مجلة الفنون المسرحية
الخيال والتلقي
بعد كل ماسبق، أعتقد أننا ندرك قيمة الخيال لجميع المشاركين في العرض المسرحي، من المخرج للمؤلف للممثلين لمصممي العناصر المرئية والمسموعة، كل هؤلاء يعملون خيالهم من أجل تحقيق الدهشة التي تثير ذهن المتلقي وتجعله أسيرًا لما يجري على خشبة المسرح من أحداث، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل يمكن أن يثير مشهد مسرحي خيال المتلقي؟ إن الإجابة السهلة السريعة على هذا السؤال هي بالطبع نعم، يمكن أن يحدث ذلك، ولكن التدقيق في الأمر يستلزم إجابة أخرى مفادها أن المشهد لابد وأن يثير خيال المتلقي، والمشهد الذي لا يحقق هذه الإثارة هو مشهد خارج إطار الدراما كما يجب أن تكون، ولا يجب أن يستمر وجوده بالعرض لأن الأصل في العرض المسرحي هو الإيهام بأن كل ما يجري على خشبة المسرح هو حقيقة، لأن العرض المسرحي يقدم أفعالًا تحدث الآن في هذا المكان. ولكن هل تتساوى جميع الأشكال المسرحية في قدر إثارتها لخيال المتلقي؟
إذا ركزنا على العروض التي تسعى لتحقيق الإيهام المسرحي، فإننا يمكن أن نرسم خطًا أفقيًا يبدأ من الصفر وينتهي عند الرقم 10، وفي نقطة ما على هذا الخط ما بين الرقمين يمكن أن نضع العرض المسرحي واصفين قدر إثارته لخيال المتلقي. ولتبسيط الأمر، فإن هناك بعض المشاهد الطبيعية أو الواقعية التي تجعل المتلقي منخرطًا فيها، فهو يضحك لسعادة البطل وقد يبكي حزنًا على ما ألم بالبطلة من مصائب، الأمر هنا يثير العاطفة فينخرط المتلقي في الفعل، لكنه لا يرهق ذهنه في إعمال خياله، في حين أن عرضًا يتبنى الاتجاه التعبيري من الممكن أن يحث خيال المتلقى ويثيره بطريقة تجعله يرسم هو نفسه صورا ذهنية استجابة للمثيرات التي قدمها المشهد المسرحي، ففي المسرح الذهني الذي تتداخل فيه الأفكار وتستغرق وقتًا أطول لتفسيرها من قبل المتلقي سيكون عمل الخيال على أشده، فإذا ما طرح المشهد المسرحي فكرة مشفرة تستلزم عمل الذهن لفك طلاسمها؛ فإن خيال المتلقي عليه أن يبحث عن فك التشفير للرسالة التي تسلمها بالفعل في الوقت الذي يقوم الذهن ذاته باستلام رسالة أخرى تمهيدًا لفك شفراتها. إن وقت التداخل بين الرسالتين هو من الأوقات التي يتقد فيها خيال المتلقي على مستوى الكم والكيف، إذ يتحتم عليه القيام بمجموعة من العمليات الذهنية المعقدة في آن واحد، تتراوح ما بين البحث عن تفسير وبين فك طلاسم التشفير. قد يكون النوع الأخير أكثر وضوحًا في المسرح الرمزي الذي يحتوي على رموز ودلالات وعلامات أيقونية غير مباشرة.
وبالرغم من أهمية فك الشفرات من خلال إعمال الخيال في عروض المسرح الذهني والرمزي، إلا أن أشد لحظات إعمال خيال التلقي تأتي في المشاهد التي تتسم بغياب التجسيد المادي، وهذا الغياب لا يخص غياب الشخصية المسرحية فقط ولكنه أيضًا يخص غياب العناصر المادية غير البشرية. ويعد نص/ عرض "مس جوليا" للكاتب السويدي "أوجست سترندبرج" من أكثر النصوص تأكيدًا لهذه الفكرة، هذا النص الذي صنفه سترندبرج على أنه "مأساة طبيعية"، ووصفه د. سيد الإمام على أنه واقعية رمزية، وقمت أنا بإخراجه بتقنية الميتاتياتر، مستخدمًا الكثير من التقنيات التعبيرية. ففي هذا النص تسيطر بعض الرموز على مجريات الأحداث وكلها رموز تؤكد دونية الطبقة التي ينتمي إليها جان، كما أنها تؤكد وضعيته الاجتماعية بوصفه خادم للكونت والد الآنسة جوليا، ويأتي على رأس هذه الرموز الجرس الذي يستدعي به الكونت الخادم جان، وحذاء الكونت منتصب القامة الذي ينتظر الخادم كي يلمعه قبل أن يرتديه الكونت، وكذلك جاكت الخادم الذي يخلع على جان طبقته، وتنحلع عنه الطبقة الدنيا إذا ما خلع هذا الجاكت، وبالرغم من أن هذه الرموز غائبة عن التجسيد المادي في النص حتى أن بعضها لم يظهر أكثر من مرة، إلا أن جميعها حاضر بقوة طوال العرض وخاصة في مناطق اشتعال الأحداث، حاضرة في خيال المتلقي عندما يتحدث عنها.
إن بعض العروض تقوم بدور عكسي فتحجر على خيال المتلقي، ولن انسى أبدًا عرض مسرح الشارع الذي كانت تدور أحداثه في إحدى الحدائق العامة، وكنت أنا وقتها رئيسًا للجنة التحكيم، وهالني ما رأيت، في الحديقة التي يوجد بها عدد هائل من الأشجار رأيت شجرة مصنوعة من الأخشاب الرديئة موضوعة أمام شجرة طبيعية، وعندما سألت المخرج: لماذا لم تستخدم الشجرة الحقيقية؟ ... كان رده أن هذه الشجرة تم تصنيعها قبل تحديد مكان العرض، وكان لابد من استخدامها طالما خصصت ميزانية لإنتاجها، وإلا فسوف يحال مسؤول الإنتاج للتحقيق. إن هذه السلوكيات وما يشابهها كفيلة بأن تصيب خيال المتلقي بالعطب.
وفي عرض مكان مع الخنازير بني العرض في مناطق كثيرة منه على منطق إثارة خيال التلقي، وسوف نركز على ثلاثة مناطق لتوضيح البناء الأصلي في النص، والبناء الفكري للرؤية الإخراجية التي تستهدف إعمال خيال المتلقي:
تجسيد الخنازير
لجا الكثير من المخرجبن الذين تعرضوا لإخراج هذا النص إلى تجسيد الخنازير من خلال مجموعة من الممثلين الذين يجعلهم المخرج يسيرون على أربع، وفي بعض العروض أعمل المخرج خياله وجعل هؤلاء الممثلين يرتدون أقنعة للخنازير على وجوههم مصنوعة من الورق العادي أو الورق المقوى. الواقع أن مسألة الإيهام هي مسألة شديدة التعقيد، نعم، هناك عقد افتراضي مع المتلقي بأن يقبل كون الممثل ليس هو إنما هو الشخصية التي يجسدها، كما يتضمن عقد الإيهام أيضًا افتراضًا غير معلن وهو أن المتلقي يقنع نفسه بأن الأحداث التي تجري على خشبة المسرح هي أحداث حقيقية وتحدث هنا في هذا المكان والزمان مالم يفترض العرض نفسه أن بعض الأفعال تمت بالفعل ويتم تجسيدها الآن بمنطق الفلاش باك أو العودة لسرد أحداث تمت في الماضي. ولكن هل يعني ذلك أن المتلقي يسلم نفسه لفرضيات الإيهام ويلغي عقله تمامًا؟ ... الإجابة بالقطع لا ... إن عقل المتلقي يعمل طوال الوقت، وهو ليس بالسذاجة التي يفترضها بعض المخرجين، إن المتلقي البسيط سوف يرفض عقد الإيهام الافتراضي هذا إذا تعلق الأمر بمحاولة إقناع المتلقي أن هؤلاء البشر الذين يرتدون أقنعة ورقية سيئة الصنع هم خنازير، إن الفكرة يمكن أن تكون جيدة ويمكن أن يتقبلها المتلقي إذا ما تم تصنيع ماسك كامل بجودة فنية وخيال رائع، ولكن هذا الأمر يتطلب أموالًا طائلة، وبالتالي إذا لم تكن تستطيع توفير هذه الأموال فلا تدخل في مخاطرات إيهامية مع متلق على استعداد تام أن يمضي بعيدًا عن مسألة الإيهام تلك، وهو أيضًا على استعداد لأن يجد مئات الأسباب التي تجعله لا يصدق أن هذه الكائنات البشرية التي تتعثر في حركتها على أربع هم مجموعة من الخنازير وليسوا مجموعة من الممثلين الهواة قليلي الموهبة.
وما هو الحل؟
الحل يكمن في احترام عقلية المتلقي والإقرار بأن له الحق أيضًا في أن يعمل خياله تمامًا مثلما للمخرج والممثلين والمصممين المبدعين الحق في أن يعملوا خيالهم، ولكن كيف يمكن تحقيق هذه الفرضية؟ تتمحور الفكرة العامة حول خلق مجموعة من الصور المتحركة في ذهن المتلقي، لكن هذه الصور المتحركة لن تخلق بتعليمات من المخرج أو الممثل، يتطلب الأمر مجموعة من الأفعال الفنية التي يجب أن تتم بدقة متناهية، ولتوضيح الفكرة سوف نستخدم نموذجين تطبيقيين من عرض "مكان مع الخنازير"، وهما مشهدي التهام الخنزير للفراشة وقتل بطل العرض – بفيل - للخنزير بعد التهامه للفراشة. كان من الممكن تجسيد الأفعال الدرامية المتعلقة بالمشهدين تجسيدًا ماديًا، ولكنى آثرت – احترامًا للمقدرة التخيلية للمتلقي – أن يتم خلق وتجسيد المشهدين كاملين في ذهن المتلقي عن طريق استكمال نواقص الصورة المادية التي تجري على خشبة المسرح.
المشهد في نص العرض
بفيل(بدهشة) ما هذا؟ ... فراشة ملونة ؟ أيمكن أن تكون حقيقة؟ (يضحك بصوت عال) هل أنت الذى يضحك يا بفيل ايفانوفيتش؟ (يسأل نفسه محاولاً الاقتناع) نعم أنت الذى يضحك يا رفيق بفيل ... إنها حقيقة ... والفراشة حقيقة ... سأمسك بها (يسترسل في ضحكاته وهو يجري خلف الفراشة محاولاً الإمساك بها) براسكوفيا ... إننى أضحك (يمسك بحذائه الصوفي ويبحث عن الفراشة) يجب أن تخرجي من هنا أيتها المخلوقة الجميلة الملونة ... هذا المكان لا يتسع لجمالك ... أين تختبئين أيتها الصديقة الصغيرة؟ أين أنت؟ أرجوك ... (يبحث عنها) ... يا إلهى لا تموتي هنا ... دعينى أعيدك إلى عالمك الجميل ... إلى الزهور ونسائم الصيف ... إنى أتوسل إليك أن تحملي معك قبضة من روحي أو همسة من قلبي إلى ضوء الشمس (يبحث عنها) فلتكوني خلاصي أيتها الجميلة الملونة ... فلتكوني خلاصي ... (تقع عينه عليها وهي واقفة فوق خنزير فيتجمد في مكانه ثم يقترب منها بحرص محاولا أن يمسكها ... يتوقف فجأة وعيناه تمتلآن بالرعب ... وهو يتوقع كارثة) ... لا .... لا أرجوك ... ابتعد عنها أيها الخنزير العفن ... أيها الوحش القذر ... لا ... لا تفعل (الخنزير يلتهم الفراشة ... يتجمد في مكانه ... ثم يعود بخطى متثاقلة ... فجأة يصرخ) قاتل ... قاتل (يخرج سكينًا ثم يدخل إلى مكان الخنازير ويقفز على الخنزير ويطعنه طعنات قاتلة ... يسمع صوت ضوضاء شديدة ... يخيم على المكان رائحة الموت ... يخرج بفيل ملطخًا بدماء الخنزير)
الخطوة الأول: وضع تخطيط لسياق المشهد
ما يراه الجمهور على خشبة المسرح هو المكان المخصص لإقامة بفيل داخل حظيرة الخنازير، في حين تعيش الخنازير في المكان المخصص لها داخل هذه الحظيرة، ومن المفترض أن تكون الفراشة قد دخلت للمكان من خلال نافذة الباب الصغيرة التي تتوسط الباب المؤدي إلى الخارج. إن مشاهد العرض المسرحي سوف تعمل بالتناوب على عاطفة المتلقي أحيانًا فيستغرق في معايشة ما يرى أمامه من أفعال، وبين عقله فيفكر فيما يقدم ويربطه بأمور أخرى خارج سياق العرض المسرحي، وما بين هذين العنصرين (العاطفة والعقل) يأتى الخيال كأحد أهم أدوات الاشتغال على العاطفة أو العقل. إن المشهد الذي بين أيدينا هو مشهد يتوجه مباشرة لعاطفة المتلقي، فهناك فراشة رقيقة جميلة دخلت مكان الخنازير الذي يتسم بالقذارة والوحشية ولا يتناسب مع رقتها، وبفيل الذي يكره الخنازير التي عاشرها لمدة عشر سنوات مكرهًا يدرك أن الفراشة لا يمكن أن تكون هنا رغم أنه أحب ألوانها التي أدخلت بعضًا من البهجة على قلبه، وبالتالي فإن بنية الأفعال التي يتضمنها هذا السياق المشهدي ستكون على النحو التالي:
1 فرحة بفيل برؤيته للفراشة ويعبر عن هذه الفرحة بعدم التصديق ثم بالضحك بصوت عال، ثم اتخاذه قرارًا بأن يمسك بها كي يسعد بالحديث إليها بوصفها كائنًا غريبًا عن جو المكان الذي يعيش فيه من عشر سنوات
2 يجرى وراءها في كل أرجاء المكان، وعندما يفشل في الإمساك بها، يتخذ قرارًا بالرقص معها، وينفذ قراره بأن يراقص الفراشة كحبيب يراقص حبيبته ... وترتسم السعادة على وجهه، وتنعكس على حركته التي أصبحت أكثر رشاقة، فيقفز في الهواء محاولًا تقليد الفراشة في حركاتها الرشيقة.
3 وفجأة تختفي الفراشة ويصاب بفيل بالقلق عليها، لأن البيئة غير ملائمة لها، وبالتالي فقد تموت في هذا المكان القذر، فيأخذ في البحث عنها في كل أرجاء المكان، ويرجوها أن تظهر وتخرج إلى العالم الفسيح حتى لا تموت في هذا المكان القذر، ويطلب منها أن تحمل قبضة من روحه إلى الخارج الذي يتمنى أن يعود إليه مستنشقًا الهواء النظيف الخالي من رائحة روث الخنازير.
4 يرى بفيل الفراشة داخل المكان المخصص للخنازير وهي تقف على أنف أحد الخنازير فيجن جنونه، ومحاولته يحاول إنقاذ الفراشة، لكن محاولاته تفشل ويقوم الخنزير بالتهام الفراشة.
5 هنا، يفقد بفيل السيطرة على مشاعره فيندفع بالسكين ويقتل الخنزير، وتتلطخ ملابسه بالدم.
الخطوة الثانية: بناء الأفعال الصوتية والحركية في ذهن الممثل
إن الخطوة الثانية بعد تخطيط السياق العام للمشهد، يتم فيها بناء الأفعال المتعلقة بهذا السياق في ذهن الممثل من خلال تقنيات تعمل على خياله، إحدى هذه التقنيات تعتمد على وضع عناصر مادية محل العناصر المتخيلة، ويتم التدريب من خلال الاستغناء التدريجي عن هذه العناصر المادية، كأن يقوم الممثل "ب" مثلاً بتجسيد دور معين ثم ينسحب من المشهد ويتخيله الممثل "أ" رجوعًا للأماكن التي كان يتواجد فيها الممثل "ب" الغائب، ولهذه الطريقة الكثير من المزايا وأهمها هي منطقية حركة عين وجسد الممثل مع العنصر المتحرك، وبعد عدد من التدريبات يتم استبعاد العنصر االبديل بعد أن تكون حركته قد حفرت في ذهن الممثل، ولكن من عيوب هذه الطريقة أنها تمثل دعوة لكسل خيال الممثل، وأنا أفضل الطريقة الثانية التي تعتمد على أن يتم زرع العنصر وحركته من البداية في خيال الممثل وبالتبعية المتلقي، ويتم تدريب الممثل على استزراع العناصر المتخيلة من خلال تكرار الأفعال وملاحظتها من خلال المخرج أو من ينوب عنه، والمراقبة هنا هي للتأكيد من منطقية حركة الجسد والعين، وتطبيقًا على المراحل الخمس لمشهد الفراشة فلسوف يتم بناء الأفعال في ذهن الممثل كما يلي:
1 ينظر بفيل في فضاء المكان عند نقطة محددة يختارها الممثل بالاشتراك مع المخرج، يحاول أن يستزرع الفراشة بجسدها الملون وحركة جناحيها على مراحل، يمكن أن تبدأ برؤية الفراشة في الواقع إن أمكن وفي حالة تعذر ذلك يمكن مشاهدة صورتها المطبوعة على ورقة أو جهاز كومبيوتر أو جهاز تليفون، كما يمكن أن يشاهد صورة الفراشة المتحركة من خلال فيديو قصير، والتدقيق فيها بتركيز شديد لمدة ثلاث دقائق، بعدها يغلق الممثل عينيه ويحاول تكوين صورة الفراشة في الظلام وعيناه مغلقتان تمامًا، وبعد قليل سيرى الفراشة متجسدة أمامه. بعد رؤيته لها، يثبت في مكانه، ويوجه نظره إليها وهو سعيد بهذا المخلوق الملون الجميل ويعبر عن هذه الفرحة بالضحك بصوت عال، ولأن الفراشة تتحرك، فعليه أن يرسم خطوطًا لحركتها، بحيث تكون هذه الحركة ثابته ومرتبطة بذات الأفعال حتى لا يقوم الممثل بعمل مشهد مغاير كل يوم. ثم يقوم باتخاذ قرارًا بأن يمسك بها كي يسعد بالحديث إليها بوصفها كائن غريب عن جو المكان الذي يعيش فيه من عشر سنوات،
2 يتحرك بفيل ببطء، ثم يجري وراء الفراشة محاولًا الإمساك بها، وحتى يقنع المتلقي بهذه الأفعال ويعايشها لابد أن تبنى على المنطق من حيث زوايا الرؤية واتجاه الجسم ومدى ارتباطهما بحركة الفراشة المتخيلة، ويجب أن يصنع الممثل محطات للوقوف بين أماكن الجري، وعندما يفشل في الإمساك بها، يتحذ قرارًا بالرقص معها، وينفذ قراره بأن يراقص الفراشة كحبيب يراقص حبيبته، هنا على مصمم الرقصات أن يضع تصميمًا لرقصة بين كائنين متباينين في الحجم والموقع الجغرافي، فبفيل يحتل مكان رأسي في حدود المترين، وبعرض نصف متر تقريبًا، أما الفراشة فحيزها المتخيل في ارتفاع حوالي المترين ويمكن أن ترتفع أو تنخفض في حدود النصف متر، وهي كذلك تشغل حيزًا صغيرًا جداً من الفراغ مقارنة بحيز الممثل. ترتسم السعادة على وجه بفيل خلال الرقصة التي يجب أن تبنى على منطق حركي سليم يحافظ على الزوايا والاتجاهات وحركة العينين، مع مرور الوقت، تصبح حركة بفيل أكثر رشاقة، فيقفز في الهواء محاولًا تقليد الفراشة في حركاتها الخفيفة السريعة، وينتقل من مكان لآخر وهو يحافظ على بنية العلاقة من حيث الموقع والحجم.
3 تختفي الفراشة، ويأخذ في البحث عنها في كل أرجاء المكان، وهنا يجب أن يتبع منهج البحث عنها نفس المنهج السابق، يحدد الممثل نقاط مكانية يمسحها بعينيه، ولكن الاختلاف هنا يكمن في أن حركة البحث عن الفراشة هي حركة بطيئة، يمكن أن يصاحبها بعض التردد، أي أن بفيل يمكن أن يتوجه لنقطة مكانية محددة، ثم يغادرها، ويمكن أن يعود إليها في الحال لاعتقاده بأن الفراشة موجودة في هذه النقطة وهو لم يرها، إن التحرك البطيء المتردد سيكون هو السمة المميزة لرحلة البحث عن الفراشة، وسوف يتوقف بفيل في محطات متعددة وهو شارد الذهن يفكر في مصير الفراشة، لكنها وقفات قصيرة سريعة لا تخل بإيقاع المشهد المسرحي، إنه الآن يبحث عن الفراشة ولا يجدها في خياله، ولكن في المستوى الثاني من خياله يمكن أن يشاهد الفراشة وهي تعاني محاولة الخروج من حظيرة الخنازير ولا تستطيع لسبب بعيد عن السبب الذي سيتحقق على أرض الواقع بعد قليل وهو أن الخنزير سوف يلتهمها، يمكن أن يشاهد الفراشة وهي تغرق في وعاء للمياه، أو أنها اندست في روث الخنازير، لابد أن يراها تعاني حتى ترتسم صور حقيقية في مخيلته.
4 وفي خضم بحث بفيل عن الفراشة، وتوقعه لمعاناتها، يراها وهي تقف على أنف أحد الخنازير فيجن جنونه، هنا لابد أن يجتهد الممثل كي يرى الفراشة واقفة بالفعل على أنف الخنزير، إن الفراشة والخنزير غير متجسدتين في الواقع لذا فإن صناعة وجودهما المتخيل ليس بالأمر السهل، إن التخيل هنا مركب ويتطلب تكوين صورٍ ذهنية مركبة لخنزير يتأهب لالتهام الفراشة التي تقف مسالمة على أنفه، إن التمهيد لعملية الالتهام تكاد تكون أهم من لحظة الالتهام ذاتهاـ سوف يقسم الممثل هذه العملية لعدد من المراحل المتتالية، فهو في البداية سوف يقطع رحلة بحثه عن الفراشة بأن يجدها واقفة على أنف الخنزير، فيصاب بالصدمة التي تفقده القدرة على التفكير، سوف يرى كادرًا واحًدا ثابتًا، برواز واحد فيه وجه الخنزير وعلى أنفه تقف الفراشة، هو الآن يريد أن يجعلها تتحرك، ولكن حركته تجاه الخنزير يمكن أن يعجل بالتهامها، الأمر يشبه حقل الألغام، فالفراشة لغم يقف على فم الخنزير، وحركة بفيل يمكن أن تفجر هذا اللغم، لذا فإن الخطوة التالية تتضمن أن يمضي بفيل بحرص شديد، وترقب حذر، ثم يتعثر في شئ ما، فيحدث جلبة وهو ما يدفع الفراشة للتحرك فيباغتها الخنزير ويلتهمها.
- تتسمر قدما بفيل في الأرض للحظة، ولكن سرعان ما ينطلق كالروح، يأتي بالسكين، وبمنتهى القسوة يقذفها في صدر الخنزير الذي يخر صريعًا. ويدخل إليه ويسحب السكين من جسده ويسدد إليه طعنات أخرى يفرغ من خلالها طاقة الغضب التي انتابته، وتتلطخ ملابسه بالدم الذي نراه عندما يخرج من مكان الخنازير.
الخطوة الثالثة: نقل تجسيد الأفعال صوتيًا وحركيًا لذهن المتلقي من خلال توجيهه لنقل الصور المتحركة في ذهنه
إن قيام الممثل بالأفعال السابقة بدقة، من شأنه أن ينقلها مباشرة لذهن المتلقي، هذا النقل يحتاج بعض الشروط كي يتم بنجاح:
- أن يحافظ الممثل على منطقية الأبعاد الجغرافية من خلال حركة الجسد، فلا يمكن أن ينظر الممثل للفراشة على بعد رأسي معين وفجأة يتحول نظره إلى منطقة الجمهور مثلاً، أو إلى الكواليس، ينبغي أن يحرك جسده في الاتجاهات التي يمكن أن يصدق الجمهور أن الفراشة قد ذهبت إليها بالفعل....
- المحافظة على زوايا الحركة وهو ما يعني أن الزوايا تكون منطقية حتى لو كانت غير متوقعة، منطقية الزوايا مع منطقية الأبعاد الجغرافية يحقق الوحدة العضوية ويؤدي إلى أن يقوم المتلقي بتنشيط خياله وتتبع الفراشة مع الممثل. وهو ما يتأكد من خلال التواصل بالعين بين الممثل وبين العناصر المتحركة في الخيال.
- إن النجاح في إيصال الصور الذهنية التي كونها الممثل في مخيلته، إلى ذهن المتلقي هو الفعل الذي يبرهن على نجاح المسرح في إعمال خيال المتلقي، وهو نوع مهم جداً من متعة المشاهدة الحية للمسرح، وهو الذي يميز المسرح عن السينما والفيديو الذين يمكن أن يخلقا هذه الصور الخيالية بصور موازية بمنتهى السهولة واليسر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق