيبتسو بوال” الذي يهدف من وراء نظريته هذه أن يكون العرض المسرحي تظاهرة تجعل من المتفرج عنصرا أساسيا وفاعلا في بنية الأداء المسرحي فالجمهور يشاهد المشكلة التي يطرحها النص، وتتماس مع واقعه الاجتماعي والسياسي والاقتصادية ويتدخل ـ في أحيان كثيرة ـ لإيجاد حلول مرتجلة تتوازى مع النص المعروض تكون عبارة عن مشاهد متداخلة يشارك فيها المتفرج، وهي طريقة أعتمد عليها كثيرا “بيتر بروك” في أعماله المسرحية المختلفة، بحيث يصبح الحدث في مواجهة الجمهور وجها لوجه في مرآة واحدة ينظر كل منهما للآخر فيما يمكن أن أطلق عليه “أنسنة الحدث” أو “حدث الأنسنة”.
وهي طريقة في الأداء تستكشف مناطق جديدة في الكتابة والاقتراب من ثقافة الآخر، من خلال حشد عدد هائل من الوسائل الفنية المتناقضة التي يكون الهدف منها في الأساس التودد إلى المتفرج لكي يكون مشاركا في العمل الدرامي.
وعلى حد تعبير بيتر بروك “المشكلة ترجع مرة أخرى إلى المتفرج: “هل يود أن تغيير في شروطه؟ هل يود أن يغير شيئا في نفسه في حياته؟ في مجتمعه؟، إنه بحاجة إلى الأثر الذي يخدش، وإلى أن يبقى هذا الأثر ولا يزول”
***
وإذا كان المسرح ـ عبر تاريخه الطويل ـ قد أعتمد على عنصرين فنيين في التجديد هما تنوع طرق الأداء التعبيري وعملية التلقي المتصاعد من قبل الجمهور مما نتج عنه سقوط الحواجز في علاقة تبادلية أنتجت أنساقا جديدة تعتمد على مسرحة فضاءات جامدة مهملة لم تكن مستخدمة من قبل في العرض المسرحي من أجل تثوير الوعي الغائب وإعطائه إمكانيات للحضور لم يأخذها في فترات سابقة، مع تكثيف الجانب الهامشي وإدخاله في متن العمل الفني لتصل في النهاية هذه العملية إلى المراوحة بين ما يريده الضمير الجمعي والوعي بآليات الفن، وتأتي هذه المراوحة من خلال كسر الثنائية المركزية للنص “الكلام والجسد” وهي ثنائية كانت تعطي للنص المكتوب الأولوية الأولى نظرا لأن المسرح ـ عرف منذ نشأته ـ بأنه “فن تقديس الكلمة”، وكان الفعل الحركي/ الجسد ـ رغم أهميته في إنتاج الدلالة هامشيا ومحفوفا بالمخاطر، وإن عُبر عنه ـ كما في المسرح التجاري ـ على سبيل المثال ـ كأداة للعرض والاستهلاك، وهو مفهوم ظهر منذ بداية السبعينيات نظرا لسيادة الثقافة الاستهلاكية وتغليب كل ما هو مادي وتغييب كل ما هو قيمي وروحي، ومن هنا أصبح الجسد الاستهلاكي بطلا لكثير من العروض.
وقد بات أمرا ملحا إيجاد علاقة توافقية تعبر عن المسكوت عنه في هذه الجدلية الشائكة، مع المحاولة بالخروج بالجسد من دائرة الاستهلاك إلى دائرة الأداء الحركي المعبر عن عذابات الإنسان المعاصر ضد قوى الهيمنة الخارجية وسطوة الآخر، من أجل إيجاد مساحة للذات أن تبوح بمكنوناتها. وأصبح تفتيت النص مقابل تكامل الدلالة هو الأهم في إنتاج مسرح بديل مختلف يتحرر من مركزية التقنية الفنية ليطرح أشكالا مغايرة تتضافر فيها أطروحات سياسية واجتماعية ووجودية.

جماعة المسرح الحر
وإذا كانت فكرة المسرح الحر قد بدأت في مصر مواكبة لثورة يوليو 1952 كنتاج طبيعي للتغييرات الهيكلية في بنية المجتمع المصري، فقد تكونت أول فرقة في سبتمبر 1952 وهي “فرقة المسرح الحر” التي أسسها مجموعة من خريجي معهد الفنون المسرحية كان من بينهم “سعد أردش وإبراهيم سكر وكمال ياسين وعبدالمنعم مدبولي وصلاح منصور وتوفيق الدقن وزكريا سليمان وغيرهم” بعد أن رفضت الفرقة القومية أفكارهم الجديدة نتيجة سيطرة الفكر الفني الكلاسيكي على معظم أعضائها في ذلك الوقت.
وقد ذهبت الفرقة إلى تقديم عدة أعمال اتسمت بالوطنية ـ في البداية ـ مثل “الأرض الثائرة”، و”الرضا السامي” عام 1953، وفي محاولة منها لاستلهام مفردات الواقع الاجتماعي في مصر قدمت عدة مسرحيات اجتماعية تختلف في أدائها عن الميلودراما التي روجت لها الفرقة القومية وبعض الفرق المسرحية الخاصة آنذاك.
كانت تلك المحاولات إيذانا وتمهيدا لميلاد حركة مسرحية جديدة مغايرة ظهرت نتائجها بعد ذلك في الستينيات التي أرى أنها أعلى فترات إنتاج النص المسرحي في تاريخ المسرح المصري عامة بداية من مسرحيات الفصل الواحد التي كتبها نعمان عاشور مثل “عفاريت الجبانة” و”صوت مصر” لألفريد فرج و”معركة بورسعيد” لعبدالرحمن خليل، ثم المسرحية السياسية والاجتماعية التي برع فيها يوسف إدريس وميخائيل رومان ومحمود دياب ولطفي الخولي، والمسرح الشعري عند صلاح عبد الصبور وعبدالرحمن الشرقاوي ونجيب سرور وإن جاء عند الأولين مستمدا جذوره من التراث الإسلامي والصوفي، وعند الأخير من الموروث الشعبي.
وكانت هذه المحاولات خروجا عن المعيار الكلاسيكي الذي أرسته “الفرقة القومية المصرية للتمثيل” التي تأسست عام 1935 ـ وكانت أول فرقة تدعمها الدولة ـ وكان أول عروضها مسرحية “أهل الكهف” لتوفيق الحكيم، وقد لاقت عروضها استحسانا من كبار المثقفين أمثال طه حسين، وجاء هدفها الأساسي إعلاء لشأن النص المكتوب على حساب فنون الأداء حيث جعلت من النص مطلقا لا يجب المساس به، في مقابل تهميش الفعل المسرحي وجعله نسبيا.
وقد عانى فن التمثيل المسرحي في مصر ـ على حد تعبير د. نهاد صليحة ـ وخاصة في حالة المرأة من هذه “الشيزوفرينية” إلى فن المسرح فتحول التمثيل المحترم أو “الجاد” إلى نوع من الخطابة، وكان على الممثلة المحترمة أن تلتزم بشفرة تعبير جسدي محدودة ومقيدة ساهمت في فرضها طبيعة الأدوار المفروضة عليها، والتي كانت تختزلها في العادة إلى فكرة أو رمز أو نمط اجتماعي.
وقد ظلت فكرة “المسرح المحترم” مرتبطة بمنظومة أخلاقية ذكورية النزعة، أخذت بالأداء المسرحي إلى حالة من الإقصاء الفني، مما أوجد فنونا بديلة أوجدت مجالات إبداعية لإخراج الطاقة الجسدية للمرأة مثل الرقص الشرقي، كبديل غير موضوعي على اعتبار أن الراقصة في الكباريه في ذلك الوقت ـ كانت رمزا للخلاعة والجون.
وهذه النظرة ـ غير العادلة ـ هي بنت النظرية الأرسطية الكلاسيكية التي ترى المرأة كشخصية درامية، بأنها من ضمن “فئة تابعة متدنية”، وقد أخذ المسرح العربي في بدايته بتلابيب تلك الثقافة الأبوية الجاحدة التي ترى العالم بعين واحدة، والتي تكرس للسلطة الماضوية على الحاضر وهي بنية لا تاريخية تناهض التغيير على حد تعبير عابد الجابري، ولعل تضافر بعض الظروف السياسية والثقافية هي ما حولت تلك النظرة، ووسعت من قماشة التلقي والحرية على خشبة المسرح مع ثورة يوليو وهي كما يراها الناقد فاروق عبدالقادر في كتابه “ازدهار وسقوط المسرح المصري” “تلك السماحة التي ميّزت النظام الناصري في سنواته الأولى، والطابع التقدمي العام الذي طبَعَ الثقافة المصرية حتى أوائل الستينيات”.

ثقافة الاستهلاك
وقد انطفأت جذوة المسرح المصري خلال حقبة السبعينيات كما انطفأت فنون كثيرة نظرا لما أسلفنا ذكره عن سيادة ثقافة الاستهلاك وتحول الدولة من النمط الاشتراكي إلى النمط الرأسمالي الذي يعلي من قيمة الفرد مقابل تهميش الجماعة، مما جعل كثير من الكتّاب يلوذون بالصمت والعزلة حتى الموت كما حدث لمحمود دياب أو الاغتراب والسفر خارج البلاد كما حدث لنجيب سرور، أو التحول إلى فن كتابي آخر مثل يوسف إدريس الذي تحوّل إلى كتابة القصة والمقال الصحفي هاجرا الكتابة المسرحية إلى الأبد.
وقد جاء هذا الانحسار نتيجة لانحسار المد الثوري مقابل تنامي ثقافة الميكروباص والمسرح التجاري التي جاءت لتضخ تيارات من العبثية والعدمية كرد فعل لهزيمة يونيو 1967، وعلى فرض أن هذه التيارات قدمت فنا ما فإنه كان محكوما ـ في الأساس ـ بمنطق البيع والشراء، فلم يعد المسرح خدمة فنية وثقافية تهتم بالوعي بقدر تحوله إلى سلعة.
وفي هذا الكتاب محاولة لرصد تاريخ فرق المسرح الحر بأطرها التجريبية بداية من عام 1967 وحتى الآن والتي جاءت لتقدم فضاءات جديدة ومتعددة للأشكال المسرحية، ولكسر الحاجز الوهمي بين خشبة المسرح والجمهور، وكذلك حملت في تجربتها ملامح التمرد الفني بتقديم فرجة شعبية تستقي ملامحها من التراث الشعبي ومزجه بالتحولات المعاصرة مما أكسبها نكهة خاصة بما امتلكته من روح المغامرة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق