كم سررنا بتقديم أحد عروضنا المسرحية في قاعة ضخمة وعصرية في "القصر الثقافي" في مدينة "رهط" في النّقب.
كان ذلك عرضاً مميّزا لمسرحية "أصيلة"، قدّمناه لمجموعة من المعلّمات والمفتّشات. في نهاية العرض أبدت إحدى المفتّشات إعجابها بالمسرحيّة، مضيفة: "إنّ اللغة المعياريّة التي استعملتموها خلال العرض كانت غريبة بعض الشَّيء، فبدت لغةُ "أصيلة" مُعمَّمَة بين عامّيّتها وفُصحاها". وتقييمها هذا، مشكورة، هو ما حفّزني على توضيح الأمر.
في فلسطين، وبشكل عام في عالمنا العربي تجمعنا اللغةُ العربيّةُ الفصحى، ولكن مصطلح "اللغة المعيارية" جاء بعد ظهور الحاجة لترويض اللغة الى متطلبات مكانها. في فلسطين بشكل خاص، لدينا عدّة لهجات، بدءاً بلهجات أهل الجليل، مروراً بلهجات أهل المثلث والنَّقب، وامتداداً لعدّة لهجات لدى أهلنا في غزة والضفّة الغربيّة والقدس، ومن الواضح أنّ لهجات أهل بلاد الشّام، والتي نحن جزء منها، هي أقرب اللهجات الى اللغة الفصحى، علما بأنّها هي أيضا تحتوي على تعابير مُهجّنة لغوياً.
حاولتُ خلال كتابتي لنص "أصيلة" الذي اعتمدتُ فيه على "سيرة بني هلال"، حيث أغرتني هذه السيرة دراميّاً ولغويّاً، كما كان الحال مع باقي السّير، أن ألعب في نصّها بين العاميّة والفصحى.
السّير الشّعبية العربيّة مثل "سيرة عنترة" و"سيرة الزير سالم" و"سيرة بني هلال" وغيرها، والتي امتدت أحداثها الحكائية والدرامية على امتداد آلاف الصفحات، هي سير شعبيّة متمرّدة على اللغة الكلاسيكيّة، كما كان الحال مع الموشّحات العربيّة، منتهجة لغة شعبيّة مُهَجَّنة عن الفصحى والعامّيّة الشَّعبية. نستطيع الادّعاء أنها في حينه، تُعتبر لغة معياريّة، وعندما جيّرتـُـها للُغتِنا المسرحيّة في حيننا، بدت كأنّها نوع من وسيلة لغويّة توصيليّة معياريّة، ويُطلق عليها أحيانا اسم لغة قياسيّة او أمريّة.
مع تقدّم وسائل التّواصل أصبحت الحاجة مُلِحّة لبعض التَّحرر من اللغة الكلاسيكية، وأصبَحَت الحاجةُ ملحّة للُغةٍ أسهل للتّداول، وأسرع في الأداء، وليس بالضرورة التّقيّد كلّيّاً بالصَّفائيّة اللغويّة، أللهم إلا إذا كنا بحاجة الى ذلك في لغة الشعر والأدب. إذن يمكن القول أنّ اللغة القياسيّة او المعياريّة هي نسبيّة بما يخصّ كونها أكثر فصاحة أو أقل فصاحة. إنّ المطالبة بالصّفائيّة اللغوية أصبح أمراً نسبيًّا ومطّاطاً.
كانت حاجة كاتب السّيرة، ومن ثم حكواتيّها، مُلحّة لابتكار نوع جديد من اللغة التي لم تُكتب لتُقرأ فقط، بل هي جاهزة لكي تُقدّم منطوقةً أمام الحاضرين، الـمُشامعين، (أي المشاهدين والسامعين، وهو مصطلح من اختراعي) عندما انتقَلَت اللغة من جلسات القصور الى جلسات المقاهي الشّعبيّة، حيث كان جدّنا الأكبر الحكواتي يأخذ مجده في سردها أمام العامة بلغته الشّعبية السلسة والحيوّية، وبشكلها الجديد والمتمرّد على لغة القصور.
من الجدير بالذكر أن اللغة العربية المعياريّة الحديثة تختلف تماماً عن اللهجات العاميّة التي تـُهيمن على اللغة المحكيّة في جميع الدّول النّاطقة بالعربيّة، ومن الضّروري التّمييز بين هذين النّوعين اللغويّين.
إذن، فاللغة المعياريّة ليست ثابتةَ المفردات والتَّعابير، ولا يمكن ضبطها نهائيّا، فهي خاضعة لروح عصرها، وهي دائمة التّطوّر والتّحوّر.
وأخيراً، عندما شرّطَتْ عليّ "الهيئة العربيّة للمسرح" في الشارقة أن تكون عروضي المسرحيّة ضمن مهرجاناتها باللغة الفصحى؛ أوضحت لهم أنّ مسرحية "أصيلة" هي خليط بين العاميّة والفصحى، فرفضوا قبولها، وهكذا ولأنّني بحاجة الى الرّضوخ الى سياسة العرض والطّلب، سأقوم بكل ما أوتيت من براعة لغويّة أن أكتب نصّها من جديد، بحيث يمكن قراءته كنصّ عامّي وكنص فصيح و"معياريّ" و"قياسيّ" و"أمريّ". لا بدّ من إيجاد صيغة جديدة مُسهِّلة للُغتنا العربيّة، بحيث تكون أسهل للتّداول على امتداد عالمنا العربي الشّاسع، وإذا حدث ذلك بالفعل فإنّه سيكون أيضا خاضعاً للمعياريّة والقياسيّة.
*راضي شحادة- مسرحيّ وروائيّ وباحث فلسطيني.
صور من عرض مسرحية أصيلة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق