شوارع خلفية- إلهام محمد |
ما هو الشعر؟ لو سألت كل شاعر أو قارئ على حدة لكان له رأي مختلف. نفس الشخص إذا عدت لتسأله بعد زمن سيتغير مفهومه للشعر. وأعتقد أن أقرب فن إلى هذا اللاثبات الشعري هو المسرح.
ليس من باب المصادفة اجتماع المسرح بالشعر فالشعراء منذ أسخيليوس يقودون اللعب المسرحي أبعد من النص الذي يؤلفونه فيه، لذا لا نحتاج اليوم إلى تذكير بدور الشعر في المسرح. لكن بعيدا عن هذا التشابه البعيد يلفت انتباهي تشابه آخر اليوم وراهنا.
المسرح والشعر
كلما قدم شاعر ما قصيدة مكتوبة أو مسموعة أو حتى مؤداة، يشعر القارئ أو المتلقي باندفاع إلى شيء ما غامض ومجهول، قد يعجب بالقصيدة، ولكنه قد يبدي فيها رأيه الذوقي أو الشعوري وحتى المعرفي الخاص، الذي عادة ما يبدأ بـ “ماذا لو قال الشاعر كذا بدل كذا”، وأحيانا يلجأ بعضهم إلى هدم القصيدة تحت جملة سهلة “ليس هذا المطلوب”، إذا سألته ما المطلوب، ستفهم أنه لا يعرف تحديدا ما هو.
ألا ينطبق هذا على المسرح أيضا؟ الجميع يريدون منه أن يكون شيئا أهم وأرقى وأجمل وأكثر تأثيرا…؟ كل صيغة ممكنة للتفضيل، لكن هل هذا حاسم؟
إن تشابك المسرح المباشر مع متلقيه من جانب عاطفي ونفسي وفكري يجعل من المتلقي واحدا من صناع العرض، وإن كان هذا مطلوبا مع التنوع في الآراء الذي يخلقه، فإن المساحة الضبابية التي تترسخ عند كل متلق هي ما يجب الالتفات إليه.
تلك المنطقة الضبابية تشكل قوة الشعر كما هي قوة المسرح، لكن أن تتّسع رقعتها على حساب آليات التلقي الواعي هو ما يدعو إلى القلق، إذ من الضروري أن نرسّخ المسرح فعل وعي لا فعل تخدير عاطفي، وهي مسائل أعتقد تجاوزناها مع المسرح الملحمي منذ مطلع القرن العشرين.
وقد لاحظت اختلاف الآراء التقييمية في تناول العروض المسرحية التي قدمتها الدورة الحادية والثلاثون من أيام الشارقة المسرحية، وإن طغت على أغلبها مداخلات إخراجية وتمثلات عميقة، على غرار المداخلات المميزة للمسرحي السوري عجاج سليم أو المسرحي الأردني يوسف حمدان وغيرهما، فإن بعضها الآخر اندرج في باب ماذا لو؟ تلك المنطقة الضبابية الانفعالية، المطلوبة طبعا، ولكنها لا تكفي.
قدرات تمثيلية
قدمت الدورة الحادية والثلاثون من أيام الشارقة المسرحية أخيرا عددا من العروض المتنوعة، وإن طغى على بعضها التصور الكلاسيكي للمسرح فإن البعض الآخر استغل توفر التكنولوجيا والمساحة المكانية والقدرة الإنتاجية ليحاول صناعة مسرح مختلف، ولو أن ذلك قاد بعضهم إلى ملء المسرح سينوغرافيا بشكل مبالغ أحيانا، لكنه ينبئ بانفتاح على الواقع الرقمي والتكنولوجي وعلى العروض العالمية أيضا التي يمكن الاستلهام منها.
رحل النهار- محمد العامري الجهد الكبير الذي أضم صوتي إلى أصوات آخرين من الحضور كان للممثلين بدرجة أولى. تفاجأت بطاقات تعبيرية كبيرة لممثلين على الخشبة، وخاصة العناصر النسائية والشباب، ورغم التفاوت في الطاقات والموهبة والقدرات التمثيلية، إلا أنني لا يمكنني إلا أن أشيد بالجهد الكبير الذي قدمه الممثلون، حتى وهم يؤدون أعمالا قد لا ترقى إلى تطلعات الجمهور ويتحملون خيارات إخراجية قد لا تبدو موفقة أو هي في بعض الأحيان من العبث وقلة الخبرة. |
ليس من السهل أن تخلق ممثلات وممثلين في بيئة محافظة مثل البيئة الخليجية، لذا التحدي مضاعف على من يختار التمثيل هواية أو مهنة واحترافا، ورغم عدم تعدد العروض بالشكل الكافي، فإن الممثلين قدموا أداء لافتا في الحركة والصوت والطاقة والتقمص في وعي يبدو جليا.
التنحيف ضروري
|
|
الإخراج المسرحي ليس تجميعا لمواد ولحظة هاوية، بل هو مشروع كامل، وهو ربما ما مثل نقطة تفوق للمخرج محمد العامري صاحب العرض الفائز بالجائزة الكبرى للأيام بعنوان “رحل النهار” نص إسماعيل عبدالله، إذ يحاول أن يحفر له مشروعا مختلفا من خلال البحث في وسائله لترك بصمته.
يحشد العامري عناصره السينوغرافية والضوئية ويدمج بينها لخلق عمل بنفس ملحمي، ويبقى التساؤل مشروعا إلى أيّ حد وُفّق في ذلك؟ ولماذا كل هذا الحشد للعناصر؟ أهو خوف من الفراغ؟ أم وعي بضرورة خلق عمل ملحمي مشحون؟
التساؤلات كثيرة، لكن التجارب حاولت في جلها أن تقدم مسرحا مشحونا وممتلئا، على أن مدة كل مسرحية من مسرحيات الأيام لم تتجاوز الساعة أو ساعة وربع ساعة في الأقصى.
من ناحية أخرى توفر الأيام جمهورا عربيا أيضا من طراز عال من أكاديميين وكتاب ومسرحيين ومتابعين وهو ما يمثل فرصة للفرق المسرحية المشاركة لتقدم أفضل ما لديها، وهي أيضا فرصة لأصحاب الأعمال المسرحية لعرض أعمال تحاول أن تكون مبهرة ودقيقة، وهذا ما أسقط بعضها في التحشيد المجاني للمدارس والرموز والعناصر السينوغرافية والأدائية وغيرها مما يدرج في باب التخمة، التي يمكن تجاوزها ببعض الدربة والتنحيف، فكما كتابة الشعر كتابة بالممحاة والتشذيب على نهج حوليات زهير بن أبي سلمى، فالمسرح أيضا يتطور مع كل عرض ويشذب نفسه بالممارسة والتكرار.
الانطباع ذو حدين
صهيل الطين - مهند كريم |
أعود من حيث بدأت، الانطباع في التلقي أمر جيد ومطلوب وتورط في العمل الفني، لكن أن يصبح الحاكم بمزاجية في مسار التقييم، فهذا يؤدي إلى خلل في تطوير العمل الفني وفي تنوع عمليات تلقيه.
المتلقون متنوعون بالضرورة، لذا يحتمل كل عمل أكثر من رأي، ربما ترجّح بعضها على الأخرى، أو تكون أصوات أصحابها أعلى، لكنها مطلقا لن تؤسس بوثوقيتها لمشهد من النقاش الخلاق.
المسرح سيبقى توأم الشعر، لا فضل لأحدهما على الآخر على عكس ما يدّعي بعض الشعراء والمسرحيين، ومصيرهما يبدو واحدا، رغم اختلاف المسارات التي اتخذاها منذ قرون، يلتقيان ويتنافران ليلتقيا مجددا.
لكن تكامل الشعر مع المسرح ليس فقط الاشتغال على القصائد مسرحيا، بما يطرحه من تحديات كبيرة، وإنما بالانتباه إلى أدق التفاصيل والحركات والأصوات، فالشعر يرفض الزوائد ويرفض التكرار المجاني ويرفض البعد الواحد والقراءة الواحدة، ألا يشبهه المسرح هنا؟
ثم في إشارتي إلى المسرح الملحمي، فإنني ألاحظ عودة بشكل ما إلى المسرح المثير للعواطف والساعي إلى الاندماج، ولم ألحظ كثيرا ما عدا في بعض الأعمال التي قدمتها الأيام ذلك التمشي نحو التغريب وخلق مساحة مع العرض للتفكير والخروج من التماهي، وهو ما قدمته بشكل بسيط في حادثة الخروج النسبي من الخشبة لمسرحية “رحل النهار”.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق