الحرب، ذلك الضيف الثقيل الذي يحلّ على الشعوب رغما عنها، فيدمر كل القيم الإنسانية المتبقية، ويكتب للمنتصرين مجدا زائفا، هو أيضا ضيف ثقيل على المسرح، فمن خلاله تنكشف كل عورات المجتمعات وتظهر الحقائق ويتذكر الإنسان وجعا لا يمحوه الزمن.
لم يتوقف الكثير من المسرحيين عن الإنتاج خلال العامين الماضيين وذلك رغم الجائحة التي أوقفت معالم الحياة الطبيعية في أغلب دول العالم، وأحالت العاملين في قطاعات فنية على البطالة القسرية.
ومن هؤلاء، المخرج الأردني فراس المصري، الذي أخرج مع فرقة المسرح الحرّ خلال العام 2020 مسرحية “خط التماس” لينقل المشاهد -بطرح كوميدي جاد- من قلب الأزمة العالمية إلى واقع الدول العربية، وما تعانيه من حالة من عدم الاستقرار والحروب المتعاقبة.
وعرضت “خط التماس” في بعض المهرجانات المسرحية التي عقدت باحتشام، لتصبح بعد ذلك متاحة للجمهور على موقع يوتيوب وصفحات الهيئة العربية للمسرح، مواكبة التغيرات التي فرضتها الجائحة والتي جعلت من العروض المسرحية تصبح مادة فنية مصورة بالإمكان مشاهدتها خارج قاعات العرض.
حرب منذ الأزل
المسرحية تحاكي الواقع العربي اللحظي وما وصل إليه من حالة تشظّ وتناثر وتباعد تجعله يبحث عن نقاط الالتقاء فلا يجدها
إن الحروب التي نراها ونسمع عنها وربما نعيشها خلال عصرنا الحالي ليست الأولى ولا هي الأخيرة، بل هي واحدة في سلسلة متواصلة تؤكد عشق الإنسان لسفك الدماء.
هذا ما يمكن أن تختصره المسرحية للمشاهد، في توليفة درامية طرحت الصراع الأزلي بين الحب والحرب والحياة والموت.
وتبدأ المسرحية وتنتهي بديكور بسيط يتلخّص فقط في صندوق أسود صغير وباقة من الورود ودائرة كبرى تشبه القمر في الخلفية تصبح أجساد الممثلين وحركاتهم ديكور العرض، رغم أنه على الخشبة لا وجود إلا لثلاث شخصيات، رجلين وامرأة، زوج وزوجته ومؤطره في رسالة الدكتوراه.
إنه طالب الدكتوراه يزن أبوسليم الذي يبحث في التاريخ ويحاول تقديمه بنظرته الخاصة للأحداث والوقائع، فيعيد التمحيص والتدقيق في كل الحروب المتعاقبة على العالم العربي، ليعيدها إلى مصدرها الأول أو ربما نسختها الأولى والمتكررة، قصة “هابيل وقابيل”.
يبحر الطالب عبر رسالته التي تحمل عنوان “إحصاء جماجم الجنود الذين ماتوا في كل الحروب”، في عالم الجماجم والموت ويمعن النظر في الإحصائيات لتتحول الجماجم إلى قناديل تخبرهم بالحقائق المخفية، وبتاريخ عربي كتب بالدم والخوف، بالزيف والكذب الذي يحاول أبوسليم إيضاحه في رسالته أثناء نقاشها مع الأستاذ.
والأستاذ الذي يجسده الممثل علي العليان، يبدو شخصا معتزا بنفسه، يدعي المعرفة المطلقة، والحقيقة الوحيدة، فهو وحده من يعرف حقائق الحروب بداية من داحس والغبراء إلى حرب العام 1967 بين إسرائيل والتحالف العربي، ونكسة السابع والستين وكواليسها، ثم حرب الخليج، والحرب ضدّ الإرهاب، وظهور التنظيمات الجهادية كتنظيم الدولة الإسلامية “داعش”.
وهو في المسرحية أستاذ لكنه برتبة جنرال، ويرتدي قميصا موشى بالكثير من النجوم والشارات في إشارة إلى دكتاتورية المسؤولين العرب وعسكرة الفكرة وتضييق الخناق على الباحثين والمفكرين.
وتجمع الشخصيتان المتحاورتان بين النقد والسخرية وعوالم الكوميديا السوداء التي تسافر بالمشاهد نحو تناقضات لا تنتهي.
وكما يقول الأستاذ في العمل “سوف تموت رميا بالرصاص لأنك تكتب التاريخ بعاطفة” فإن المسرحية توضح أن كل شيء يمكن تطبيقه بقوة السلاح وأن العنف نهج إنساني بامتياز يفرضه القوي على الضعيف.
وكما توضح لنا المسرحية التناقض بين الطالب وأستاذه فإنها تحاكي أيضا الواقع العربي اللحظي وما وصل إليه من حالة تشظّ وتناثر وتباعد تجعله يبحث عن نقاط الالتقاء فلا يجدها.
واقع مفكك
لقد أصبحت خطوط التماس مهدرجة وضبابية في ظل واقع عربي متشرذم، وبروز تيارات أخذت الدين ستارا لتخريب واقعنا العربي، وانطلاقا من هذه الفكرة تشرّح المسرحية الأردنية أسباب تفكك المجتمعات العربية، محليا وإقليميا، فتضع تحت المجهر كل مشكلات البلدان العربية عبر التاريخ والتي لم يتعلم منها العرب فكانوا ولا يزالون ضحية الحروب المتواترة.
وتبدو المسرحية وكأنها درس عميق في التاريخ، لكنه درس من وجهة نظر فنية، تسخر من الحروب وتبحث عن الدروس والعبر فيها، فتستحضر للمتفرّج حرب داحس والغبراء وسقوط الدولة العباسية، ثم حرب الخليج والعشرية السوداء في الجزائر، واحتلال فلسطين وتقسيمها وصولا إلى الحروب التي تقودها داعش في سوريا والعراق باسم الدين، وثورات الربيع العربي التي كانت طعما للعرب يأملون أن يحمل لهم الحرية والازدهار لكنه يجد نفسه أمام مجتمعات منقسمة أكثر على نفسها ونسب تعصّب ترتفع يوما تلو الآخر، وتدفع جميعها الفرد إلى الانعزال والبحث عن فرص للهجرة نحو الغرب.
المسرحية عرضت في بعض المهرجانات المسرحية التي عقدت باحتشام، لتصبح بعد ذلك متاحة للجمهور على موقع يوتيوب وصفحات الهيئة العربية للمسرح
ويقوم هذا العمل المسرحي على مسارين دراميين رئيسيين، أولهما خط البحث عن الوجع والنبش في التراكمات القاسية للحروب وتجسّد هذا المسار عبر تقنية المباشرتية الخطابية المسرحية في حوار بين شخصية “الزوج” (الطالب الباحث في رسالة دكتوراه) و”البروفيسور” المشرف على بحثه، أما المسار الثاني فهو قائم على التفاعلات المنطوقة للزوجة “روح” التي تعيش على أمل أن تُرزق بطفل وتقوم بطقوس تناجي فيها القمر لتحقيق مرادها.
وحملت شخصية روح في المسرحية شعار الحياة والحب والأمل في غد أفضل لمواجهة بشاعة مخلّفات الحرب من ألم وفقر وجوع، قتامة هذه المخلّفات فرضها تشبث زوجها بتنفيذ بحثه ونقد “البروفيسور” لعمله.
وروح هنا، الأنثى المتزنة ذات العقل الرصين التي تحلل الأمور بالمنطق وتبتعد عن التعصب ورغم أنها كانت الأنثى الوحيدة في العمل، وذات حضور أقل سطوة من البقية إلا أنها كانت الأكثر تأثيرا، فهي من يعدل كفة الحياة وموازين القوى وتخوض حربها بهدوء كي تنتصر للحياة وتحارب رجلا يبحث فقط في الموت ويحلله.
“خط التماس” أبرزت قدرة المرأة على النجاح في كل حرب تخوضها، فأعادت المشاهد إلى أسماء بطلات خلدهن التاريخ ومنهن من وقفن سدّا منيعا في وجه الحرب والموت والظلم.
إنها مسرحية تحمل جدليات سياسية واجتماعية تتسلّل فيها أساليب السخرية ولكن بنكهة كوميدية جادّة، قام بأدوراها كل من الممثلين علي عليان، ومرام أبوالهيجاء، وإياد شطناوي. وسينغوغرافيا محمد المراشدة، وكريوجراف آن قرة ليان، والمواد الفيلمية أحمد الفالح، وإدارة إنتاج رناد ثلجي، ومساعد مخرج يزن أبوسليم، وإدارة خشبة زاهي حمامرة، وصياغة نص علي عليان عن مجموعة من النصوص الروائية العربية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق