تصنيفات مسرحية

الخميس، 16 ديسمبر 2021

مسرحية " الظَّلِيل "تأليف : الحسام محيي الدين

مجلة الفنون المسرحية


 يعتبرُ هذا الانسان المُشوّش الساديّ أنّ للظلِّ معهُ غاية سيئة ، فيرى إلى التخلص منه لربما يحيا أوقاتاً سعيدة بدونه قبل أن يموت . 
فصل واحد في حوارٍ بين النثر والشعر . 

(تفتح الستارة )

المكان : منزل بسيط تمتد أمامه مصطبة مربعة الشكل بمساحة متوسطة يجلس عليها إنسان يحدق في ظله ذات صباح صيفي آنَ شروق الشمس .

الانسان يحدّثُ نفسه بصوتٍ هامسٍ وقد أحسَّ بالتعب الشديد :

               ما لي عييتُ وشدَني شيءٌ تناولني إلى نحــري

               جسدي حيِيٌّ إنّما قد شابهُ مسٌّ مــنَ القهــــــرِ 

               بين الشّغافِ ففي فؤادي رجفةٌ تقتاتُ من عمري

               حدْسي أنا في صاحبٍ  يقتادني توّاً إلى قبـــري 

          يَنظرُ إلى ظلّه باستغراق :

                إني أظنكَ يا خيالي (1) ساحراً وُكِّلتَ في أمري  

الظّلّ وقد تفاجأ بعدما استرقّ السّمع بما قاله صاحبه الانسان ، محدّثاً نفسه : 

              هذا فتاكَ يرى لأمْرٍ سيّءٍ  فعليكَ بالصبْرِ

              عتباهُ في خلَدي كطعنة قاتلٍ يختالُ بالنّحرِ

               ماذا أراد بقوله إذ ذمّني مُتحاملاً هجري؟

               أفتى بمقتَلَتِي بسرّهِ ، ليتهُ ما باح بالســــرِّ

         يكمل الظلّ كلامه بعدما رفع صوته مُجاملاً الانسان :

               أصبحتَ خيراً يا أساسي ، مَنْ رؤاهُ كرؤية البدرِ

               ما لي أراكَ مُفارقاً روح الصِّبا عيّافَ بالصبرِ ؟

        ( صمت لثوانٍ ) ويكملُ الظّل بصوتٍ قلِقٍ : 

               أرجوكَ أخبرني فقد زاغَ السُّوى (2)    

الانسان :  (مقاطعاً )       يا ظلُّ ، لا أدري !

الظّل محاولاً التغلُّب على قلقِه : أنا وأنت واحد ، لكنني الحقيقةُ الآنيّة وأنت المطلقة .

الانسان : كيف ذلك وأنت معلّقٌ بي كيفما حلّتْ بي مصائري ؟  كيف وأنتَ لطالما كنتَ أطولَ مني ؟ 

الظّل :  فُطِرتُ على صحبتك يا أساسي . 

الانسان : كلما استيقظتُ إلى عملي وجدتُكَ تخاتلني كيف تحركتُ ، كالفضوليّ مكراً ودهاء . حيناً تسبقني ، وحيناً تتأخر عني ، وطوراً تختفي فأدُورُ على نفسي ولا أجدُك . لكأنّي أصبحتُ ظَليلاً بين الناس 

الظلّ : (مقاطعاً)  لكنني حقيقةٌ معك ، مخلوقٌ بالفطرة من حولك ، ووهماً مطلقاً في المطلق من دونك . وحدِيَ لك لا سوايَ فلن تكونَ ظَليلا . 

الانسان : أشعر أنك تسبقني لتنال شيئاً ما ...  

الظّلّ : فماذا أنال منك لو سبقتُك ؟ 

الانسان : جائزةً ما ... ربّما أفُقاً أزرق ذات صباح ، ربّما ألواناً مغريةً من قوسِ قزحٍ مهاجر ، عطراً ضلّ رؤاه من عذراء على الشّرفة ... أو أمداءَ جميلة أُخرى من جِنسِك... وربّما... امرأةً  أحببتُها لتسرِقَها مني!

الظّل: (بتعجّب) ولماذا تحبُّ امرأةٌ ظلاً وتهجرُ صاحبه ؟

الانسان :  تحيا بصداه ...أجملُ ما يبقى منه لها ، لو ضنَّ عليها بهواه.

الظّل : وكيف أربحُ لو تخلّفتُ عنك ؟ 

الانسان : تحاولُ غدري في أمرٍ ما... أو تطعنني في ذاتي من خلف ...أو تفضحُ عيباً في خَلْقي بعين المُريب.

الظل: (بغضب وحسرة)  ولمْ أفعلُ ذلك كُلَّه ؟ 

الانسان: (بلا مبالاة )   سئِمْتَ مني ، من صحبتي ، كما ضجرتُ أنا منك كذلك،                                                        

                           وربّما أحاسيسُ أُخَر .

الظّل : عشتُ ممزقاً بين جهاتٍ أربع ، معكَ وفي كل أحوالك يا سيدي : تمشي ، تركض ، تقفز ، تأكل ، تبكي ، تضحك ، تنام ، تقوم ... وأنا أترجّحُ بمزاجك مُعتلقاً فيك كالأبله

الانسان : ألم تقلْ أنك مفطور على ملازمتي ؟

الظّل : بلى . لكنك تنسى أنّ قوةً تحكمنا نحن الاثنين ؟

الانسان : ما هي ؟ قل لي بربِّك !

الظّل : النُّور ... النّور الذي يمنحني شكلكَ كيفَ تدور ... الضّوء الذي ينير دربك من ورائك فأكون أمامَك حِرزاً مما قد تقعُ فيه أو حُضناً تقع عليه. المشكاةُ التي  لو مدّتْكَ بإشراقتها من أمامِكَ لكنتُ أنا مُنطفئاً خلفَك ، فلكم سنين مضتْ أشرقتَ أنتَ فيها وأظلمتُ أنا . فاصفح عني . 

الانسان :  ما وقعتُ يوماً إلا لأني تعثّرتُ بك وأنت تختالُ أمامي ، وتُخفي ما أراد النّورُ أنْ يضيئه من ورائي . 

يتابع كلامه ملتفتاً إلى السماء : عصيتَ  إرادةَ النُّور أيها الغادر ، النُّور الذي أنت سليلهُ النقيّ ... الذي أنتَ وجههُ الآخر .

الظّل : (بِلَوعة ) لكنه لطالما تخلّى عني كلّما تعامدَ عليكَ منْ علٍ ! فكنتُ أختفي عن     ناظريك ويفرحُ هوَ باتّساع بقعَتِه ، ولطالما أضاعني  حتى درجة الموت في الظُّلمة بعيداً منك .  أفلا يشفعُ لي ذلك ؟  

ينهض الانسان عن كرسيه ، ويذرعُ المصطبة يميناً وشمالا:

      ظِلّي اتّئِدْ ! أعْجَلْتَ بالكَلمِ   وأنخْتَ عزماً يعتري هممي 

      فنزعتَ مني بَهجةَ المَحْيا      ولبستُ منكَ غلالةَ الرِّمَمِ

      ظلّي سلِيلي خِلتُهُ أوَدِي      أخطأتُ ، ثمّتَ عادني ندمي

الظّل : ظَنّي بأنكَ توأمي أبداً  أحيا بنورك  ماتعَ الحُلُــــمِ

كم زدتَ تخسيراً على شأني  عمراً طويلاً  حِيكَ منْ حُطَمي

يتابع الظّل: (بحزن) عشتُ أصدُقُكَ القولَ وأصدِّقُكَ في كلِّ شيءٍ سيدي ، أسيراً فيك ، ورمزا جميلاً لوجودك ، ومثالاً لعافيتك . فماذا لو كنتَ بغير ظلَ ؟ ومن يعيش بغير ظلّ ، ظِلُّه ؟

الانسان : ما فائدة الظل ؟ ما قدَّمَ ولا أخّرَ في حياتي...  

الظّل : لولا الظلُّ لمات الناس ... أحرقَهم وهجُ الشمس ... ومات عنه الشجر والبشر ... لماذا تُنكر فضلَ الظلّ عليك ؟ أوما حييتَ في ظلّ الشجرة ... الشُّرفة ... الجسر ... السّحابة ؟ سقفِ بيتك صباح مساء إذ تتظلّله درعاً يقيكَ الحر أو البرد ؟ أما كانَ مفيداً في كلّ أحوالك ؟ أوَما فسّرَ قلقَ وجودِكَ يوماً ما ؟ فكيف تعيش بدونه ؟ هذا تجديفٌ يا أساسي ... فاحذرْ

( صمت . يتوقف الانسان عن المشي ويجلس مجدداً) 

الانسان : (بعناد) تقتاتُ على حقيقتي وأنا منزوفٌ على وهمِك .... فدعني أغادرُك... بربّك قل لي هل تحملتَ معي شيئاً مما آلمني في مِحَنِ حياتي ؟ أولستَ قريني اللاصق بي أبدا؟ 

الظّل : أرى ألمَكَ لو جُنَّتْ حركاتُك ولا أعيه شعورا ، أنا خارج فكرته كما شاءَ القدرُ وأنتَ بداخلها ، هو يحتويك لا أنت ، ألمُكَ وَشْكُ انطلاقةِ الظنِّ السيّء دوماً ، قبل حدوث المحنة 

 الانسان: (بإصرار ) غادِرْني ! فلكمْ تسوّرتَ بالكآبة كبريائي !

الظّل : ( بيأس ) ولكن كيف ؟ 

( صمت ) 

يتابع الظّل : ما رأيك لو علّقتني على مشجبٍ في دارك إلى الأبد  ؟

الانسان : لا آمَنُكَ في غيابي .أنْ تركنَ لشيءٍ ما ، ظلٍّ آخر ، كائنٍ ثان ، شبحٍ ضوئيٍّ أو ناريّ ، قد يُمسي قرينك الخاص فتكونان عدوّاً لي معاً .  كُلُّ اللّامرئيِّ صديقُك . أمرٌ لا يطاق .

الظّل : ماذا إذن ؟

الانسان : دعنا نفكر في صمت .

يُحدّثُ كلٌّ منهما نفسه : 

الانسان : سأتخلصُ منه . ما هو إلا تشكيلٌ ذهنيّ ، الاشاعة والكِذبة ، لن أتردّدَ في ذلك فأنا سيده المُطلق .

الظّل : ساذج ، فخلاصه مني يبدأُ من عنده ، فنائي يعني فناؤه ، هو قبلُ وأنا بعد . سأقنعه بأن يقتل نفسه ، نعم ... أن ينتحر لأجْلِ انعتاقهِ المزعوم . فأنا لا مضغة لي تؤلِمني إذا مات . هو الجسد المتألم  وانا سديمٌ عارٍ في خَلقِه لا يخسرُ شيئاً لو زال . سأقنعه ولْنَمُتْ معاً ! 

الانسان : طالَ الصمتُ فقُلْ شيئاً 

الظّل : صمتٌ دامٍ مُتخثّر . لكنه بدَهيٌّ  كجرسِ إنذارٍ صدىءٍ في موقف خذلان .  

الانسان : ثرثرة بالية آن لها أن تنتهي .

الظّل : (مستدركاً) ما ظنّكَ بِمَنْ يحيا فانتازيا التضحية لأجل غايته ؟ 

الانسان : أتّفِق  ولكن ...

الظّل :  اقتُل نفسك لتَنعَتِقَ مني ، ما جدوى أنْ تبقى  بئيساً إلى الأبد؟

الانسان : ( بصوت عال غاضب ) ماذا تقول ؟ أنتَ جُننتْ . أَقتُلُ نفسي لأجل الوهم ؟

الظّل : لا منجى لك مني إلا بذلك ، ترتاح مني بموتك  الرحيم .  

الانسان :  ( يصرخ ) ستختفي عني إلى الأبد ...لن يكون لي ظلّ ...

                              سأعيشُ في الظلام !  

                              ستار  

خيَال هنا بمعنى الطّيف أو ما تراه كالظلّ.

    السُّوى : القصد .

ايميل الكاتب :
   hmouhieddine@gmail.com    
       

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق