مسرحية الشاب العصري والشيخ البصري... تأرخة للمدينة
بمناسبة مرور مائة عام على المسرح البصري.
الباحث: مجيد عبد الواحد النجار
لقد عمل الكثير من المؤرخين عند تأرختهم للأحداث الحياتية ، ان يؤرخوها بطرق مختلفة ، فمنهم من أرخ للملوك عن طريق الشعر، ومنهم من أرخ للحروب عن طريق الرواية ، ومنهم من أرخ عن طرق القصة، او عن طريق الوسائل السمعبصرية ، وها نحن اليوم أمام عمل مسرحي يؤرخ لمدينة عرقة ، مدينه عُرفت بالعلم والمعرفة والجمال ، انها البصرة التي كتب عنها الكثير فمنهم من تناولها كأول مدينة بنيت في تاريخ الاسلام ، ومنهم من تناولها كمدينة انطلق منها العلم والطب والمعرفة ، ومنهم من ارشفها كمدينة للثقافة والفن ، فهي مدينة الشعر والادب والمسرح .
وها هو ابن البصرة الاصيل الشيخ محمد امين عالي افندي باش اعيان العباسي البصري* ، يؤرشف من خلال المسرح لمدينته التاريخية (البصرة القديمة) التي بنيت اول مرة في شمال البصرة قرب قضاء الزبير ، من اجل تنوير الشباب بل الاجيال كافة ، عن تاريخ هذه المدينة العريقة ، وقد مارس الشيخ هذا الفعل في زمانه عن طريق الخطب والمواعظ ونشر المقالات بطرق تسهل على الشباب تناولها من غير ملل ولا ضجر ، ومن اجل هذا طبع هذه المسرحية على نفقته الخاصة في (مطبعة الفلاح) وجعل ريعها لحساب المكتبة النقشبندية البصرية ، لكي تكون تحت متناول العامة.
لقد تحدث الكاتب عن المدينة في مسرحيته(الشيخ البصري والشاب العصري) من خلال شخصيتين ، هما شخصية (الشيخ) و(الشاب) والذي من خلال هذا التصنيف يعرف القارئ انهم من زمنيين مختلفين ، فالشيخ يمثل الحقبة البعيدة ، الحقبة التي تأسست فيها المدينة ، والشاب الذي يمثل الحقبة التاريخية الانية وما تمثله هذه الحقبة من فوارق بكل ما كانت عليه المدينة.
يبدأ الكاتب المسرحية بالشرح المفصل عن الشخصيات ، ويعطينا معلومات كافية عنها لنعرف من خلالها ثقافة وأهمية وأعَمّار كل من هذه الشخصيات ، فهو يصف لنا الشيخ بانه ( شيخ ابيض الشعر خفيف اللحية وعليه البسة بيضاء ، وهي عبارة عن سراويل، وقميص، ولحية وطاقية، وعمة ، محتذ بنعل، متكئ على عصا)، وهذا الشرح الوافي فهمنا من خلاله كيف يمكن ان نتعامل مع هذه الشخصية وكيف يمكن ان نفهمها ، ومن خلا هذا الوصف نعرف كذلك ثقافتها واهميتها في المجتمعات العربية وفي الخصوص في مدينة البصرة ، اما الشاب فيصفه لنا بالقول انه (شاب في اللباس العصري ، تظهر عليه الحيرة، والدهشة وهو يخاطب نفسه). العارفين في المسرح يعرفون جيدا ما يعني الكاتب عندما يترك تحديد الشخصيات للقارئ او للمخرج عندما يروم اخراج العمل المسرحي ، فمن المؤلفين من يكتب الشخصيات بدون اسماء(رجل امرأة ، شاب...) واخر من يكتب الشخصيات (س، ص، ح...)لترك فسحة من التأويل اثناء تناول النص المسرحي ، وهذا ما منحنا اياه الكاتب محمد امين والذي ذكر لنا ان الشاب يرتدي ( اللباس العصري) فهو لم يحدد لنا هذا العصر ، اذن ماذا نقول وكيف نحدد العصر فيما اذا عرفنا ان المسرحية كتبت عام 1922 ، اذن كيف نتعامل معها وكيف نتحدث عن العصر واي عصر هذا ، اذن كان الكاتب يكتب بطريقة احترافية ، بطريقة العارف لكتابة النص المسرحي ــــــ وهنا بودي ان اشير الى انني/اننا يجب ان لا نقارن كتابة هذا النص بما يكُتب حاليا ، فالوعي في المسرح تغير والثقافة تغيرت أيضا ، يجب ان ننظر بعين التاريخ وعين المتابع للمسرح لكي نتحدث عن هذا النص ـــــ فمن الممكن ان نتوقع كذلك انه كان مهتماً بالمسرح، وكان يقرأ مسرحيات، او شاهد بعضها فيما اذا عرفنا انه كان كثير السفر الى تركيا آنذاك،- وهذا يذكرنا بالكاتب المسرحي الكبير مارون النقاش ورحلاته وماذا استفاد من المسرح الغربي- .
يحدثنا الكاتب عن مدينة البصرة من خلال الشاب الذي يقف متحسراً مبهوراً على أطلال هذه المدينة الطينية ، يلتفت يميناً وشمالاً ، يتطلع الى الافق ويتخيل ما كانت عليه هذه المدينة، وكيف كانت ، وكيف كان يعيش الناس، وكيف كانوا يتلقون العلم، والمعرفة، كيف كان اقتصادها وعلاقاتها الاجتماعية ، وهو مهموما بكل هذه الاسئلة، يأتي نظرة على منارة شامخة بين هذه الاطلال الطينية ، يقترب منها ، يقف امامها متحيرا ، يتخيل كل ما يستطيع تخيله عن هذا المكان ، انه مكان للعبادة ، كيف كان الناس يجتمعون به ، وكيف كانت تقام الصلاة هنا ، ولا زال الشاب متحيرا اذ ينظر الى شيخ في الجانب الاخر ، يقف هو الاخر يتأمل هذا الصرح الديني الوحيد في هذا الفراغ الكبير ، يقترب الشاب منه واذا بالشيخ يردد (كأن لم يكن بين الحجون الى الصفا ..... أنيس ولم يسمر بمكة سامر)، ما سمعه الشاب يزيد من حيرته ،
فيضطر الى سؤاله عما يوقفه هنا في هذا المكان المهجور.
في هذا المشهد ارى ان الكاتب كان يكتب بأسلوب روائي ، سينمائي ، فهذا المشهد يحتاج الى لقطة عامة ، بواسطة الكرين) او طائرة (الدولبي)، لكي يستعرض المكان بلقطة بان مثلا ، ومن ثم تستقر اللقطة عن الشيخ وهو يلقي الشعر، ان الكاتب كان يكتب بخيال السينارست لذلك كان هذا المشهد يحتاج الى للقطة عامة واسعة لكي تستعرض المكان كله ، ولا يمكن لخشبة المسرح ان تتسع لهذا المشهد لأنه اراد من خلاله استعراض تام وكامل لمدينة البصرة القديمة .
كان الشيخ عندما يردد ابياته الشعرية ، كان يتخيل مدينة البصرة المنقرضة ، مدينة لم يبقى منها سوى المأذنة ، لكن الشاب يفاجئه عندما يقول له انه من مدينة البصرة ، ينبهر الشيخ ولم يصدق الامر لأنه يعتقد بل يؤمن بان هذه المدينة اصبحت من الذكريات.
الشيخ: ( يصرخ باستغراب ويقول) تقول انك بصري ، هل توجد في العراق ارض يقال لها البصرة غير هذه البقعة وهل يوجد في هذه البقعة سكان حتى تقول انك بصري فبحق شيبتي عليك الا ما اخبرتني بالحقيقة الناصعة.
يحاول الشباب ان يوضح للشيخ انه بصري ، والبصرة مدينة موجودة على ارض العراق ولم تندثر وما امامه الا المدينة القديمة، اما المدينة الجديدة فهي على بعد امتار من الموقع الذي يقفون عنده ، يستذكر الشيخ بعد ذلك مدينة (الموفقية) التي كان يعرفها ويعرف اهلها الاغنياء الذين كانوا يعيشون حياة الترف ، وكانوا يتمتعون بالعلم والمعرفة ، لذك فيسأل الشاب ليطمئن على المدينة واهلها وهل لا زالوا مثل ما كان يعرفهم .
الشيخ: ....... اخبرني عن حالة العلوم والمعارف عندكم وكم هو عدد المدارس العلمية العالية التي توجد في بلدتكم وكم هو عدد الطلاب البصريين والطلاب غير البصريين اللذين يدرسون في تلك المدارس.
يؤرخ لنا الكاتب ومن خلال الحوارية هذه، ان الشيخ مهوس بالعلم والمعرفة ، ونعرف كذلك انه كان احد علمائها اللذين كانوا يدرسون في مدارس البصرة كونه رجل دين متعلم ، ويؤرخ لنا كذلك ان البصرة كان يقصدها الطلبة لتلقي العلوم المختلفة ، لوجود المدارس المتخصصة ، وكما نعلم ان المدينة كانت معروفة بعلوم اللغة والطب والرياضيات والنحو ، اذن هو يذكرنا بماضي المدينة ويؤرشف لنا حقيقة كان هو جزءً منها ، لذلك اراد من خلال حواره مع الشاب ان يعرف القارئ او المشاهد مدينة القديمة وعراقتها وما كانت تتمتع به من العلوم والمعرفة، لكن اجابة الشاب كانت الصدمة الكبرى في المسرحية عندما قال للشيخ: (....... لا لا يا سيدي الشيخ ليست توجد (هكذا وردة في النص) عندنا مدارس عالية حتى ولا مدارس دينية منتظمة ولا علماء ولا طلاب علم )، هذه المقارنة الكبيرة بين الماضي والحاضر ارشفها لنا الكاتب من خلال حوارية مأساوية صادمة، بين الشيخ والشاب الذي كان خجلا عند اجابته لأنه عرف البصرة القديمة من خلال الشيخ في بداية تأسيسها عندما ذكر له انها كانت مدينة للعلم والمعرفة وكان يقصدها الطلبة لدراسة العلوم المختلفة ، ومن هنا يمكن للقارئ او المشاهد ان يقوم بمقارنة بسيطة بين ماضي المدينة وحاضرها من خلال حواريات الشيخ والشاب.
كلام الشاب هذا جعل الشيخ (يرتعش وتحملق بعينيه ويقول بحده : كيف تقول ليس يوجد عندنا مدارس ولا علماء ولا طلاب علم فماذا تصنعون بأنفسكم كي تتعلموا العلوم لا شك انكم تسعون في طلبها من بلاد غير بلدكم وهذا عار عليكم......).
يصل بنا الكاتب الى ذروة الحدث، ويحتدم النقاش بين الشيخ الذي يعود بذاكرته الى اواخر القرن السابع الهجري ، والشاب الذي يتحدث عن واقعه الأني المتدهور، فيعود الشيخ يسأل :(........ من الذي يقضي بينكم ومن يفتي لكم ومن يعلمكم امور دينكم)
الشاب: ان من ذكرتهم يأتوننا من بلاد الغير.
تثور ثائرة الشيخ لما سمع كلام الشاب ، كيف لا وهو ابو محمد القاسم الحريري البصري ، فينهال عليه بسيل من النصائح والتوجيهات ، التي طلب من الشاب ايصالها للناس اجمعين حيث قال: (انى لكم من ابناء لقد اخجلتمونا فلا نرضى عنكم الا اذا اصلحتم شأنكم وصنتم حالكم واتحدتم على محاربة الجهل واستئصال جراثيمه الفتاكة وتناذرتم في تشييد معاهد العلم ونشر المعارف واخذتم في الترقي والعمران كي تحيوا آثارنا، واستعيدوا مجدنا، وعند ذلك تستحقونا ان تلقبوا بصريين بكل معنى الكلمة).
وهنا من واجبي ان اقول للشيخ ابو محمد القاسم ان شاعرنا البصري الكبير كاظم الحجاج يقول لك اليوم:(البصريون .. نحن من نُطفئُ الشعرَ حين ننام ، ونؤرقُ مصباحنا للضيوف).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق