الكاتب حسين عبد الخضر |
متنزه كبير يحتوي على العديد من المرافق. ما نراه منه هو الغرفة الزجاجية لحارس المتنزه والبحيرة الصناعية القريبة منها.
الحارس: (يراقب فتى في الخامسة عشرة من عمرة على البحيرة) ياله من فتى غريب الأطوار. كثيرا ما يزور البحيرة. وفي كل مرة يكرر نفس الأفعال وكأنه يمارس طقوسا لدين جديد.
(حركة الفتى تتناغم مع سرد الحارس)
الحارس: ينهض من على المصطبة. يقترب من البحيرة. يتأملها قليلا. يجلس على الشاطئ. ينبطح على بطنه ووجهه فوق الماء. يجلس مرة أخرى ويمد يده إلى الماء ببطء شديد. . يغمس أطراف أطابعه ببطء، ثم يدفع بكفه إلى الماء، يغرف منه، ثم يرفع كفه وينظر إلى الماء الذي اغترفه وكأنه كنز مقدس. يشم رائحتة. يبعد كفه ببطء، ثم يفتح أصابعه لينساب ما حمله إلى البحيرة من جديد. يعود مرة أخرى للجلوس على المصطبة، وفكره يسبح في آماد بعيدة. . الآن، يجب أن أكلمه لأعرف ما هذا الذي يفعله، قبل أن يأخذ كتبه ويذهب.
(يخرج حارس المتنزه من غرفته، ويذهب إلى الفتى الجالس على المصطبة ويجلس إلى جانبه)
الحارس: صباح الخير.
الفتى: صباح النور.
الحارس: هل تسمح لي بسؤال؟
الفتى: تفضل.
الحارس: أأنت ساحر أم مجرد تلميذ هارب من المدرسة؟
الفتى: لا هذا ولا ذاك.
الحارس: ما هذا الذي تفعله عند البحيرة؟
الفتى: ماذا تقصد؟
الحارس: تنظر إلى الماء. تكلم نفسك. تنظر إلى السماء. تكلم نفسك. من ينظر إليك يظن أنك مجنون.
الفتى: (يضحك بهدوء، ثم يطلق حسرة) الماء يا سيدي رسالة مدهشة من الله لنا.
الحارس: الماء رسالة!
الفتى: نعم، رسالة عظيمة، واضحة جدا وصريحة.
الحارس: ومن الله أيضا!
الفتى: نعم، من الله أيضا. الماء عالم آخر. أكثر كثافة من عالمنا، قريب منه لكنه لا يتداخل معه. في الماء تعيش مخلوقات مختلفة تموت إذا غادرت عالمها إلى عالمنا، لأن عالمنا يغلفه الهواء. هل تعرف ماذا يعني هذا؟
الحارس: ماذا؟
الفتى: أن ترى عالما مختلفا عن عالمك.
الحارس: لا يمكنني أن أعرف ماذا يرى المجانين.
الفتى: المجانين يا سيدي!
الحارس: ومن غير المجانين يرون في الماء رسالة؟!
الفتى: (بصوت هادئ) هذه رسالة من الله تعالى تقول لنا أن وراء عالمكم هذا عالما آخر، أقل كثافة، ولن تستطيعوا الانتقال إليه إلا بعد الموت. . بعد الموت نتجرد من أجسامنا هذه كما تتجرد السمكة من جسمها عندما تنتقل إلى عالمنا.
الحارس: تأملات شاعر.
الفتى: (يكمل دون أن يلتفت إلى تعليق الحارس) ربما حاولت بعض المخلوقات التي تعيش قريبا من عالمنا نقل خبر وجودنا إلى المخلوقات المائية الأخرى التي تعيش في ظلمات أعماق الماء، ربما صدّقتها بعض تلك المخلوقات وكذّبتها أخرى.
الحارس: أنت فتى مجنون حقا، وجنونك هذا أكثر خطرا من جنون الآخرين.
الفتى: هل تشك في كلامي؟
الحارس: يبدو لي أنك مجنون، وربما ركبك جني.
الفتى: كيف لي أن أنفي ذلكّ؟!
الحارس: لا تستطيع نفيه لأنه الحقيقة.
الفتى: ولا تستطيع إثباته لأنه كذب.
الحارس: (بنبرة ليّنة) أنت فتى صغير، مازلت في بداية طريقك في هذه الحياة، أمامك الكثير لتعمله غير هذه التأملات السخيفة في الماء. من في سنك الآن يجلسون على الفيس بوك والأنيستاغرام، يراسلون حبيباتهم ويستمتعون بأوقاتهم. يفعلون هذا لأنهم عقلاء. أما أنت فتضيع وقتك في قراءة رسائل الماء. . رسائل الماء! لماذا؟ لأنك مجنون.
الفتى: يمكنني أن أباريك في أي نقاش منطقي وأتغلب عليك لتعرف من هو المجنون.
الحارس: (ينهض من على المصطبة، يتكلم وهو يدور حولها، بينما يكمل الفتى جلسته بهدوء) لن أتبارى في نقاش مع فتى من سن أولادي. اسمعني جيدا. هذا المتنزه مكان للعشاق، والسكارى واللوطيين، ولا عبي كرة القدم، والناس العقلاء الذين يريدون تمضية أوقاتاً لطيفة،ثم يرحلون بسلام. ولن أسمح لك، مهما كلفني الثمن، بتعكير صفو المتنزه الآمن.
الفتى: هل تقصد أنك ستمنعني من دخول المتنزه؟!
الحارس: نعم، أمنعك.
الفتى: المتنزه مكان عام.
الحارس: للعقلاء فقط، وليس لمجانين يفكرون في الانتحار.
الفتى: الانتحار!
الحارس: نعم وألف نعم، رأيتك وأنت تهم بأن تلقي بنفسك في البحيرة أكثر من مرة. ارحل فورا.
الفتى: (مصدوما) أنت تكذب.
الحارس: (يفخم نبرة صوته، ويهمس في أذن الفتى) ولماذا لا أكذب؟! كل الطرق مشروعة للملك في سبيل الحفاظ على أمن مملكته، وله أن يطرد منها من يشاء من رعيته المشاغبين. أنصت إليّ جيدا. في هذه المرحلة سأكذب، أما في المرة القادمة فسأستخدم وسيلة أخرى. لن تنفذ وسائلي، وأنت تعرف أيها الفتى المتأمل في الماء ما هي الوسيلة الأخيرة.
الفتى: المجنون يا سيدي هو حارس المتنزه الذي يظن نفسه ملكا، ويتحدث عن وسائل حماية مملكته.
الحارس: فتى مسكين، قرأت رسائل الماء وفشلت في قراءة رسائل الناس. أنظر إلى وجهي جيدا. . هل يبدو لك أني حارس متنزه.
الفتى: (يتأمل وجه الحارس، يصرخ) من أنت؟
الحارس: يكفي أن تعرف هذا الآن. أنني لست مجرد حارس.
الفتى: أنت أيها الرجل المسكين عالم غامض وبعيد. أنت ككائن غريب يعيش في ظلمات البحر.
الحارس: (يرفع يده ليضرب الفتى) اخرس.
الفتى: (يمسك بيد الحارس قبل أن هوي على وجهه) حساباتك خاطئة دائما يا حارس المتنزه.
الحارس: (وهو يتألم) أفلت يدي يا هذا.
الفتى: ليس قبل أن تقر باحترام قوانين المتنزه.
الحارس: أقر.
الفتى: ( يفلت يد الحارس) عد إلى وكرك الآن.
(يعود حارس المتنزه إلى غرفته. يذهب الفتى إلى البحيرة مرة أخرى. ينحني ويرفع بكفه قليلا من الماء. يفرج أصابعه، فينساب الماء)
الفتى: ( للجمهور) رسائل الماء واضحة، ورسائل الوجوه أيضا. في كل مكان من العالم توجد الرسائل، ولا يمكن لقوة في الدنيا أن تخفي رسالة.
(يؤدي حارس المتنزه حركات في غرفته توحي بأن الفتى مجنون وسوف يُقتل)
ستار
*Husayna73@yahoo.com
الناصرية
3/5/ 2022
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق