الجماليات عند« إدغار موران»
لقد أخذ موضوع الجماليات حيزا هاما في الدراسات الإنسانية سيما في العصر الحديث، واسهاما في هذا المجال ارتأيت تقديم قراءة في انتاج أبرز أهل الاختصاص باختيار كتاب لـ « إدغار موران» بعنوان " في الجماليات" لإنجاز هذه المقالة المتواضعة. مقسمين هذا المجهود البسيط إلى ثلاث محطات خصصنا الأولى منها للإطار العام للجماليات، والثانية للفرد المبدع ودوره، والأخيرة لصلة الجماليات بالواقع.
في الإطار العام للجماليات:
ينطلق موران في كتابه هذا من تناوله لـ"الإحساس" باعتباره من أهم الآليات المعتمدة في ميدان الجماليات، لكن بالرغم من اعتباره الإحساس بالجمال هو ذلك الشعور باللذة والإعجاب، إلا أنه في ذات الوقت يعترف لنا بأنه شعور يصعب تعريفه، ذلك أن كل واحد منا يشعر به في ظروف مختلفة، فالشعور الجمالي ينبني على معايير وذوق ذو ثقافتين خاصتين. ومع هذا، فالشعور الجمالي يتميز بصبغة خاصة هي أنه "عام جداً"، فالجمال لا توفره لنا الأعمال الفنية وحسب. ولكن يأتينا أيضا من الطبيعة، وتساءل مروان في هذا الصدد: هل توفر الطبيعة مقومات الجمال لخدمة ذوق الإنسان وحده؟ أي أنها لا تخدم ذاتها أيضا؟.
يخلص موران للإجابة عن هذا الإشكال إلى أن ما تحتويه الطبيعة من جمال سواء في الحيوان أو النبات، والتي تستند على هذه المكونات الجمالية كي تمارس "الإغواء" الجنسي للتكاثر (للحيوانات والنباتات على حد سواء)، فإنها بذلك تخدم ذاتها أيضا. ويستنتج أن هذه الممارسة تشترك فيها مع الإنسان أيضا الذي يسعى إلى "الغواية" هو الآخر من خلال استغلال وتوظيف كل ما يفر الجمال فيه من مساحيق، وثياب، وأمكنة...إلخ.
وبعد أن أجال موران نظره في "جماليات الطبيعة" انتقل إلى تساؤل آخر أكثر عمقاً وهو الذي يخص "طبيعة الجماليات"؟ فأين تتجلى في نظره هذه الطبيعة؟.
في تحليله لطبيعة الجماليات يخلص موران إلى مسألة هامة وهي أن هذه الطبيعة تتجلى في "الحالة الشعرية" التي نترجم بها انفعالاتنا ومشاعرنا حول الحب واللعب والاحتفال، لأن الحالة الشعرية تعطينا هذه القوة التعبيرية التي تفتقدها " الحالة النثرية" التي يعتبرها بلا لذة أو تعجب. فالحالة الشعرية هي التي تجعلنا نصل إلى مرحلة من "الوجد والتملك" بما يماثل حالة التصوف من غير أن تكون دينية. وبين "الحالة الشعرية" كوسيلة، و"حالة الوجد" تكمن طبيعة الجماليات.
غير أنه من الجدير بالإشارة إلى أن موران لا يستبعد "الحالة النثرية" برمتها من ميدان الجماليات، لكنه يعنى بها اللغة العادية الجافة، أما وإن أدرجت ضمن الفن، على شاكلة فن الخطابة – كما سنرى لاحقا-، فهي تساهم في تفعيل الجمال وإغنائه دون أدنى شك. وحديثنا عن "الفن" هنا يجرنا إلى ما قرره فيلسوفنا بشأنه، إذ يرى أنه إذا كان للفن سحر مّا يقتبسه مما نضفيه عليه نحن من شعور وانفعالات وأحكام، فإن التمييز ضمنه بين "الجميل" و "القبيح" لا يخضع لمعايير محددة متفق عليها. لذا فإنه يعتبر أن الحضارة الغربية قد كانت مخطئة حينما ظلت معتقدة لزمن طويل أن معايير الجمال كونية، وهي تلك القائمة على الجمال الإغريقي، والحال أنها تختلف من مكان إلى مكان، ومن قطر إلى آخر. كما أن موان لا يسلم، في الآن ذاته، بوجود التضاد بين القبح والجمال، لأن وجود هذا التضاد كفيل بأن يوقفهما معًا. لأننا في الواقع نجد جمالا في القبح، وقبيحا في الجمال. مما يعني أن الجمال لن يقصى بتاتا. لذا نجد ما أسماه كاتبنا بـ " جمالية الكارثة" التي تسعى السينما والأدب إلى تبنيه من خلال تصوير الكوارث والحروب بصورة جميلة وممتعة، لها دور إيجابي وجمالي، فهي تجعلنا ندرك بصورة أو بأخرى بأن الوجع أو الموت غير ضارين.
ودوما في جدلية القبح والجمال، ربط موران بين الفن والاستغلال التجاري له، لنتساءل نحن هنا: هل يسلب التعامل التجاري قيمة الفن؟. نجد جوابنا في قول موران بأنه بعد أن تحرر الفن من قيود السلطة والدين، وبالتالي الاستقلال والتخلي عن الإحسان الذي كان يتلقاه منهما، انتقل إلى مرحلة التسويق، هذه العملية التي بها نقيم قيمة العمل الفني من الناحية المادية، كبيع لوحة فنية بثمن باهض، هنا نستشف أن هذه العملية التي قد تبدو لنا ميكانيكية خالية من أي معنى جمالي، تعتبر في حد ذاتها "حكما جماليا"، فلكون تلك اللوحة الفنية رائعة، فهي تستحق ذلك الثمن، أو كما عبرت على ذلك عالمة الاجتماع رايموندمولان: بقولها: « بأن العملية التجارية الناجحة تتحول إلى حكم جمالي».
ننتقل مع فيلسوفنا من هذا الإطار العام الذي هم الجماليات وطبيعتها، ودور الفن فيها، إلى إطار خاص يتعلق بالفرد باعتباره فنانا، كيف يبدع؟ وما رسالته؟.
الفرد: إبداعه ورسالته
يقول موران بأن "الإبداع" إذا ما ارتبط بعالم الحيوان والنبات بالتوالد، فإنه لدى الإنسان ينطلق من عملية الدماغ واليد، وبالتالي فهو يحتاج لدى الإنسان دوما إلى "الإلهام" أو ما يصطلح عليه بـ " الإينجينيوIngegno" باعتبار هذا المصطلح الأخير حسب ج. فيكوهو «تلك الملكة الذهنية التي تمكننا من الربط بين الأشياء المنفصلة بطريقة سريعة ومناسبة وناجحة». هذه الملكة التي حاول إبراز طرق الوصول إليها في التجارب الإنسانية السابقة، إذ تناول حالة "الشامان" الذين رسموا جدران لاسكون، حيث اعتبر أن لهم ملكة إبداعية جعلت منهم فنانين، وفي حالتهم هذه لا يعدو أن يكون الفنان فنانا إلا لكونه "شامانا"، هذا الشامان الذي يعتمد على مواد معينة (مخدرة) للوصول إلى مرحلة الإلهام والإبداع، هو مقياس المبدع عند موران نفسه، فهو يعتبر الفنان ما بعد الشامان يصل هو الآخر إلى مرحلة الإبداع وهو مخدر بطريقة أو بأخرى، الفرق أن الفنان المعاصر يمكنه أن يصل إلى هذه المرحلة دون أية مادة مخدرة بمعناها التقليدي، فما يشترك فيه مع الشامان هو تلك "النشوة" التي يصلها وهو بصدد إبداعه، مع تأكيده إلى أن الوصول إلى النشوة أو نصف النشوة يمكن حدوثه مع فعل الإبداع مع أو دون الوعي اليقظ.
وبعد وصول الفرد لمرحلة الإبداع وخلق الجمال، يجد نفسه أنه أمام القيام بمهمة وهي تبليغ رسالة مّا، ليس للقطر الذي ينتمي إليه وحسب، ولكن إلى البشرية جمعاء، فالفن بالنسبة إليه ليس متعة جمالية، بل عليه أن يلعب دورا في المجتمع. فعمل الفنان الفني والإبداعي يحمل في ثناياه ازدواجية تجمع بين حقيقة الشيء وانعكاسه أو صورته. كالشخص وصورته الفوتوغرافية، فحتى هذه الأخيرة تجعلنا أمام شعور "لا ندري ما هو" متى تعلقت مثلا بأحد أحبابنا. هو الشعور ذاته الذي ينتابنا ونحن نشاهد فيلما وثائقيا يمدنا بالمعلومات والمعرفة، ففي هذا الفيلم نفسه صور تحمل الكثير من الجمال أيضا، والجمال يحمل في طياته رسالة ما. فالرسالة الفنية حسب موران قد تتجلى حتى في العمل النثري المتمثل في الخطابة والرواية والمسرح، بل حتى السينما أضحت اليوم فنا معترفا به يؤدي فيه الفنانون أدورا هامة للغاية في جماليات الفيلم. بل ويقدمون رسائل عن ما هو كائن وما يجب أن يكون في الواقع.
غير أن موران يرى في السينما باعتبارها فن شامل، يعرف نوعا من المفارقات، لأن العمل الفني السينمائي وإن كان يقدم لنا صورة تنطوي على جمالية بما يساعدنا على فهم الإنسان، والشعور بإنسانيتنا، فإن هذه النتيجة الباهرة التي نجحت السينما في تكريسها فينا لا يتجاوز حدود قاعة العرض، إذ أننا نتخلص من هذا الشعور ومن هذا التماهي مع الإنسان التي خلقته فينا المشاهد الفنية السينمائية بمجرد ما نضع أقدامنا في العالم الخارجي. وسرد لنا إدغار موران هنا مثلا رائعا حول فيلم لـ"شارلي شابلان" الذي مثل فيه دور المتشرد فتعاطف معه المشاهدون، لكنهم بمجرد خروجهم من القاعة والتقائهم بالمشردين الحقيقيين حتى طالهم النفور والاشمئزاز منهم.
ومع السينما توسعت رقعت الجماليات، فكما حدث مع الفن السابع، تم الاعتراف أيضا بالرسوم المتحركة وإن كان ذلك بشكل بطيء، لكنها هي الأخرى حظيت بمكانتها المميزة في الأخير كما حدث مع المسلسلات التليفزيونية التي تطورت لتصبح ذات لمسة إبداعية على شاشات التلفاز. حتى الموسيقى تطور مجالها لنجد إلى جانب "الأبرا" موسيقى "الرّاب".
الجماليات والواقع:
في الصفحات الأخيرة من كتابنا، يجعلنا المؤلف نتساءل وإياه: هل نكتفي بعموميات المجال النظري للجماليات أم نبحث لها عن جانب عملي في حياتنا؟ وبأسلوبه هو: هل يعني الإبداع والجماليات، بما يمثلانه من نشوة وإثارة وإلهام، بعدنا وتهربنا من الواقع؟.
يرى إدغار موران، ونحن مقتنعون بما خلص إليه، أن الجماليات حينما يسعى الإنسان إلى تعميمها على مختلف مناحي الحياة في الواقع، إنما يسعى بذلك إلى تحقيق نوع من التوافق بينهما. والقصد من وراء ذلك هو الوصول إلى مرحلة قبول واقعنا والتكيف معه، أي أن هذه العملية تساعدنا من عيش الواقع بالكامل مع وعينا بقسوته. لذا نجد أن للفن والجماليات أدورا عديدة في تعاطينا مع واقعنا، منها أنها تعتبر في حد ذاتها "الثقافة" التي لدينا بما تعنيه هذه الثقافة من مدلولاتها المتنوعة والمتعددة، وأنها أيضا "وسيلة للمعرفة" تحقق وعينا، بناء على ذلك كله، بحقيقة ما نعيشه، تقول لفرانتزليزت: « الفنون هي أضمن طريقة للهروب من العالم، كما أنها أضمن طريقة للتوحد معه». لهذا نجد موران يعتبر دراسة الفنون والجماليات وتعلميها ليس ترفا يمكننا الاستغناء عنه، وإنما يجب إدراجها ضمن المناهج التعليمية منذ الصغر، لأنها تساعد على العيش بشكل واضح وشاعري، بل يتجاوز كل هذا وذاك للقول بأن الجماليات بما تساعدنا عليه من تجاوز " نذالتنا وأنانياتنا" فإنها يمكن أن تساهم في إنقاذ العالم.
خلاصة
يعد كتاب إدغار موران حول "الجماليات" كتابا ماتعا، يفتح نظرنا وتأملاتنا على أفق واسعة ندرك فيها أهمية الفن والجماليات، إن على المستوى النفسي والمعنوي، أو على مستوى العيش والتفاعل مع الواقع بكل مكوناته، ما تعتبره جميلا فيه وما نعده غير ذلك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق