تصنيفات مسرحية

الأحد، 22 مايو 2022

ياراجويا متعة القراءة وإغواء الفرجة / أ.د. *صوفيا أحمد عباس

مجلة الفنون المسرحية
أ.د.صوفيا أحمد عباس 


ياراجويا متعة القراءة وإغواء الفرجة


"ياراجويا" رائعة الكاتب عادل البطوسي مونودراما من نوعٍ غير مسبُوق، إنَّها مزدوجة بقدر ما هي متفرِّدة، نسيجٌ في نسيجين، تتحدَّث إلى النفس وعن النفس، وإلى الآخر وعن الآخر، جَمَعَ فيها كاتبها الحلم الضائع والأمل المفقود والحب المنشود والمعاناة والعذاب وتحدِّي الغواية وقسوة الحياة حين يفتقد الحلم بصرف النظر عن طبيعة هذا الحلم ... 

وإن كان البطوسي قد إختار من بين الأحلام حلم الطفل المنتظر بما يحمل من البراءة وانتظار الأمل الذي يشعل الحياة بهجة وألقاً، الطفل هو التوق الدائم للعالم البرئ النقي حين تهزمنا الشرور والحقد الدفين في الصدور، "ياراجويا" ليست إلا نحن تتحدَّث لغتنا وتعبِّر عن أحلامنا الضائعة وبحثنا المُضني عن كيفيَّة تحقيقها رغم كل الصعوبات، وقد ننجح مرَّة ولكننا نفشل مرَّات أكثر فهناك من يتربَّص بسعادتنا ولا يسرّه تحقيق حلم البراءة، وبوعي ودقة رؤى يدرك كاتبها دخيلة النفس البشريَّة بوجهيها ـ الرجل والمرأة ـ وما يعتمل في صدر كل منهما من توق ولهفة ومقاومة وتمرُّد حملت "ياراجويا" وجعاً خاصاً مقسوماً بين "يارا" و"جويا" بيد أنه صار همَّاً عاماً يلمس وجع الجميع وتلك مزية كتابات المبدعين حين لا يقف إبداعهم عند حدٍّ بعينه بل ينطلق ليتجاوز المحدود إلى المطلق ...

تضفَّرت "ياراجويا" بجدائل الدراما والفن التشكيلي والرقص التعبيري والموسيقى وفن النحت فصارت قصيدة إنسانيَّة تشي عن ثقافة الكاتب المتنوِّعة الممزوجة بكل أنواع الفن ... 

ولم يكتف عادل البطوسي بهذا القدر من إمتلاك الأدوات بل إنطلق من وعيه العميق بتقنيات الكتابة إلى إدراكٍ متميِّز بتقنيات الإخراج فجاءت تعليماته أشبه بخريطة إخراجية كاملة لكل من تأخذه غواية الإخراج لعمل مثل "ياراجويا" إلى حد تصارع موهبته مع موهبة كاتب يعي بتمكُّن متملكات إخراج المسرحية ...

كتب البطوسي العمل بلغة شعرية فضفاضة أخَّاذة لا تملك مع قراءتها للمرة الأولى أن تتوقف لحظة لتفكِّر فهي تحمل القارئ حملاً على بساطٍ من الريح ما أن يعتليه حتى يطير به في سهولةٍ ويسرٍ وسلاسةٍ فتجعله عازفاً عن النزول والعودة إلى الأرض، وإنما تجعله توَّاقاً إلى دوام التحليق ، يطوِّف به البساط في كل مكان ليرى العالم من علٍ فيعرف كم هو صغير صغير مهما بدا في الواقع المعيش كبيرا وكم هي العوالم العلوية نقية مثالية مقارنة بسفلية العوالم الأرضية بقاطنيها... 

حمَّل الكاتب عمله بأجمل لحظات الإنسانيَّة حين تبوح وتفصح وتعترف وتضع الذات أمام الذات دون زيف أو إخفاء أو أمام الآخر دون خوف أو إعفاء فمع البوح يأتي الخلاص وفي الإعتراف يكون التطهير ....

 "ياراجويا" نصٌّ حداثيٌّ أو ربما بعد حداثي، لا يهم تصنيفه ولكن يكفي أثره الطابع على شعور ونفس قارئه، متميِّز من أوله حتى آخره، لم يخفت إيقاعه لحظة، يدهشه من لحظة إختيار كاتبه لتسميته مونودراما مزدوجة، يظن به من الوهلة الأولى أنه نص يكفر بقيود المونودراما ويضرب بضوابطها عرض الحائط فما أن يبدأ قراءتها حتى يعيش مع "يارا" كل ضوابط المونو، ومن إعترافاتها ومعاناتها وصدقها يدلف به دون أن يعرف كيف ومتى إلى "جويا" فينزلق معه في مونو جديدة فتلهث الأنفاس مرَّة ثانية مع الحكي والبوح والإعتراف والخلاص والتطهير، وحين ينتهي "جويا" نجد أنفسنا نتنقَّل من "يارا"إلى "جويا" ومن "جويا" إلى "يارا" فنصنع بأنفسنا دراما جديدة بينهما تقوم على تركيب ومنطقة الحوارين فكل ما سبق وقرأناه في "يارا" تجيب عنه كلمات "جويا" وكل ما اعترانا من خلخلة عقلية في محاولة الفصل بين الصدق والإدعاء أو بين من صدق ومن إدَّعى حين تحدث "جويا" يفصل فيه حديث "يارا" ..

والزمن عند البطوسي كل الأزمنة أنه الزمن الواقعي والخيالي والعبثي وزمن الحلم يطول ويقصر ويقف ويقفز بين أنامله ووفق مقتضيات شخوصه التي يرسمها برؤيته ... 

هكذا وضعنا البطوسي في حالة عجيبة من التجريب الفني حتى نحن كنا أحد أدوات تجريبه، نقرأ "ياراجويا" ونراها معروضة حاضرة في نفس الوقت وبذات الأنفاس ..

ياراجويا ـ من وجهة نظري ـ نصٌ فلسفيٌّ عميق يستدعي محفِّزات التأمُّل جاء في شكلٍ شعريٍّ منهمرٍ كالمطر يحيي العقل الراكد وبقالب فنِّي غير مسبوق إمتلأ بالحكمة المصبوبة وبالفهم العميق بطبائع الذات الإنسانية ومناطق توقها وعزوفها وإشارات كبريائها وقهرها وأسباب إنتصارها وانكسارها ..

"ياراجويا" تخلَّقت في فكر كاتب فيلسوف وتشكَّلت بأنامل شاعر موهوب وبدمعةٍ معلَّقةٍ في عين "يارا" وصرخة حبيسة في صدر "جويا" ....

* رئيس قسم المسرح ـ جامعة الإسكندرية ـ ج.م.ع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق