شهدت خشبة مسرح التياترو بتونس العاصمة أخيرا سلسلة عروض أولى لمسرحية “12 jurés en colère” (12 محلفا غاضبا) التي أخرجها جان لوك جارسيا، وقدمها 12 ممثلا على امتداد ساعة ونصف الساعة تقريبا في قاعة غصت بجمهور من مختلف الأعمار.
المسرحية كما جاء في جذاذة العرض مستوحاة من العمل الأسطوري الذي كتبه عام 1953 الأميركي ريجينالد روز، الذي كان آنذاك كاتب سيناريو شابا يبلغ من العمر 23 عامًا قدم العمل المسرحي للتلفزيون الأميركي، ثم تم تعديل هذه المسرحية لتقتبسها السينما سنة 1957 من قبل سيدني لوميت لأول فيلم له مع هنري فوندا وحصل على عدة جوائز.
تحقيق العدل
الرحلة إلى تحقيق العدالة لم تكن سهلة، رحلة قادها عقل إحدى المحلفات المتجرد من كل التأثيرات السابقة
يدخل المحلفون الجنائيون إلى الخشبة يحمل كل منهم كرسيه، ونتعرف على طباعهم تباعا. يجتمعون للنظر في قضية الفتى الأسود ذي الستة عشر عاما المتهم بقتل والده بطعنة سكين في صدره.
تبدأ النقاشات حول قضية الفتى، الجميع متفقون على أنه مذنب، ويستحق الإعدام بالكرسي الكهربائي، كل الأدلة ضده وحتى الشهود ممن سمعوه يهدد أباه بالقتل بصوت عال، ومنهم من جيرانه من سمعه نازلا على الدرج بعد إقدامه على قتل أبيه، والسكين التي وجدت قريبا من مسرح الجريمة، لكن واحدة فقط تقف ضد كل مبررات الإذناب التي يمنحها المحلفون الآخرون، ونمر إلى التصويت على إذناب المتهم، لنجد 11 صوتا تدينه بينما صوت واحد يرفض الإدانة.
إنه صوت واحد لم يتعامل معه بقية المحلفين بجدية، الأغلبية تقر بإذناب الفتى وارتكابه للجريمة، لكن المحلفة الوحيدة التي تشكك في ارتكاب الفتى للجريمة تنجح في استمالة محلفين آخرين إلى رأيها، ليبدأ عدد المشككين في إدانته بالتصاعد من واحد، ثم اثنين، وصولا إلى سبعة، لنبلغ في نهاية العمل أنه حتى الرئيس يجد أن الفتى غير مذنب، ويرتفع عدد المشككين إلى الأغلبية بتصويت 11 محلفا لصالح الفتى.
الرحلة إلى تحقيق العدالة لم تكن سهلة، رحلة قادها العقل، عقل إحدى المحلفات المتجرد من كل التأثيرات السابقة، في نقاش مع حجج المحلفين الآخرين، حجج منطقية تتتالى لتفند الرواية التي تقول بقتل الصبي لأبيه، والسلاح المستعمل، والطريقة التي طعنه بها، وتسقط فصول هذه الرواية تباعا.
يقول الروائي المصري بهاء طاهر “أنا أعرف يا حاتم أن طلب العدل مرض.. ولكنه المرض الوحيد الذي لا يصيب الحيوانات”، العدالة بشرية إذن، إنها نتاج العقل لا العاطفة ولا الغريزة، وهنا يظهر جليا دور العقل في كبح جماح الانفعالات التي انطلق منها المحلفون الآخرون.
النزعات العاطفية والانفعالات
المحلفون المنوط بهم تحقيق العدالة في المسرحية نجد أنهم بشر في النهاية، لكل منهم ميولاته، منهم الفتاة المفرغة من العقل والمولهة بجمالها ورقصاتها ورشاقتها وجسدها، ومنهم العنصرية التي ترى أن هذا الفتى وأمثاله من السود إنما هم مجبولون على الجريمة، وأن أمثاله من عائلات تتكاثر بوتيرة أسرع من مجتمع “نحن”، وهي تقصد به المجتمع الأصيل الأبيض، في نبرة عنصرية عالية، تطرحها المحلفة بقوة واشمئزاز وعنجهية أحيانا.
من المحلفين العمياء التي لم تخرج في هذا العرض عن الصورة النمطية للأعمى الحكيم والمدهش باستنتاجاته، وهي الصورة التي استهلكتها الروايات والأفلام والأعمال الفنية حتى بات من الضروري أن نجد فاقد البصر بشكل أوتوماتيكي الحكيم والواعظ والخيّر. ونجد منهم من عانى في صباه من مشاكل اجتماعية وعاش في بيئة صعبة ومجتمع مفكك.
المحلفون من يمثلون العدالة في أقصى صورها ما هم في النهاية إلا أناس عاديون تتنازعهم ميولات متعددة وعواطف متناقضة.
وهنا غير المخرج الشخصيات من رجال بيض إلى نساء في أغلبهم، وذلك في إطار لعبة تريد الذهاب أكثر إلى العاطفة المكشوفة في تركيز كلي على موضوع العدالة التي تضيع أيا كان المشرف عليها إذا استندت إلى أي تمييز ديني أو عرقي أو ثقافي أو جنسي أو طبقي وغيرها.
يقول ملكوم إكس “أريد أن أكون مع الحقيقة كيفما كان مصدرها ومع العدل المجرد أياَ كان المستفيد أو المتضرر منه ومع الإنسان أولا وقبل كل شيء ومع الإنسانية جمعاء”. وهذا ما يحاول ترسيخه العمل، فالمحلفة التي ناقشت زيف الأدلة واضطراب روايات الشهود وعدم منطقيتها، تنجح في تفكيك رواية الإدانة وإسقاطها.
تنفي المسرحية مقولة أن العدالة تقترن بالقوة بالضرورة والقوة تدعو إلى الأغلبية، وتثبت أن صوت حق واحدا ضعيفا وسط الجماعة يمكنه أن يحدث التغيير، فقط بالاعتماد على العقل والثبات على المنطق والابتعاد عن الانفعالات، والتشبث بالقيم السامية التي تترفع عن كل ما هو شخصي.
سينوغرافيا كانت النافذة التي تطل على المدينة الضخمة بأبراجها، والكراسي المتناقلة من هنا وهناك، والإضاءة الثابتة، في صناعة صورة ثابتة، واكتفى المخرج بأحداث التصويت التي كانت تغير كل مرة من مسار الأحداث وترفع من النسق الدرامي، وهو ما نجح جزئيا في تفادي الملل الذي قد يسببه الثبات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق