تصنيفات مسرحية

السبت، 18 يونيو 2022

مسرحية " سفر في زمن معطل " تأليف د. الطيب الوزاني تطوان / المغرب

مجلة الفنون المسرحية

















مسرحية " سفر في زمن معطل " تأليف د. الطيب الوزاني

تطوان / المغرب




الكاتب د. الطيب الوزاني

ساعات بلا عقارب


يرفع الستار عن ركح مظلم تماما. يستمر الوضع بضع ثوانِ للفت نظر الجمهور. 


يسلط فجأة شعاع ضوء على ساعة حائطية كبيرة معلقة أعلى الجدار المقابل للجمهور، وُضِع عقرباها بجانبها خارج الإطار، وكتبت فوقها كلمة "هُنَالَنْدْ".

ينطلق صوت صفير رتيب (مونوطوني)، يوحي بفراغ الفضاء الخارجي وبلا حركة مطلقة.

يبقى الوضع على ما هو عليه إلى حد إحداث بعض الملل عند الجمهور.

فجأة، ينقطع الصوت الرتيب ليسمع من بعيد صفير اقتراب قطار.

حينها تضاء الخشبة دفعة واحدة.

رصيف محطة فارغ من الناس. 

أسفل الجدار المقابل كرسي طويل على غرار ما يوجد بقاعات الانتظار بالمحطات، يشكل زاوية منفرجة مع كرسي آخر من نفس النوع. 

تحت الساعة الحائطية الكبيرة "هُنَالَنْدْ" وضع سُلَّم بعجلات.

 على كل جانب منها عُلقت ساعتان حائطيتان أقل حجما، تبعد عن الأولى بمسافة بَيِّنة، قد تضاف فوقها أسماء بلدان وهمية من قبيل "هُنَالَنْدْ"(بالعربية)، يُورُولَنْدْ، أَفْرِيلَنْدْ، شَيْنَلَنْدْ، يُوسْلَنْدْ(باللاتينية)

عقارب كل الساعات الحائطية الأربع معلقة بجانبها خارج إطاراتها كذلك.

على طرف أمامي من الركح يوجد قفص زجاجي (Box) في وضع يقابل الجمهور ويسمح برؤية الساعات الحائطية. خلف الزجاج يجلس حارس ساعة هُنَالَنْدْ بملابس لا تنتمي لبلد معين أو حقبة ما. 

الحارس لا يفتأ ينقل نظره بين الساعة الحائطية الكبيرة وجهاز راديو يوجد جنب فتحة الشباك، ينبعث منه ضوء وامض من حين لآخر.

الأجواء موحشة عموما وغير مُطَمْئِنة. 

يُسمع من جديد صوت قطار عن قرب وكأنه يقف بالرصيف.

ينظر الحارس إلى الساعة الحائطية فوقه، ثم يرفع كتفيه مُبديا بعض الاستغراب. ويعود إلى ما كان عليه بلا مبالاة.

بعد لحظات، تمر زمرة من الناس بأيديهم أغراض أو حقائب، بِهرولة وتوتر قاطعين الركح، مقتفيين سهما يشير إلى "الخروج"، وجميعهم مقنَّع بكمامة ويخاف الاحتكاك مع الآخر. 

تدخل من نفس جانب الركح حيث سهم يشير إلى الرصيف امرأة في مقتبل العمر، بمعطف طويل قاتم تجر حقيبة سفر، ليست في استعجال من أمرها، تتمشى، ولا يبدو عليها أنها تنتظر أحدا أو شيئا. بعد إنزال الكمامة نحو أسفل الذقن، يتضح أن ملامحها صارمة لا تظهر عليها انفعالات.

تنظر إلى الساعة الحائطية الكبيرة ثم إلى ساعة معصمها. 


المرأة: لا يمكن! ساعة معصمي أيضا بلا عقارب!

(تلتفت يمينا ويسارا، تلمح الرجل خلف الشباك، فتخاطبه بنوع من التوتر) كم الساعة الآن؟  

الحارس: (لا يجيب)

المرأة: سيدي، يا أنت، أنا أخاطبك وأريد أن أعرف كم الساعة الآن.

الحارس: (بتثاقل) تلك التي ترين أمامك.

المرأة: (مشيرة إلى ساعة "هُنَالَنْدْ") لكنها لا تعمل على ما يبدو.

الحارس: (بشكل قاطع) بل تعمل.

المرأة: أنا انطلقت من المحطة السابقة وكانت الساعة بلا عقارب، فكيف تكون ساعة هذه المحطة أيضا بلا عقارب؟! 

الحارس: ومتى انطلقت من المحطة السابقة؟

المرأة: متى انط...؟ لا أدري. ربما منذ ساعة، ربما منذ يوم. لا أدري.

الحارس: هل تظنين أنك فعلا انطلقت من حيث كنت؟

المرأة: ألا ترى أنني وصلت اللحظة مع أولئك الذين مروا من هنا قبل ثوان؟ 

الحارس: لم أر أحدا! ولم يمر من هنا أحد منذ زمن بعيد! والساعات لا تنبض بالثواني كما تلاحظين!

المرأة: لا يمكن! أنا كنت معهم بنفس القطار الذي أقلَّنَا إلى هنا.

الحارس: القطارات اختفت من هذه المحطة منذ أمد.

المرأة: ومن أدراك؟ 

(باستصغار) بظني، أنت مجرد إنسان لا يعي ما يقول، وتدعي أنك على علم بما يجري بهذه المحطة. 

الحارس: سامحك الله.

المرأة: بل يبدو بالفعل أنك وُضِعْتَ هنا عبثا.

الحارس: (يخرج من خلف الشباك ويشرع في الإشارة نحو جهات مختلفة) انظري، شبابيك بيع التذاكر أغلقت واعتلى نوافذها العنكبوت؛ مقهى المحطة ومطعمها أصبحا مرتعين للقطط والفئران؛ بائع الجرائد رحل. هل اقتنعت الآن؟

المرأة: هكذا؟ بهذه البساطة تغيرت الأوضاع دفعة واحدة؟

الحارس: لا يهم كيف ومتى حصل ما حصل، المهم، أريد ألا تتسرعي في الحكم علي سيدتي فقط. أنت لا تعرفينني ولا تعرفين أهميتي هنا.

المرأة: لكنك تقول أشياء غريبة.

الحارس: وأنا أجد في وجودك الآن أمامي أمرا غريبا.

المرأة: وما الغريب في الأمر؟

الحارس: أشياء كثيرة، ومنها أن تدعي أنكِ وصلتِ للتو من سفر، وأن الساعة الحائطية لا تعمل.

المرأة: هي بالفعل لا تعمل.

الحارس: هي تعمل وأنا متأكد من ذلك لأنني أعرفها أكثر منك.

المرأة: (بتهكم) ومن تكون أنت يا أنت؟ يا من يعيش خارج الزمن؟ ألا ترى أن عقاربها معلقة خارج الإطار، وبالتالي هي لا تشير إلى أي زمن؟ 

الحارس: ها قد بدأت تفهمين.

المرأة: أفهم ماذا؟

الحارس: جميل أن تكوني قد لاحظت أن العقارب معلقة خارج إطار الساعة. 

المرأة: وبعد؟

الحارس: أولا، هذا ليس دليلا على أن الساعة لا تعمل.

المرأة: (تهمهم) فعلا، كلام منطقي. 

   ثانيا؟

الحارس: أن العقارب موجودة هناك بفعل فاعل.

المرأة: (تهمهم) فعلا، كلام منطقي. 

ومن خلعها وعلقها هناك؟

الحارس: (بافتخار) بالنسبة لعقربيْ ساعة هُنَالَنْدْ أنا من علقهما حيث هما الآن.

المرأة: أنت؟! بصفتك ماذا؟

الحارس: بصفتي حارس الساعة، ساعة هُنَالَنْدْ.

المرأة: وما الفائدة من ذلك؟

الحارس: لم تعد هناك جدوى من تثبيتهما بمكانهما المعتاد، مؤقتا على الأقل.

المرأة: بهذه البساطة.

الحارس: حاولي أن تفهميني سيدتي. الساعة تعمل جيدا، لكن الزمن هو الذي تعطل. فلم تعد هناك قِطَارات تتردد على هذا المكان ولا على أي محطة أخرى. لهذا عُلِّقَت العقارب في انتظار عودة دورة الزمن.

المرأة: (مشدوهة، وبصرامة دائما) لكن، ...

الحارس: لكن ماذا؟

المرأة: لكن، أنا حضرت إلى هنا منذ لحظة، وكان معي آخرون بنفس القطار، وكنا كُثْرا.

الحارس: وأنا أقول، إنك لم تأتي من أي مكان، ولم يكن معك أحد.

المرأة: هذا خَبَل، هذا جنون!

الحارس: لا داعي سيدتي للتمادي في الغلط.

المرأة: لكن أمرك غريب يا هذا، وما تقول أغرب.

الحارس: سيدتي، أنا لا أنكر أنك الآن أمامي. كما أن وجودك لا يمنع الزمن من أن يكون معطلا.

المرأة: ودليلك؟

الحارس: هل يمكنني أن أسألك؟

المرأة: تفضل، إلا أن تحاول إقناعي بأنني مجنونة، أو لا أعي ما أقول.

الحارس: اطمئني، أنا لحد الآن لطيف معك، وليس في كلامي ما يعاب. 

المرأة: (تُهَمْهِم بتهكم) "إذا رأيت نيوب الليث بارزة..."

الحارس: هل يمكنكِ أن تخبريني أين كنت قبل الوصول إلى هنا؟

المرأة: أنا كنت في...!

(تَشْده وتُكَابِر) لا أدري، ليس مهم أين كنت.

الحارس: وبالأمس، أو قبله، أين كنت؟

المرأة: (تحاول أن تتذكر) أين كنتُ بالأمس؟ أين كنتُ قبل الأمس؟ 

(منزعجة) لا أدري. لا أدري.

الحارس: وهل تعرفين ما هي وِجْهَتك بعد الآن؟

المرأة: وجهتي!؟.. لا أعرف.. لا أعرف!.. غريب! فعلا لا أعرف إلى أين كنت ناوية القصد! 

(تتذكر بنوع من الاستسلام) كل ما أذكر هو أن رحلتي كانت شاقة وطويلة. وحدها حقيبتي البئيسة هذه كانت أنيسي. قطعت مسافات ومسافات. مررت بمدن عديدة وبَلْدات كثيرة. وحيثما رحلت، أو حللت، كان هناك حزن وأنين، ترقب وضجر وحسرة. هناك، أناس تتألم، وأخرى في صمت تبكي مَنْ في خلسة يَرْحَل، وفي خلسة يُدْفَن. وآخرون في صمت ووَحْدَة ينتظرون، في هلع ينتظرون، في توجس ينتظرون، أمام البوابات يصطفون، ينتظرون، خلف النوافذ ينتظرون، وراء الحدود ينتظرون، على زوايا الشاشات يلتقون، يتحدثون، يشتغلون أو يمرحون، يتنبؤون، يكتئبون، يثرثرون، عن بعد يثرثرون، ينتظرون ويثرثرون، ينتظرون، يضجرون،...


صمت. 


الحارس: وأنتِ؟ ماذا عنكِ؟

المرأة: أنا؟ دعْكَ مني، قصتي لا تهم أحدا. 

الحارس: وَلَوْ، أريد أن أسمعها. أريد أن أعرف ماذا يجري خارج المحطة خلال عُطْل الزمن. 

المرأة: قصتي بسيطة كقصص باقي البسطاء من الناس، ليس فيها ما يثير. كل ما في الأمر، أنني بمعية حقيبتي هذه، أدمنت السفر، أدمنت التنقل من المجهول، أدمنت الترحال إلى المجهول. لا بوصلة بحقيبتي ولا خريطة. كل المحطات التي أتوقف بها وكأني أعرفها مسبقا، أو هكذا يخيل إلي. الناس فيها يتشابهون، بلا ملامح يمشون، لا يبتسمون، مكتئبون، يهرولون، يصعدون وينزلون، خائفون، يتباعدون، لا يتصافحون، لا يتعانقون، خلف الكمامات يختبئون، خلف السماعات ينعزلون، يحشرون رؤوسهم وكل حواسهم في أغوار الهواتف حيث يغوصون، يضيعون. 

 (نحو الحارس) حتى أنت يخيل إليَّ أني أعرفك قبل أن ألتقي بك.

الحارس: دعك مني، حدثيني عنك.

المرأة: أنا؟ أنا بدوري أفعل ما يفعلون، أمشي، أصعد، أنزل، أهرول، لا أبتسم، ولا أنظر إلى المرآة، بل أخشى أن أنظر إلى المرآة.

الحارس: وما يخيفك في ذلك؟

المرأة: أخاف أن أشعر بأن الكمامة أصبحت جزءا مني.. قد تلازمني بقية عمري. صعب أن نُلْبَسَ الكمامة طول حياتنا. وإن نزعتها، أخاف ألا أجد لي ملامح، أو أن يكون وشم ذقني قد ضاع مني، فالوشم في جبالنا الشامخة بطاقة هوية وانتماء. 

الحارس: (بين الأسف والاستهزاء) خارج الزمن، لا سفر في الجغرافيا سيدتي، ولا انتماء لوطن. 


يتزايد وميض المذياع. 

إشارة صوتية ملائمة تصدر عن المذياع تنبه لموعد الأخبار. 

تبدي المرأة اهتماما للأمر بينما يتظاهر الحارس باهتمام مفرط لما سيسمع.

 

المذياع: موعد الأخبار.

أيها المستمعون القابعون في الحَجْر حيث أنتم في انتظار سُبَاتِيٍّ، إليكم نشرة المساء، أو نشرة الصباح، أو نشرة كل الصباحات وكل المساءات: عدد المصابين بالوباء يعد بالآلاف، المتعافون منه يعدون بالمئات، عدد الهالكين في ارتفاع، عدد المصابين بأقسام الإنعاش تجاوز الطاقة الاستيعابية للمستش (فيات)، ...  


تصرخ المرأة فتغطي على صوت المذياع.


المرأة: كفى، كفى أيها الغراب من النعيق. كفى من نشر أنباء الشؤم في الآفاق. ها قد تمكن منا الهلع قبل الوباء. في كل يوم صرنا نموت ألف مرة قبل أن تهلكنا الجائحة. كرهنا نعيقكم المشؤوم، كرهنا ركوب أمواج النعي عبر شاشاتكم ومواقع تواصلكم. لا شيء منكم عاد يفرحنا. تقوضت مشاعر السرور فينا وأجلت أفراحنا، أعراسنا، حلقات فرجاتنا ونوادينا، وكل ما يبعث الدفء في أوصالنا...

الحارس: كم أراك مَوْجُوعَة! 

المرأة: موجوعة؟ آآه من الوجع، لو تدري كم من أوجه فتاكة له؟ 

الحارس: هل هو فعلا بهذه الحدة؟

المرأة: (بألم) اسأل حقيبتي رفيقتي هذه تخبرك عن حقيقته. لقد أصبح يترقبنا في كل منعطف، عند بائعة الفطائر صباحا، بأبواب المدارس التي أصبحت مهجورة، بأماكن العمل التي صارت تنتج البطالة، بالمطاعم والمقاهي الفارغة، بالمسارح المغلقة والمطارات المحاصرة والملاعب المسدودة والحافلات المتعثرة ووو...

اسألها، تخبرك عن حال البيوت التي ضاقت بساكنيها، فلحقهم الملل والضجر. اسألها، تخبرك عن حال الناس خلف النوافذ، تنظر إلى الخارج، تنتظر، تتطلع، تأمل. اسألها، بعدما اشتد الحال وضيق ذات اليد، عن حال النساء التي عُنِّفتْ وعُنِّفتْ، عن حال الصغار الذين قمعوا وفطموا قبل الأوان...

اسأل حقيبتي هذه، فهي شاهد في ترحالها عن راهن بلا زمن، راهن بلا قَبْل وبلا بَعْد...

الحارس: أنا أسألك أنت.

المرأة: لقد شاع الوجع بين الناس كالهواء، فأصبح لا يتوقف عند حدود، ولا يميز بين الأجناس ولا الأعمار.


صمت وتأمل. 


الحارس: هو الوجع إذا.. الوجع هو الذي عطل دورة الزمن، علق العقارب جنب الساعات، أوقف القطارات...


إظلام مفاجئ مصحوب بصوت الصفير الرتيب المستمر. 





أزمنة نسبية


تعود الإنارة

المرأة جالسة على أحد الكرسيين في استرخاء. 

الحارس يتوسد ذراعيه خلف الزجاج. 

يشرع المذياع في الوميض، ثم إشارة الأخبار.

ينتفض الحارس قليلا. 

خلال حديث الراديو، يشرع الحارس في رفع رأسه بتثاقل، بينما تتثاءب المرأة مرات. 

يعدلان من جلستهما. 


المذياع: مستمعينا الأعزاء، بخجل وتفاؤل ألتقي بكم مرة أخرى لأخبركم بأمرين: من جهة، الوضع يتفاقم هنا وهناك، وعقارب كل الساعات مازالت معلقة كما هو في علمكم، ربما لأمد طويل؛ ومن جهة أخرى، هناك أخبار سارة، زمن الحيوانات البرية غير معطل، بحيث شوهد بعضها يجوب الشوارع الفارغة والفضاءات العامة ببعض المدن والتجمعات السكنية بالضواحي، كما انقشعت سحب التلوث من سماء المدن العملاقة، ويشاع أن طبقة الأوزون قد بدأت تتعافى. للإشارة، تبقى عهدة الأفراح السارة على الراوي الأول.


بعد صمت.


المرأة: يبدو أننا نمنا طويلا.

الحارس: حارس الساعة لا ينام.

المرأة: كَمْ لَبِثْنا؟ 

الحارس: قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ، قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، قَالُوا...

المرأة: (مقاطعة) صدق الله العظيم. لا تقل إننا كنا سباتا مثل فِتْيَة الكهف؟

الحارس: (ضاحكا) لا، هو سؤالك الذي ذكرني بالآية الكريمة.

المرأة: مزحة بلهاء سمجة، لكنها على كل تبدي جانبا كان خفيا من شخصيتك. 

بحق، كم لبثنا نياما؟

الحارس: لا يهم مادام زمننا معطلا. 

المرأة: حسب نشرة الأخبار الأخيرة يبدو أن زمن البرية غير معطل.

الحارس: لا يفيدنا هذا في شيء، فلسنا حيوانات.

المرأة: (بتهكم) معنى هذا، يا حارس الساعة المبجل، أنك تقر بأن للحيوانات زمنها ولنا زمننا.

الحارس: لا يعنيني أمرها. 

(يخرج من القفص، يقترب من جدار الساعات، يشير إلى الساعة المعلقة أمامه) أنا حارس هذه الساعة فقط بهذه المحطة الخالية الآن. وكما لاحظت ولا شك، لا يعنيني حتى أمر باقي الساعات، فما بالك بزمن الحيوانات.

المرأة: (تقترب منه، تشير إلى مجموع الساعات) لا شك أنك تقر أن الساعات كُثْر، وقد تتعطل جميعها أو بعضها.

الحارس: جائز.

المرأة: وكيف للساعات أن تتعطل دون أن يتعطل زمن البرية؟ ألا ترى معي أن الزمن هو الزمن، ينساب باستمرار ولا يتعطل ولا يتوقف؟

الحارس: هذا كلام يتجاوز مداركي، وبالتالي لا يعنيني. بالنسبة لي، ما يهمني هو عندما يتعطل الزمن أعطل ساعتي، فقط، ولا غير.

المرأة: يبدو أنك - عكس ما كنت أظن - أذكى مما تبدو عليه، وتدرك ماهية الزمن أكثر من الكثيرين غيرك.

الحارس: سبحان الله! وما يدفعك لهذا الاستنتاج؟

المرأة: مجرد إحساس، كما أن لي إحساسا أنك دقيق في تنفيذ عملك، وتتعمد بذكاء ألا تُعْنَى بما يتعدى دائرة اختصاصك، وهذه هي مشكلتك.

الحارس: سبحان الله! 

أنا هنا سيدتي لأحرس ساعة "هُنَالَنْدْ" فقط. اسمعتِ؟ ساعة "هُنَالَنْدْ" فقط.

المرأة: وهذا لا يبرر كونك تتجاهل زمن البرية. 

الحارس: الزمن بالنسبة لي هو هذه الساعة. وهذه الساعة معطلة الآن بأوامر، وعقاربها غير مثبتة عليها بأوامر أيضا، وبالتالي لا تنبض بالزمن. إذن، الزمن بالنسبة لي الآن غير موجود مادامت ساعتي هذه معطلة.

المرأة: والقطارات؟ لِمَ تعطلت في نظرك؟

الحارس: ربما تلقت هي الأخرى أوامر بذلك، لأنها حسب علمي تعمل وفق زمن هذه الساعة (مشيرا لساعة "هُنَالَنْدْ").

المرأة: أوامر، أوامر، من يصدر هذه الأوامر؟

الحارس: كم أنت فضولية وكثيرة الأسئلة!

المرأة: يبدو أن كل ما يحيط بك يتحرك بأوامر، فمن الطبيعي أن أسأل عمن يصدر هذه الأوامر.

الحارس: الأوامر تصدر عَمَّن يهمه الأمر.

المرأة: ومن يهمه أمر تعطيل الزمن؟

الحارس: لا أدري.. ربما من يهمه شأن الناس.

المرأة: لكن هذا غريب، إذْ لا حياة للناس بلا ساعات تعمل، وبلا زمن يتدفق من أوصالها، فكيف يصدرون الأوامر بإيقافها؟

الحارس: لا رأي لي في الموضوع.

المرأة: بل أنت معني، مثلي ومثل كل الذين يركبون القطارات بأنواعها المتعددة، أو يتقفَّوْن آثارها، أو يقتاتون من نشاطها وحركاتها.

الحارس: أنا أصير معنيا متى صدرت الأوامر، ما عدا هذا، لا شيء يعنيني. 

المرأة: ألا تدرك أن عُطْلَ الزمن هو موت جماعي وفناء؟

الحارس: الوباء موت جماعي أيضا وفناء. لهذا توقفت الساعات بأوامر حتى لا يقضي الوباء على الناس.

المرأة: وكأنك تقصد شيئا لم تفصح عنه؟

الحارس: من أكون حتى يَحملَ كلامي أكثر من معنى؟ أنا مجرد حارس ساعة المحطة في انتظار الأوامر.

المرأة: أشك في صدق تواضعك يا رجل.

الحارس: أنت حرة في رأيك.

المرأة: جعلتني أحتار في فهم ما يجري.

الحارس: وما يحيرك؟

المرأة: هناك من أوقف الزمن خوفا من الموت، فأصبح الموت يدب في الأوصال بتعطيل الساعات وتوقيف القطارات.

الحارس: جائز.

المرأة: وها هو الوباء مازال جاثما، والموت البطيء أصبح أيضا محدقا. 

الحارس: إن ثبت ذلك فلا شك في أن تتغير الأوامر.

المرأة: هل يحتاج هذا لإثبات؟ ألا ترى أننا ميتون؟ في كلتا الحالتين ميتون؟ بالوباء ميتون، بلا حركة القطارات ميتون؟

 الحارس: إذن، يجب أن تتغير الأمور.

المرأة: متى؟ متى ستتغير الأمور وكيف؟

الحارس: حين تأتي الأوامر بإرجاع العقارب لأماكنها.

المرأة: متى ستعود العقارب إلى أماكنها؟ متى تتدفق الثواني في الساعات؟ 


يدخل رجل مسن يتراقص ببطء من يمين لشمال، ولا يتوقف عن الترنح كالبندول في جميع أحواله. يلتفت للساعات، يتأملها، يهز كتفيه، ويستأنف خطوه مبتسما للخروج من الجهة الأخرى.


المرأة: سيدي، بالله عليك مهلا، لا تغادر. أريد أن أستشيرك في أمر.

الرجل: اطمئني سيدتي، أنا لا أرحل أبدا، أنا دائم الحضور.

المرأة: جميل.. جميل.. أريد فقط...

الحارس: (مقاطعا) دعيه وشأنه، ألا ترين أنه مسن وقد هده التعب؟

الرجل: لا يا ولدي، لست في عجالة من أمري، ولا أحد أو شيءَ يستطيع تغيير مساري، أو يتعبني. 

الحارس: لكن حالك توحي بأنك مسن ومنهك.

الرجل: أنا لا أعرف لي عمرا، ولا أحس بكلل أو تعب.

الحارس: وما الذي أتى بك إلى هنا؟

الرجل: أنا أصلا موجود هنا وفي كل مكان، أنا أسرح بين الدروب والخلائق كماء النهر، تارة هادئا منسابا وتارة فوارا كالغليان، لا يُعْرَفُ لي منبع ولا إلى أين أسير.

المرأة: ياه!.. وكأنك دائم الوجود. 

الرجل: أو فلنقل إن لي حيوات متعددة، وكل حياة أطلع فيها بوجه.

المرأة: سيدي، زدت حيرة على حيرتي من حديثي مع الحارس.

الحارس: (مستنكرا نحو المرأة) أرأيتِ لم لا أحاول فهم ما لا يعنيني، أو ما يتجاوز اختصاصي؟

الرجل: وما وجه حيرتكِ من حديثك مع هذا المحترم، الذي يوحي شكله بالاستقامة والصرامة.

المرأة: (مُهَمْهِمَةً) بل بالتزمت وقصر النظر وضيق التفكير.

الرجل: عفوا؟ ماذا قلتِ؟

المرأة: حيرتي بل تضايقي من هذا الرجل، رغم طيبته الظاهرة، نابعة من كونه لا يهتم بشيء سوى بساعته المعلقة هناك. وقد سمعتَ اعترافه بنفسك. 

الرجل: وما ضير ذلك؟

المرأة: قبل أن تحضر، كنا نخوض حديثا اتضح من خلاله أن الوباءَ المنتشر بين الناس لا يزعجه، ولا أخبارَ تعافي البرية والطبيعة تثير فضوله.

الرجل: ربما لأنه يؤمن بأن لكل دوره في الحياة.

المرأة: ولكن، هناك أشياء مشتركة بين الناس؛ هناك حياة عامة مشتركة وأمور تعنينا جميعا كبشر في علاقتهم بالطبيعة؛ الهواء إذا تلوث، لن يقف عند حدود البلدان، هو ملك مشترك؛ البحر والسماء والأوزون هي أيضا أمور مشتركة؛ الوباء المحدق بنا أبان أنه لا تفضيل له بين ألوان الأعلام وأشكال جوازات السفر؛ سلامة الحيوانات والنباتات حاضرا ومستقبلا تهمنا جميعا، لأن في سلامتها بقاءنا. لهذا أتساءل، بصفته حارس ساعة هُنَالَنْدْ، كيف لا يعنيه أمر باقي تلك الساعات؟ أرأيت سيدي لِمَ أنا في حيرة؟


صمت وتأمل.


الرجل: أنتِ على حق سيدتي.

المرأة: (بنوع من الفرح والتشفي في الحارس) الحمد لله، ظني وحدسي كانا في محلهما.

الرجل: (مواصلا) وحارس الساعة أيضا على صواب.


الحارس يدير لها ظهره بلا مبالاة، ويبتعد. 


المرأة: (منزعجة) ها قد أعدتني لحيرتي مرة أخرى.

الرجل: هوسه بأمر ضبط زمن ساعته من عدمه مرتبط بحسه العالي بأهمية توحيد الزمن بهُنَالَنْدْ، فالبلد الواحد لا يجوز أن يكون فيه أكثر من زمن، ومن يبتغي غير ذلك فهو ...

المرأة: فهو ماذا؟ أكمل سيدي من فضلك.

الرجل: فهو.. فهو مارق عن السائد، غير مرغوب فيه.

المرأة: (بتهكم) بهذا المعنى تكون حيوانات هُنَالَنْدْ مارقة أيضا غير مرغوب فيها، ما دمنا نعترف جميعنا بأن زمنها انفصل عن زمننا بفعل الجائحة.

الرجل: وكيف تتخيلين أنت الزمن الذي تتحدثين عنه؟

المرأة: (محرجة) الزمن هو الزمن، هو تعاقب الثواني والدقائق والساعات، هو تعاقب الليل والنهار والفصول والسنوات. 

أيكفيك هذا التعريف البسيط الساذج؟

الحارس: (بتهكم) السماء فوقنا والأرض تحت أرجلنا. 

المرأة: (بنرفزة) هذا تعريف الزمن كيف تفهمه أنت، وتقرأه على ساعتك الكبيرة المعلقة الجامدة. 

الحارس: (بلؤم) وهل لك غيره؟

المرأة: طبعا، الزمن الحقيقي هو الذي يشمل جميع الأشياء والمخلوقات، ويترك آثاره عليها جميعها؛

الرجل: صحيح.

المرأة: الزمن باد للعيان على أديم المرايا التي تعكس الملامح والصور؛ 

الرجل: صحيح.

المرأة: الزمن كائن بالأرحام التي تتوالد عنها أرحام أُخَر؛ 

الرجل: صحيح.

المرأة: الزمن محفور على كل حبة رمل انفصلت عن صخرتها الأم؛

الرجل: صحيح.

المرأة: الزمن هو شَقّ صغير بأديم الأرض صار يوما محيطا؛ 

الرجل: صحيح.

المرأة: هو كل هذا وأكثر وأكثر...

الرجل: صحيح.

المرأة: (نحو الحارس) هل يكفيك هذا؟

الحارس: (يشيح بوجهه عنها ويتوجه إلى ناحية أخرى ولا يجيب).

المرأة: (نحو الرجل) وأنت؟ كيف ترى الزمن من وجهة نظرك؟

الرجل: (دائم الابتسام والتمايل) الزمن.. هو أنا وأنت؛ السابقون واللاحقون؛ الزمن نهر هادر لا يعرف له منبع ولا تعرف له روافد؛ لا حواجز تقف في وجه الزمن، وتحيط تشعباته وسواقيه كل الأشياء في الوجود، فيتحول إلى أزمنة متعددة، أزمنة نسبية.

المرأة: أزمنة متعددة؟! أزمنة نسبية؟!

الرجل: انظري إلى تلك الساعات التي لا يعيرها الحارس أي اهتمام، هي فعلا تعكس زمنا معطلا بالنسبة لكل تلك البلدان بفعل الوباء، لكن، إن أعيدت لها عقاربها، سيصبح لكل بلد زمنه الخاص، وقد تختلف سرعة دوران العقارب من بلد لآخر. 

المرأة: وعلاقة كل هذا بالأزمنة النسبية؟

الرجل: قد تشير هذه الساعات إلى الزمن المُطْلَق، لكنها لا تعكس الأزمنة في علاقة الكائنات والأشياء مع بعضها البعض، لا تعكس الأزمنة النسبية بين الأفراد، لا تعكس الأزمنة النسبية المتعاقبة خلال حياة فرد.

المرأة: (تحاول أن تستوعب) الأزمنة النسبية المتعاقبة خلال حياة فرد! 

إذن، أنا من أكون؟! هل أنا حقا هي تلك التي كنت بالأمس؟! وقبل الأمس؟! وهل أنا الآن هي التي سأكونها في الغد؟! وبعد غد؟! إذن، إذا لم يكن الأمر كذلك فأنا "أنَوَات" أو بالأحرى أنا "نحن"، إذ يبدو أنني أكثر من "أنا" واحدة، في كل لحظة أنا "أنا متجددة ".  

(تضحك بشكل هستيري) أرأيت كيف تحولتُ في لحظة من إنسانة مفرد إلى شخصية متعددة الأبعاد، متعددة الكيانات، متعددة الحيوات. كل هذا بفضل نظريتك العجيبة "الأزمنة النسبية".  

الحارس: (متشف) هذا ما سببه لك فضولك وكثرة السؤال. تسألين عن كل شيء، وتريدين فهم كل شيء، حتى تهت في عوالم لا شيء. 

(مشيرا إلى ساعة هُنَالَنْدْ) بالنسبة لي لا نسبية في زمن ساعتي هذه. 


الرجل يبتسم دائما ويشرع في الخطو بنفس التمايل نحو الخارج.


المرأة: (وكأنها تستفيق من ذهولها) سيدي، سيدي، لا تغادر قبل أن تقول لنا من أنت. نحن لم نتعرف عليك بعد.

الرجل: (يكون قد أوشك على الوصول إلى نهاية الركح) أنا النهر الهادر الذي لا يتوقف؛ النهر الذي لا يُعْرَفُ له نبع ولا روافد؛ أنا وديان النهر المتدفقة؛ أنا السواقي المنسابة.


إظلام





زمن أعرج


نفس المحطة. حارس الساعة في مكانه المعتاد خلف الشباك. 

لم تعد الساعة الكبيرة "هُنَالَنْدْ" معلقة على نفس الارتفاع، بحيث أصبحت على مستوى قامة الحارس، كما أعيد لها عقرب الساعات فقط، وبقي عقرب الدقائق معلقا بجانبها خارج الإطار. 

الساعات الأخرى بعقرب واحد أو عقربين في أوضاع مختلفة.

تدخل المرأة تجر نفس حقيبتها.


المرأة: أه.. هذا أنت. أما زلت هنا؟ 

الحارس: (ينظر إليها ولا يجيب).

المرأة: لِمَ أنت فظ ولا تجيبني.

الحارس: كان عليك أن تلقي التحية أولا.

المرأة: فعلا، لكنني حرت في أيهما أحييك بها، أصباح الخير أم مساء الخير؟ فالزمن مختل كما تعلم.

الحارس: قولي إذن، "السلام عليكم" فقط، كما جرت العادة.

المرأة: حتى التحية بالسلام مشكوك في أمرها، فكلمة "السلام" تحمل في طياتها ضمنيا معنى زمنين، "زمن السلم والسلام" و" زمن اللا سلم واللا سلام". فهل يجوز في وضع عُطْل الزمن واختلاله أن نتحدث عن زمنين أو أزمنة مختلفة؟

الحارس: (ينظر إلى الساعة الحائطية، يهز كتفيه، ولا يجيب).

المرأة: أراك ما زلت في مكانك لم تبرحه. 

الحارس: لا مكان لي غير هذا. 

المرأة: ألا ترتاح؟ أليس لك بيت تأوي إليه؟ وأهل ينتظرون عودتك؟

الحارس: أنا حارس الساعة، وحارس الساعة مطالب أن يبقى دوما بجانبها.

المرأة: ألهذا الحد أنت مهم وضروري؟

الحارس: هي تأمر بذلك.

المرأة: عمن تتحدث؟

الحارس: عن الأوامر. 

المرأة: الأوامر!؟ أفهِمْني، ما علاقتك بالأوامر؟ أنت حارس الساعة أم حارس الأوامر؟ 

الحارس: (يخرج من الشباك) كم أنت ساذجة.

المرأة: (مستهزئة) ربما، فقد اختلط عليَّ الأمر. أفهمني يا من وسع علمه ساعة هُنَالَنْدْ.

الحارس: قد تأتي الأوامر فجأة، وعليه يجب أن أكون هنا.

المرأة: تأتي الأوامر من أين؟

الحارس: من مصدرها.

المرأة: وكأنك تتحدث عن عالم الزمن فيه غير معطل.

الحارس: هو بالفعل كذلك.

المرأة: أين يوجد هذا العالم؟

الحارس: لا أدري.

المرأة: وأنت؟ ما طبيعة علاقتك بهذا العالم؟

الحارس: أنْ أقبع بمكاني لا أبرحه حتى يأتون إليّ.

المرأة: ومن يأتي إليك؟

الحارس: أناس لا أعرفهم.

المرأة: ما شكلهم؟ ما اسمهم؟ 

الحارس: هم أناس مثلي ومثلك، شكلهم لا يثير أي اهتمام أو شك، يسمونهم أو يسمون أنفسهم "أعوانا".

المرأة: وهل تظن حقا أن لهم ولمن يرسلهم بالأوامر زمنا غير زمننا.

الحارس: لا أدري، لكن لي اليقين أن زمنهم لا يتعطل.

المرأة: والأعوان؟

الحارس: كذلك، لا ينامون ولا يغفلون عن شيء. 

المرأة: هل يعرفون ما نحن فيه.

الحارس: هم يعرفون كل شيء، يعرفون ما يقع وما سوف يقع. 

المرأة: هل يعرفون أن زمننا معطل؟

الحارس: قلت لك هم يعرفون كل شيء، وهم من أمر من قبل بخلع عقربي هذه الساعة التي أمامك وكل ساعات هُنَالَنْدْ، أينما وجدت.

المرأة: وساعات البلدان الأخرى، تلك التي أراها هنالك؟

الحارس: تلك لا تعنيني، فهي لها حراسها.

المرأة: لا أرى سواك بهذا القفص ولا بالجوار!  

الحارس: لأن أزمنة بلدانهم غير زمننا، وحراسها غير معنيين بأوامر أعوان هُنَالَنْدْ.

المرأة: والقطارات؟ 

الحارس: أي قطارات؟

المرأة: قطارات هذه المحطة؟! قطارات المحطات الأخرى؟! شرايين الحياة وأعصابها؟! دماء هُنَالَنْدْ ومصدر قُوتِها وقُوَّتها؟!

الحارس: ما لها؟

المرأة: حتى هي الأخرى توقفت بفعل الأوامر؟

الحارس: هكذا يبدو. وقد سبق أن قلت لك إنها تعمل وفق ساعة "هُنَالَنْدْ". للإضافة، أنا لا أبرح المكان لكي أعرف التفاصيل.

المرأة: هل زارك أو يزورك أحد ممن تسميهم أعوانا؟

الحارس: هم دائمو الاتصال بي.

المرأة: أجاؤوك بأوامر جديدة؟

الحارس: كَثُرَ ترددُهم علي، وكثرت أوامرُهم وأوامرُهم المضادة، فما كان عليَّ إلا أن غيرت مكان الساعة من أعلى الجدار لتبقى قريبة مني، تفاديا لتعب الصعود إليها كل مرة واستعمال السلم.

المرأة: أرى أنك أضفت لها عقرب الساعات أيضا.

الحارس: نعم، بأوامر منهم.

المرأة: ولم اخترت عقرب الساعات وليس عقرب الدقائق؟

الحارس: بأمر منهم. 

المرأة: هل لك فكرة عن السبب؟

الحارس: لا أدري، ربما لأن سرعته الزمنية أبطأ من سرعة عقرب الدقائق أو سرعة العقربين معا.

المرأة: معنى هذا؟

الحارس: معنى هذا أن القطارات ستعود للانطلاق، لكن بحذر وتعثر.

المرأة: هو الزمن إذا بدأ يتعافى.

المذياع: (بعد وميض الراديو وإشارة الاخبار) أيها الناس، الوضع الوبائي في تفاقم، في حين أصبح الموت البطيء كاسحا أيضا بسبب توقيف القطارات. وعليه، جاءت الأوامر هذه المرة بالسماح بانطلاق محتشم لبعضها.

الحارس: أسمعت؟ يبدو أن الزمن سينتقل من جمود تام إلى شلل نصفي، سيجعل منه زمنا أعرج.

المرأة: يا لك من رجل غريب! الأخبار لم تتحدث عن زمن بشلل نصفي ولا عن زمن أعرج! فكيف تسمح لنفسك بقول مثل هذا الكلام؟ 

الحارس: عندما يعود الزمن للسير بعقرب واحد بطيء، فكيف تسميه؟ ألم يعد زمنا أعرج؟

المرأة: (بتفاؤل) هو خطو على كل حال، والوضع سيصير أحسن.

الحارس: أرجُو ذلك.

المرأة: وكأنك غير مقتنع.

الحارس: لا تنسي أن زمن تفشي الوباء يسير بموازاة سرعة انطلاق القطارات، بينما زمن الموت البطيء يسير عكس زمن تفشي الوباء.

المرأة: كم أنت متشائم.

الحارس: أبدا، ألم يوقفوا القطارات أو شرايين الحياة، كما يحلو لك أن تسميها، عندما أصبحت هي نفسها تنقل جرثومة الموت؟

المرأة: فعلا، في هذه أنت محق. 

(شاردة) جرثومة الوباء فتاكة حقا، كما أن للموت البطيء أوجُهًا متعددة للفتك البطيء. والواضح أن الموت يلاحقنا في كلتا الحالتين.

(نحو الحارس) في رأيك، هل علينا إذن أن نختار بِمَ نموت؟

الحارس: بل هم من يختار لكم.

المرأة: يبدو أنهم لم يختاروا لنا الموت بالوباء، لكن يخيروننا أن نموت بأوجه الموت البطيء المتعددة.

الحارس: لأصحاب القرار مبرراتهم ولا شك.

المرأة: لأصحاب القرار مراميهم القريبة والبعيدة.

الحارس: كلام لا يعنيني. 

المرأة: أخشى أن تتجاوز بعض القرارات فترة الوباء، فتصير أبدية.

الحارس: (مستهزئا) مما تخشين؟ أن تصير الكمامات على الأفواه ملازمة مثلا؟ 

المرأة: وما خفي قد يكون أعظم! من يدري؟ هي طبيعة القرارات عند الأزمات، يكون لها أكثر من وجه بين الظاهر والخفي.

الحارس: على كل، لا مجال في هذا الوضع المتردي لكثرة الظنون والتأويلات. المهم الآن هو أن يتعافى الزمن، وتعود عقارب الساعات لأماكنها، ويضبط نبضها.

المرأة: وكأني بك لا تشك في مصداقية القرارات؟

الحارس: ولِمَ أشك؟ 

المرأة: مهلا.. مهلا.. أرى أنك أصبحت تبدي رأيك بكل جرأة، بل أراك واثقا هذه المرة من رأيك.

الحارس: ولِمَ لا؟ 

المرأة: جميل.. جميل.. 

هذا يفترض أنهم يبنون قراراتهم اعتمادا على أن هناك وعيا جماعيا عند الناس بحقيقة الوضع. 

الحارس: القرارات لا تعدو كونها مجرد وسيلة لإسعاف الناس على تخطي المرحلة، والباقي هم واعون بأنه رهين بسلوك الأفراد والجماعات.

المرأة: تقصد بمدى وعي الناس بحقيقة الوضع.

الحارس: الناس يتلهفون إلى عودة حركة القطارات مهما كان الثمن، وفي غياب الوعي المطلوب، وعودة حركة القطارات بلا حذر، قد تتأرجح كفة الموت البطيء لصالح الوباء.

المرأة: هل هذا ممكن؟

الحارس: علمتني مهنتي كحارس ساعة هذه المحطة، وما يتبعها من تلقي الأوامر ونقيضها، أن عُطْل الزمن يعرف ارتدادات.

المرأة: لذا، آثرت أن تجعل ساعة هُنَالَنْدْ على مستوى قامتك.

الحارس: ألم تسمعي بتلاحق موجات الوباء؟ وكل موجة أعتى من سابقاتها، وقد تتناسل من نفس الوباء أشكال أخرى متفاوتة الضراوة وسرعة الانتشار.

المرأة: أتقصد أنه من المحتمل أن يُخلع عقرب الساعات من مكانه إلى خارج الإطار مجددا؟

الحارس: كل مرتبط بعشوائية انطلاق القطارات من عدمها.

المرأة: حينها؟

الحارس: حينها قد يُعلَّق عقرب الساعات من جديد، ويعلق انطلاق القطارات من جديد، ويشل زمن المدن من جديد، لتمرح في شوارعها حيوانات الجوار من جديد.

المرأة: (بنبرة تدل على ألفة وسخرية) إذن عليَّ أن أسافر لوجهتي الجديدة قبل فوات الأوان. 

(وهي تتوجه نحو السهم المشير للرصيف) وداعا أيها الحارس الأمين على ساعة المحطة. 

(تعدل كمامتها) لا تنس أن ترتدي الكمامة بدورك يا صديقي الطيب.


تخرج، فإظلام.





حوارات مع الذات


تعود الإنارة. 

ساعة هُنَالَنْدْ بلا عقارب من جديد.

المرأة تجلس على طرف أحد الكرسيين وأمامها نفس حقيبة السفر. 

على الطرف الثاني من الكرسي يجلس رجل متقدم في السن بنصف لباس عسكري، دائم الابتسام، قد يكون هو نفس الشخص السابق. سيتضح من خلال السياق أنه جندي متقاعد.

على الكرسي الآخر تجلس سيدة وأمامها عربة رضيع.

الثلاثة يلبسون كمامة تغطي الذقن دون الأنف. 

حارس الساعة خلف زجاج القفص ينصت للراديو ويلصق به أذنه من حين لآخر، أو يتنقل بين القفص والساعة الكبيرة هُنَالَنْدْ، يعالجها أو ينظفها. 

الأم تهدهد رضيعها. 

الرجل لا يتوقف عن تتبع تصرفات الأم ويبتسم.

المرأة لا يبدو عليها أنها انتبهت لوجود الأم وعربتها.


الأم: أَ اللَّهْ.. أَ اللَّهْ.. أَ اللَّهْ..

أَ اللَّهْ.. يا مَوْلَانَا

أَ اللَّهْ.. أَ اللَّهْ.. أَ اللَّهْ..

ربي يْدَاوِي حَالِي

دَاوِوْنِي.. دَاوِوْنِي..

يا لْفُقْهَا سَادَاتِي

بِدْوَاكُمْ جُرْحِي يِبْرَا 

يا اوْلَادْ المصطفى

أَ اللَّهْ.. أَ اللَّهْ.. أَ اللَّهْ..

أَ اللَّهْ.. يا مَوْلَانَا

المالْ يِمْشِي وُيْجِي 

وُ وِلْدِي يِبْقَى لِي

يا ربي أنتَ الوهاب

وانت تْعْلمْ ما بيّ

افتحْ لي يا الكريم 

الباب اللي ضاق عليَّ

أَ اللَّهْ.. أَ اللَّهْ.. أَ اللَّهْ..

أَ اللَّهْ.. يا مَوْلَانَا


الأم: (منكبة على رضيعها في العربة) أغو، أغو، حبيبي، أراك تبتسم. 

المرأة: (متأففة) أشعر وكأني أصبحت سجينة طول الانتظار بهذه المحطة.

الأم: أغو.. أغو..

الجندي: ياه.. تذكرني عربة الأطفال هذه بمهد الأسرة الخشبي. 

الأم: كم أنا سعيدة بك. إشراقة وجهك تدخل السرور على نفسي.

المرأة: (بنرفزة) كم أنا حزينة بهذا الجمود. 

يوم مسطح آخر خارج الزمن.

الجندي: سنوات عديدة مرت في لمح البصر منذ مرحلة الطفولة تلك.  

الأم: أغو.. أغو.. كم أنت جميل يا عزيزي، وكم أنا سعيدة بك.

الجندي: (مبتسما) كان والدي قد اشترى المهد بمناسبة ازدياد أول مولود له وكانت بنتا، أختي التي ساعدت والدتي في تربية باقي الأبناء رغم حداثة سنها، وشاهدت تعاقبنا نحن الإخوة على نفس المهد.

المرأة: (لا تلتفت لأحد. ترُجُّ في نرفزة حقيبة السفر وتنظر إلى ساعة هُنَالَنْدْ) آن الأوان لأرحل عن هذه المدينة الشبح. 

لا بد أن أرحل. 

الجندي: ما زلت أذكر شغبنا في بيت الأسرة، وكأنه كان بالأمس القريب. كنت أتوسط ثلاثة ذكور وأربع بنات. 

المرأة: لقد مللت التسكع في الشوارع الطويلة العريضة الفارغة. 

الأم: أتدري يا عزيزي أن القمر يغار منك نهارا ولا يسطع إلا عندما تنام ليلا؟ 

المرأة: حواجز أمنية تخنق الأنفاس واستنفار في كل مكان. 

الجندي: غريب أمر هذه الدنيا! تعددت الأسباب، فرحل جميع إخوتي وبقيت أنا وحدي، رغم أني عشت أهوالا قاسية وخضت حروبا ضارية لم يعرفوها.

المرأة: لا مقهى يستقبلك ولا بيت عبادة.

الجندي: أن تكون جنديا، معناه أن تحمل روحك على كفك في كل حرب تخوضها، وأنت لا تعير المخاطر أي بال.  

المرأة: عليَّ أن أرحل. 

الجندي: فظاعة الموت وشدة الأهوال كانت أحيانا تسكرنا، فنضحك في خضم الحرب بهستيريا لأتفه الأمور ونمرح، وكأن القنابل المتساقطة حولنا وصفيرها دقات طبل أو نغم ناي ليلة عرس. 

المرأة: لكن ما الوجهة هذه المرة؟

الجندي: (بزفرة عميقة وكأنه يريد حكي ذكرى استرجعها) إييه.. كنا مرة على مقربة من هضبة الجُولَالَنْدْ ببلاد سُورِلَنْدْ... 

المرأة: (تنتبه، تستدير نحو الجندي مستغربة) الجُولَالَنْدْ؟ سُورِلَنْدْ؟! 

الجندي: نعم سيدتي، ما الغريب في الأمر؟ 

المرأة: (متذمرة) لا يا سيدي، شكرا على هذا الرأي. تلك بلاد بعيدة لا أقوى على الوصول إليها، ولا أعرف عنها شيئا.

الجندي: أبدا، هي بذاكرتي ليست بعيدة، وكأنني لم أبرحها إلا أمس.

المرأة: بل بعيدة كل البعد. 

اقتراحك لا يناسبني يا سيدي.

الجندي: أي اقتراح سيدتي؟! أنا لم أقترح عليكِ شيئا. هي مجرد ذكرى عابرة مرت بخلدي أسترجعها. وهل تُنسى بطولات أشاوسنا بجُولَالَنْدْ؟ 

المرأة: (منتبهة ومرتبكة) معذرة. إذن، أنت لم تكن تخاطبني. ظننتك تجيب على سؤالي وتقترح عليَّ السفر إلى هنالك. 

الجندي: لا بأس. كنت فقط أُهَمْهِمُ باسترجاع بعض ذكريات الماضي.

المرأة: إذن، أنت من قدماء جنود هُنَالَنْدْ الذين شاركوا في حرب الجُولَالَنْدْ؟

الجندي: تماما.

المرأة: وما زلتَ تحتفظ بالذكريات التي عشتها هنالك.

الجندي: طبعا، بتفاصيلها.

المرأة: يا لها من ذاكرة قوية تسعفك في استرجاع تفاصيل الماضي. هنيئا لك بها.

الجندي: أشكرك سيدتي، لكنها قد تكون نعمة في طيها أحيانا نقمة.

المرأة: كيف؟

الجندي: جميل أحيانا أن تعود بك ذاكرتك القوية إلى أشياء وأحداث مبهجة عشتَها من قبل، وصعب بل مؤلم أن تتذكر مرات أخرى أناسا أحببتهم وفارقوك. لكن، حكمة الله تجعل أن لا فرح يدوم ولا ألم يدوم.

المرأة: إلا هذا الوباء، فقد طال ما فيه الكفاية، وحصد ما حصد من أرواح.

الجندي: مآله أن ينتهي يوما ويصبح ذكرى. 

المرأة: ليتنا نتذكر كل ما هو جميل فقط، وننسى الأحزان والأزمات.

الجندي: ذاك حسب طبيعة الأشخاص، فمنهم من يغشى ذاكرته السوادُ، ومنهم من لا يسترجع سوى لون الفرح والتفاؤل أو يحاول على الأقل أن يفعل ذلك. 

المرأة: وهل هذا ممكن؟

الجندي: آه لو تعلمين سيدتي كم عشت ورأيت من الأهوال خلال حياتي الطويلة المديدة، بدءا من هول الحروب إلى فقدان الأحباب والأصدقاء. لكن، ها أنا ذا ما زلت أعرف كيف أبتسم، بل أنا دائم الابتسام.

المرأة: وكيف تستطيع ذلك؟ لا شك أن يكون هناك أحد الأمرين، إما أن لك قوة خارقة للعادة تمكنك من ذلك، وإما... (تسكت)

الجندي: (يواصل بَدَلَها) وإما أن تكون فقدت بعض ملكاتك العقلية. 

لا يا سيدتي، أنا في كل قواي العقلية. إليكِ مثلا، عربة الأطفال هذه (مشيرا إلى العربة بعصاه) ذكرتني منذ لحظة بطفولتي المبكرة، رغم سني المتقدم، فاسترجعت كل ما هو جميل من تلك الفترة وأنا صغير بين إخوتي وأهلي ببيت الأسرة، وتجاهلت ما تلاها من فقدان أحبتي الواحد تلو الآخر.  

المرأة: كل هذا لأنك رأيت عربة الرضيع هذه؟


ينظران معا إلى العربة. تنتبه الأم إليهما.


الأم: أراكما مهتمين برضيعي. هل تريدان أن ترياه؟


تتقدم نحوهما بالعربة. ينظران إلى داخلها. تلتقي نظرتيهما في استغراب.


الأم: هيه؟ كيف وجدتما شمسي؟ قمري؟ أرأيتما ابتسامته كم هي جميلة؟

الجندي: (يفقد ابتسامته، يخفض بصره نحو الأرض ولا يرد).

المرأة: لطف حذر) معذرة، عمن تتحدثين سيدتي؟! 

الأم: (مشيرة إلى داخل العربة) عن فلذة كبدي هذا.

المرأة: عفوا، لا أرى أحدا بالعربة.  

الأم: كيف لا أحد بالعربة؟! ألا ترين ابني؟ شمسي وقمري؟ انظري كم هو جميل، أليس كذلك؟

المرأة: (مجارية بلا حماس ظاهر) فعلا هو جميل، نعم جميل. 

الأم: لم تسأليني عن اسمه.

المرأة: عفوا، ما اسمه؟

الأم: كان اسمه سيكون "إقبال"، قررنا ذلك وأنا في شهري الخامس من الحمل. كنا أنا وأبوه مقبلين على الحياة بثقة، واثقين في المستقبل (تصمت وتبدو عليها علامات انفعال غير عادية).

المرأة: وماذا حصل؟ 

الجندي: قَدَّر الله ما فعل.

الأم: (بتأثر بالغ) توقفت ساعة والد "إقبال" حين توقفت الساعات، وكان ذلك قبل الوضع بأسابيع قليلة، فتعطل الحمل. 


صمت وإصغاء بعطف لحديث الأم الذي يجري بشكل غير متماسك في مضمونه.


الأم: منذ ذلك الحين وأنا آتي إلى هذه المحطة أنتظر عودة حبيبي والد إقبال من سفره. كان قد سافر من أجل العمل. 

(تستأنف بنوع من الفرح تشوبه نغمة حزن دفينة) والد إقبال كان يحبني كثيرا، لا، لا، هو يحبني وسيبقى يحبني كثيرا.

هو لم يكن يتأخر عليَّ في سفرياته.

هو يعرف أنني أحبه أنا أيضا كثيرا.

سوف لن يتأخر عليَّ بعد الآن. أنا واثقة من ذلك.

لكن إقبال، حبيبي، شمسي وقمري، لا يفارقني، هو دائما معي، ينير كل أَنْهُرِي وساعات يومي في انتظار مجيء والده.  

(ضحك هستيري) إقبال سيكبر، سيكون شابا رائعا، سأتركه يختار مهنته ليصبح عالما أو طبيبا، مهندسا أو تاجرا أو رياضيا حسب اختياره. وسأعمل كل ما في وسعي لكي لا يغادر البلد ليوظف علمه وخبرته خارجها. سأدعه يختار شريكة حياته من هنا، ليسعد معها وتشُده إلى أرض الوطن. 

(بهمس، وكأنها تطلعهم على سر) سأكون جدة ل"إقبال ثان" ول"أمل" و"فرح". سأكون سعيدة أكثر عندما سيكون لي أحفاد كثر.

الجندي: (يهمهم) أرضنا كانت وستبقى دائما معطاءة وولودا مهما اشتدت الأزمات.

المرأة: (شاردة) حقق الله أحلامك سيدتي. 

الأم: والآن، معذرة، عليَّ أن أعود إلى البيت. إلى اللقاء غدا هنا.

(وهي تمشي نحو الوراء دون أن تلتفت إلى الخلف وتسحب معها العربة) وداعا سيدتي، وداعا سيدي، ربما سبقني أبو إقبال إلى البيت وهو الآن ينتظرني، سأعود إليه لنبدأ انطلاقة جديدة، لنستقبل معا إقبال (تخرج).

الحارس: (دون أن يوجه الكلام لشخص معين) مسكينة هذه المرأة، تأتي إلى هنا باستمرار وهي على نفس الحال.

الجندي: (ببعض الحزن) هي مجرد نموذج من ضحايا الوباء.

الحارس: لقد أصبح لها زمنها الخاص ولا تكترث بزمن الساعة المعلقة.

المرأة: (دائما شاردة) هل يمكن بالفعل الرجوع بالزمن إلى الخلف كما تدعي هذه المرأة؟

الجندي: (للمرأة) ممكن، وغير ممكن.

المرأة: كيف؟ 

الجندي: بالنسبة لهذه السيدة البئيسة، مهما حاوَلَتْ، لن يعود بها الزمن للخلف حتى يعيد لها زوجها وجنينها. 

المرأة: إذن، كيف يمكن العودة بالزمن إلى الخلف؟

الجندي: بالثقة في الحلم وبالإرادة.

المرأة: (مستخفة) هذا كلام شاعر، وليس كلام جندي.

الجندي: بل كلام عجوز خبر الحياة.

المرأة: الأحزان يا سيدي تفتك بالأفراد والأزمات تسحق الشعوب.


وهي تخوض حديثها مع الجندي، تفتح المرأة حقيبة سفرها وتبدأ تخرج وتدخل منها وإليها أشياء غريبة لا معنى لها، دمية، مشط، قارورة دواء، حذاء بعجلات، ...


الجندي: مع الأسف، شعورنا بالأفراح ليس هو شعورنا بالأحزان.

المرأة: تعبٌ كُلّها الحياةُ فما أعـ ... جبُ إلا من راغبٍ في ازدياد

الجندي: بل حِدَّة إحساسنا بالفرح والحزن هي التي تختلف. 

المرأة: ما الحياة في مجملها إلا تعب ومصائب وأهوال.

الجندي: لا يا سيدتي، بل هي طبيعة الأحزان والأزمات هكذا، فمهما صغرت تطغى على لحظات الصفاء في حياة الأفراد وتطفو على السطح، وحقيقة الأمر أنها، رغم حدة قهرها وألمها أحيانا، تكون أقصر من لحظات السعادة، شأنها في ذلك شأن نقطة زيت صغيرة سائحة فوق بركة ماء.

المرأة: لكن الأحزان تناسلت هذه المرة بسبب الأزمة التي شملت كل الناس.

الجندي: من حِكَم الله أن الأزمات بالنسبة لذاكرة وتاريخ الشعوب تُقَاس بعمر فقاعات، وتُنْسَى سريعا كما يُنسى وجع المرفق. 

المرأة: ذكرتني بالمثل القائل: "المُوتْ دِ لْمْرَا فْحَالْ الضربة دِ لْغُمْرَ" 

(تضحك وهي تخرج من حقيبتها طربوش رجل مثقوب تحركه بشكل مستفز) أضحكتني رغم ما أنا فيه.

الجندي: أرأيت كيف انقلب حالك سريعا من كآبة إلى بعض المرح؟ كذلك هي الحروب والأوبئة والأهوال، تنسى سريعا رغم شدتها، وقد تكون حافزا لتقدم الشعوب ورقيها وانبعاثها مجددا، من تحت رماد أحيانا. وفي ذلك عبرة للأجيال.

المرأة: أبهذا المعنى، يكون استقراء التاريخ سفرا نحو الخلف عبر الزمن؟

الجندي: نوعا ما...

المرأة: محير أمر الزمن هذا! كلما استفسرتُ في شأنه زادت حيرتي.

الجندي: وقد تزيد حيرتك إن علمتِ أن الزمن أزمنة متعددة. 

المرأة: (بنوع من العتاب) لا، لحد الآن كنت مرتاحة لرجاحة عقلك والحديث معك، وها أنا ذي بدأت أتيه في ألغاز كلامك (تبدأ في جمع أغراضها من جديد وتراكمها بالحقيبة دون ترتيب). 

الجندي: الزمن يصفه العارفون بكونه أزمنة متداخلة ومتشابكة. فهناك زمن كوكبنا هذا؛ وزمن الفضاء؛ وزمن الطبيعة؛ وزمن الأشخاص كل على حدة؛ وأزمنة الجماعات والشعوب. 

المرأة: لا أستطيع مسايرتك! كيف تفصل بين كل هذه الأزمنة وخصوصا بين زمن الأشخاص وزمن الشعوب والأمم؟ 

الجندي: زمن الأشخاص محدود بمدة حياتهم كما تعلمين، بينما قد يكون الزمن بالنسبة لأمة أعرافَها وتقاليدَها وعلومَها، وهو ما يشكل تفوقها أو انحطاطها في فترة معينة.

المرأة: وكأني بك تتحدث عن ثقافة أو حضارة أمة في حقبة من تاريخها؟

الجندي: (بشكل غير قطعي) شيء من هذا القبيل.

المرأة: وما علاقة هذا بموضوع حديثنا؟

الجندي: من شروط ازدهار حضارة واستمرارها أن تتجدد. فإن تعطل تطورها، تعطل زمن الأمة، ساعتها تصبح خارج سيرورة الزمن. 

المرأة: وها نحن إذن أصبحنا بسبب الجائحة وعُطْل الزمن خارج سيرورته!

الجندي: الأمور لا تسير بمنطق "يا أبيض.. يا أسود.. " سيدتي.

المرأة: وماذا تسمي ما نحن فيه؟

الجندي: سفر في الزمن بسرعة غير اعتيادية؛ سفر في زمن معطل.

المرأة: وأسفاري وترحالي عبر الأماكن والبلدان في زمن تعطلت فيه الساعات، هل هو سفر كذلك في الزمن؟ 

الجندي: أنا مجرد جندي سابق بسيط، تصعب عليَّ الإجابة على سؤالك حول علاقة الزمن بالجغرافيا. لكن، في اعتقادي لا يمكن للزمن أن يكون مسطحا، وإلا أصبح سباتا أو موتا.

المرأة: (بإعجاب) جندي بسيط وعجوز أذهلني بحكمته.

الجندي: حكمة السنين وتجارب الحياة. ألا يقال إن الحياة مدرسة؟

المرأة: وأنت؟ هل تشعر حقا أنك داخل الزمن؟

الجندي: لم أفكر من قبل في الأمر. 

المرأة: لا شك أنك خلال مراحل حياتك الطويلة شعرت بشيء فيك تغير؟

الجندي: أكيد، كل وقت له أذانه كما يقال.

المرأة: إذن؟

الجندي: قد يعتقد البعض أن الزمن قد توقف بالنسبة إلى من كان في سني. بينما، أراه مازال متدفقا بداخلي، منفصلا عن وعاء جسدي الذي لحقه الوهن، ما دمت أعي لحظتي، وأنتظر غدي، وأسترجع ذكرياتي الماضية. بل أكثر، أربط كل هذه الأزمنة بما كان حولي، وبما آل إليه حاضري، وقد أستشرف غدي القريب وأتخيل ما بعده، وحتى ما بعد الرحيل. والجميل أنني غالبا ما أفعل كل هذا وأنا أبتسم. أبتسم لحماقات الماضي، أبتسم لسخرية الحاضر، أبتسم، ربما لأن أحلامي وطموحاتي لم تعد هي نفس آمال العنفوان. وأحيانا أخرى أشعر أن حياتي، كل حياتي أصبحت هي لحظة الحاضر الذي أحياه.

المرأة: ياه! لم أكن أنتظر هذا الجواب منك.

الجندي: ماذا تقصدين؟

المرأة: كنت أنتظر منك أن تقول مثلا: إن الزمن قد توقف بالنسبة إليك، أو إن الزمن أصبح خلفك، أو شيئا من هذا القبيل.

الجندي: الزمن سيدتي لا يقدر بعدد السنين بل بعنفوان الحياة. فكم من حي خرج من الزمن قبل الأوان.

المرأة: إلا أنا، لم أعرف كيف أبرح سكونه هذا. لذلك وجدتني أحاول أن أسافر كل مرة بحثا عن مكان يتنفس الزمن، تتدفق فيه الحياة، لكن دون جدوى.

الجندي: ها أنت تثيرين للمرة الثانية نفس الإشكالية. 

المرأة: ماذا تقصد؟

الجندي: تبحثين عن نبض الزمن في متاهات المكان.

المرأة: بالله عليك، لا تجعل الأمور أصعب مما هي عليه. أنا أتكلم بعفوية وعن سليقة، ولا يهمني الزمن في حد ذاته، ولم أهتم قط بالمكان من حيث هو مكان. أنا أتوق للسفر لأن الحياة هنا متوقفة. أنا أبحث فقط عن مكان أجد فيه دبيب الحياة، لكن يبدو أنني أدور في حلقة مفرغة ولا أبرح مكاني.

الجندي: إن سلمنا بأن الزمن أزمنة، سيسهل علينا أن نقتنع بأن للمكان أيضا ذاكرة وزمن.

المرأة: (تهب واقفة) هذا كلام يتجاوز طاقة إدراكي، سيزج بنا في متاهة لا أقوى على الخوض فيها. دعني أعود إلى رصيف المحطة علني أجد قطارا على وشك الانطلاق. 

الجندي: (يبتسم) ليكن حظك أحسن هذه المرة.

المرأة: وداعا أيها الجندي الطيب.

(بمرح نحو الحارس) وأنت أيها الحارس المخلص لساعته وللأوامر التي تحركها، انفض الغبار عن حبيبتك وعقربيها علَّ الزمن يدب قريبا في أوصالها من جديد.


تمسك بحقيبتها وكأنها ستشرع في المشي، وتبدأ الخطو في مكانها دون أن تتقدم.


إظلام.





عربة ورود


نفس الفضاء. 

نفس الأشخاص في أوضاع مختلفة عن السابق. ساعة هُنَالَنْدْ معلقة دائما على مستوى قامة الحارس أعيد لها عقرب الساعات فقط من جديد. باقي الساعات مثبتة عليها العقارب مثنى أو فرادى في أوضاع تشير لأزمنة مختلفة. العقارب غير المثبتة معلقة خارج إطارات الساعات. 


المذياع: (بعد الإشارات السمعية والضوئية) مستمعينا الأفاضل، لا أحد يعرف بالضبط حقيقة الوضع المتفاقم الذي أصبح العالم عليه. ساعة البيڴبن (Big Ben) وكذلك ساعة مكة، تعلنان فشلهما في توحيد الأزمنة، مما نتج عنه تخبط وضبابية من أقصاها إلى أقصاها، في انتظار حل قد يأتي بعد شهور أو سنوات. لذا، تخبركم مصادر القرارات بِهُنَالَنْدْ أن المسؤولية أصبحت مسؤوليتكم في مواجهة الوضع. هذا ما وجب به الإعلام والسلام.


المرأة: (باندهاش نحو الحارس) أسمعتَ؟ تخبط وضبابية عامة! من أقصاها إلى أقصاها! 

الحارس: (يستقرئ الساعات ويشرع في مسح الغبار ونفضه عن ساعة هُنَالَنْدْ) ذاك شأنهم. أنا لا تعنيني سوى ساعتي هذه.

الجندي: أمرك غريب يا هذا.

الحارس: ما الغريب في الأمر؟

الجندي: ألا تدرك أن المصاب جلل وأن الإنسانية جميعها في خطر؟

الحارس: قلت لكما مرارا إنني مسؤول عن ساعتي هذه فقط، والتعليمات لا تأمرني بالاهتمام بسواها.

الجندي: ألا تدرك أن ساعتك لا قيمة لها دون غيرها من الساعات؟

الحارس: لم تخبرني التعليمات بهذا، وإن كان ما تقول صحيحا، فمن الجائز بل المؤكد أن يكون لباقي الساعات من يحرسها ويستقبل التعليمات في شأنها.

المرأة: لا تضيع وقتك في الحديث مع لولب معقوف ضمن تُرُسِ ومنظومة ساعة كبيرة، أكبر منه ومن ساعته الحائطية هذه. هو كل مرة يعيد نفس الأنشودة.

الجندي: ليته يدرك أن عُطْل الزمن هذه المرة شامل، وأن عُطْل زمن ساعتِه من عُطْل زمن باقي الساعات.

الحارس: لو كنتما على صواب في ما تقولانه لما أُغْلِقَت الحدود بين بلدان العالم في وجه الناس، وفُرِضَ نظام خاص بساعات كل بلد على حدة، وكذلك حركة قطاراتها. لهذا أنا لا تعنيني سوى ساعة هُنَالَنْدْ، مادامت هُنَالَنْدْ كغيرها من بلدان العالم أصبحت جزيرة معزولة ضمن أرخبيل الجزر.

المرأة: في هذه أنت على صواب.

(تضحك بانفعال) آه.. كم هو عادل ذاك الكائن الغريب اللامرئي الذي غزا دول العالم كلها، فساوى بينها بتعميم الوباء عليها؛ عادل لأقصى حد عندما عطل أزمنة كل الساعات، دون تمييز بين من كانت ساعته من طين أو من ذهب. ربما لأول مرة في تاريخ البشر يحصل هذا. 

الجندي: لا أدري إن كان الوباء عادلا، لكن الأكيد أنه جبار، يسخر من ضآلة البشرية جمعاء، غنيها وفقيرها، قويها وضعيفها.

المرأة: وكأني به يعاقبنا على إثم اقترفناه.

الجندي: بل هو يعاقبنا فعلا على تهورنا وجشعنا وتنكرنا للطبيعة الأم، وربما علينا أن نعتبر أن هذا الوباء، رغم شراسته، لا يعدو كونه قرصة أذن للاتعاظ مستقبلا فقط.

المرأة: إن كان كذلك، فهي قرصة أذن باهظة الثمن.

الجندي: جرمنا أيضا كان ومازال كبيرا ولا يستهان به عندما كَابَرْنا واغمضنا عيوننا عن أخطائنا المتكررة، ولم نحاول إصلاحها قبل فوات الأوان. ذابت ثلوج المحيطين المتجمدين ولم نتعظ؛ تغطت مدننا بالسحاب الدخاني ولم نتعظ؛ تقلصت مساحات غابتنا ولم نتعظ؛ أنهارنا وبحارنا تحتضر كل يوم أكثر ولم نتعظ؛ تفشت الأمراض والأمراض المزمنة ولم نتعظ؛ تلاحقت الأوبئة أكثر من ذي قبل ولم نتعظ؛ فكانت النتيجة أن تفتقت عبقرية الأقوياء منا بالبحث في الفضاء عن كوكب يستقبل خلفنا، لأن الأرض ذاهبة إلى الاحتضار لا محالة. 

المرأة: هذا اقتلاع للأذن وليست قرصة أذن. 

يا لها من صورة قاتمة تقبض الصدر! 

الجندي: هي قرصة أذن صحيح مؤلمة، وسيكون لها ولا شك مخلفات. 

المرأة: (مستظرفة) كأن نقضي عطل آخر السنة بكواكب أخرى مثلا؟

الجندي: عهد جديد -ولا شك- في مسيرة البشرية ومستقبلها ينتظرنا. 

المرأة: يبدو أنه ليس علينا أن ننتظر ما سيأتي به الغد لندرك ذلك، فقد انقلبت حياة الناس رأسا على عقب، بدءا من طريقة تبادل التحية، إلى أنشطتهم اليومية كافة، إلى أسلوب كسب عيشهم.

الجندي: وما خفي كان أعظم.

المرأة: ليس بعد ما نحياه ما يخيف!

الجندي: بل قد تُسْتَغَل غفلتنا للاتجار فينا.

المرأة: ليس بعد الموت ما يخيف!

الجندي: أثناء الحروب والأزمات تبرز عادة فئات ما يسمى ب"أغنياء الحرب" أو «أغنياء الأزمة" من طرف "لوبيات" المال والنفوذ العابرة للقارات. وفي مثل هذا الوضع قد يكون الرهان كبيرا وخطيرا، وقد تظهر للوجود "لوبيات الوباء" على غرار "لوبيات الدواء" و"لوبيات الاتصالات" وغيرها. 

المرأة: لقد زدت من هلعي، فماذا ينتظرنا أكثر مما نحن فيه؟

الجندي: نحن في فترة تستوجب الحذر، الحذر الشديد، حتى لا يُتَحَكَّم مستقبلا في إرادتنا، لأي سبب من الأسباب، سواء أكانت تجارية أو سياسية أو لاستراتيجيات تَحَكُّمِية عالمية. 

المرأة: ياه! أكل هذا ممكن أن يكون طي مخلفات الوباء.

الجندي: لا أحد يمكن الجزم بإثباته أو نفيه، لكن تاريخ الحروب علمنا أن "مصائب قوم عند قوم فوائد". وكل ما نحن مطالبون به هو الحذر ثم الحذر. فقد يكون السم في الدسم كما يقال.

المرأة: زدت من هلعي يا رجل. أما من بصيص أمل للخروج من النفق؟

الحارس: (بتدخل ناشز) أي نفق؟ حسب علمي من خلال القرارات، كثيرة هي القطارات الواقفة بالأنفاق، وأخرى فوق القناطر، أو تحت الجسور.

الجندي: مكوث القطارات واقفة بالأنفاق وخارجها موت.

المرأة: المكوث على الأرصفة في انتظار القطارات موت أيضا.

الحارس: وكأني بكما تقولان إن العقارب المعلقة بقرار هي أيضا موت.

المرأة: (تهمهم، مبدية بعض الخوف) لا أريد أن أموت، لا أريد أن أموت، لا بد من مُخْرَج.

الجندي: لا سبيل للنجاة إلا بمحاربة الموت.

الحارس: لا سبيل للنجاة إلا بإرجاع العقارب كلها إلى أماكنها.

المرأة: وبانطلاق القطارات. لكن، متى وكيف سيتم ذلك؟

الحارس: لا سبيل لانطلاق القطارات إلا بإرجاع العقارب كلها إلى أماكنها.

الجندي: ستبقى العقارب معلقة إذا لم نحارب الموت.

الحارس: حاربوا الموت كما شئتم، لكن إصلاح عُطْل الزمن، وإرجاع العقارب إلى أمكنتها، لا يمكنهما أن يتما إلا بقرار.

الجندي: (مسايرا الحارس) وعليه.. فليكن.. لكن الزمن لا يمكن أن يُصْلَح عُطْلُه أيضا إلا بمحاربة الموت. 

المرأة: وهل يمكن محاربة الموت؟!

(متهكمة) وأنت أيها الجندي المحظوظ، الذي لم يَخْبَر الموت بعد، هل حاربت الموتَ من قبل؟

الجندي: حاربته طيلة حياتي ومازلت أحاربه كل يوم وكل لحظة. 

(نحو المرأة) أنتِ أيضا بإمكانك أن تفعلي ذلك.. 

(نحو الحارس،) وأنتَ أيها الحارس.. 

(نحو الجمهور) وأنتِ أيتها المسترخية في مقعدك.. وأنتَ الذي تضفر شاربك.. وأنتم كلكم.. بإمكانكم فعل ذلك.. بإمكانكم الانتصار على الموت.. بإمكانكم هزم الموت.. بإمكانكم الانتصار للحياة.. لا بد من مواجهة الموت بالحياة...

المرأة: (غير مقتنعة) حماسة جندي متقاعد يخال نفسه في ساحة الوغى.

الجندي: لا يا بُنَيَّتي.. لا أنطق عن اندفاع أو حماس زائد، بل عن تجربة من خَبِرَ ضروب الحياة المختلفة. 

(يغير من نبرة صوته وكأنه يسترجع ذكريات ذات أهمية) تصوري أننا حتى في ساحات المعارك، كان الناجون من سيل القذائف ومزارع الألغام يستمرون في التشبث بالحياة إلى آخر رمق. يواجهون الموت بتحدي الموت؛ بالتشبث بالحياة؛ يواجهون الموت بهستيريا الضحك لنزع لباس الخوف، بارتداء لباس التحدي والحذر؛ يواجهون الموت بالإيمان أن النصر ممكن؛ يواجهون الموت بالغناء الجماعي والرقص، لتطويق زمهرير الوَحْدة الداخلية غير المعلنة لكل واحد منهم.

المرأة: في ظروف الحرب يكون العدو معلوما، بينما في زمن الوباء، يكون العدو غير مرئي ومخاتلا.

الجندي: العدو دائما عدو، له أسراره الهجومية، وعلى المحارب إيجاد صيغ الصَّد الملائمة.

المرأة: مع الوباء، صيغ الصد ليست ملك أيدينا، لسنا كلنا علماء للبحث عن دواء ناجع. 

الجندي: لا سيدتي، لسنا مطالبين بإيجاد الدواء لأنفسنا، ذاك من اختصاص غيرنا. بل المطلوب منا جميعا أن نقتنع بمحاربة الوباء، ونعمل من أجل ذلك.

المرأة: كيف يمكننا فعل ذلك؟ وفِيمَ سيفيد إن اقتنعنا بذلك أم لم نقتنع؟ 

الجندي: فلنقتنع أولا أننا لا يمكننا أن نحارب الموت إلا بالحياة. تأكدي سيدتي أن الوباء لن يُقضَى عليه إلا بحب الحياة، بالتشبث بالحياة، بتحمل مسؤولياتنا من أجل الحفاظ على حيواتنا، بانضباطنا لما فيه مصلحة الجميع. 

المرأة: قراراتنا ليست بأيدينا. هم يقررون بدلنا. 

الجندي: القرارات التي تأتي من فوق ضرورية، من أجل التوجيه والنصح، لكن، حيواتنا ملكنا، نحملها فوق أكفنا، قد نصونها بسلوكنا ووعينا، وقد نخسفها بتهورنا.

المذياع: (بعد الإشارات اللازمة) توصل العلماء عبر العالم إلى صنع عدة أنواع من اللقاحات، وسيُشْرَعُ قريبا في تعميم تلقيح المواطنين. إلى ذلك الحين فالوباء مازال قائما وعليه، لا بد من احترام شروط الوقاية اللازمة ومواجهة الموت بالحياة.

الحارس: يبدو أن عودة دورة الزمن وشيكة. هي لحظة انتظرتها طويلا.


يتوجه الحارس إلى الجدار، يحمل عقرب الدقائق الموجود خارج إطار ساعة هُنَالَنْدْ، يمسحه باعتناء، يضمه إلى صدره بحب، يعود إلى مكانه بالقفص الزجاجي، يلبس كمامة بعناية، يعالج جهاز الراديو باهتمام، وكأنه ينتظر مزيدا من الأخبار السارة، ثم يتوسد ذراعه وينام.


المرأة: سَأَحْيَا.. لا أريد أن أموت قبل الموت.. لا بد أن أحيا. 


المرأة، تتوجه نحو أحد الكرسيين تضع الكمامة فوق أنفها بحركة واضحة ثم تنام متأبطة حقيبة السفر.


الجندي: حال الدنيا.. "سيجعل الله بعد عسر يسرا"


يقصد الجندي الكرسي الثاني، يضع هو أيضا كمامة شفافة فوق أنفه تسمح بظهور ابتسامته الدائمة، يطيل النظر إلى الحارس فالمرأة، ثم يلقي برأسه نحو الخلف وينام.


تخفت الإنارة تدريجيا، إلى أن يعم الظلام بالركح. 

ثم تسمع زغرودة آتية من القاعة المظلمة، فيسلط شعاع ضوء ناحية مصدرها. 

تدخل الأم تدفع عربتها ببطء نحو الركح وهي مملوءة بالورود. 

تُعَادُ الإنارة إلى الخشبة تدريجيا، بعد إرجاع عقارب الساعات والدقائق إلى أماكنها الطبيعية داخل إطارات كل الساعات، مع عودة ساعة هُنَالَنْدْ إلى مكانها الأول أعلى الجدار. 


الأم: (وهي تطلق من حين لآخر زغرودة إلى أن تصل إلى الصفين الأولين حيث توزع بعض الورود على الجالسين بهما فقط بحركات مبالغ فيها نوعا ما). 

لكم مني ورود أبنائي وأحفادي. 

لكم مني ورود "إقبال" و"أمل" و"فرح".

لكم مني ورود كل مولود جديد بهذا العالم.

لكم مني إشراقة وجه كل رضيع بَاسِم.

لكم من كل "إقبال" وكل "أمل" وكل "فرح" وردة تفاؤل، زهرة محبة، وبرعم سلم وسلام.


تعاد هاته العبارات حسب المطلوب، ثم تصعد إلى الخشبة بعربتها، تجوبها مخاطبة الجمهور وهي تلقي كل مرة وردة نحو الجمهور.


لنحتفل جميعا بعودة الابتسامة لكل رضيع بمهد.

لنحتفل بعودة الأحضان للأحضان والقبل عند السلام. 

لنحتفل برقصة العقارب فوق رخام الساعات. 

لنطرب بضجيج القاطرات على السكك.


تسمع أصوات القطارات والطائرات بالتناوب على خلفية صوتية لضجيج شارع أو سوق تتخللها أصوات محركات السيارات والدراجات. 

تدخل جماعة الكومبارس من جانبي الركح، وبيدها ما يحمله المسافرون عادة من أغراض، وكأنها آتية من رصيف القطارات أو متوجهة إليه، وتتكرر الحركة دون انقطاع إلى آخر المشهد.

يستفيق كل من الحارس والجندي والمرأة، وجميعهم بدون كمامة. 

تخلع المرأة معطفها القاتم لتبدو أكثر جمالا وحيوية في لباس بألوان مبهجة. 

تنظر المرأة إلى ساعتها ثم إلى ساعة هُنَالَنْدْ (كما فعلت في بداية العرض)، تبدو حينها أنها في استعجال من أمرها، تجر حقيبة سفرها بنشاط وتتوجه نحو الرصيف وكأنها تأخرت عن موعد انطلاق قطار. 

يتحول الحارس إلى "نادل" يقطع الركح ذهابا وإيابا بعجل، وبيده صينية بأكواب وهو يردد طلبيات زبائن وهمية (في إشارة لعودة الحياة الطبيعية ودورة الزمن العادية). 


النادل: شاي.. قهوة.. سندويتشات.. شاي...


يأخذ "الجندي" هيئة "الرجل/الزمن". يجوب الخشبة بخطى رتيبة وتمايل، يتطلع إلى ساعة هُنَالَنْدْ، ثم يتوجه نحو القفص الزجاجي ويخرجه نحو الكواليس بنفس التمايل والخطى الرتيبة. 

ينطلق في تلك الاثناء صوت المذياع بعد الإشارات اللازمة.


المذياع: يشير مصدر القرارات إلى أن كل مؤشرات النمو ببورصة هُنَالَنْدْ تعرف ارتفاعا محسوسا.


عودة كل الممثلين إلى الخشبة في جو احتفالي مرح.

تطلق المرأة زغرودة مطولة وتلقي بمعية الآخرين بباقي الورود إلى جهات مختلفة من القاعة.

الكل يصفق للجمهور.

تضاء القاعة.



تمت بحمد الله يوم الاثنين 28 ديسمبر 2020. 


*ملحوظة: الحقوق محفوظة للمؤلف.



من مؤلفات د.الطيب الوزاني

  • في المسرح

  1. «بيتزا.. همبوركر.. سوشي..» /2017.

  2. «آلهة بالطابق السفلي» / 2018.

  3. «أحلام بلا لون» / (2020).

  4. «شربيل حليمة» / (2020).


  • في القصة القصيرة جدا (مجموعات قصصية)

  1. »سنابل من حبر» / (تأليف جماعي) 2018.

  2. «أوراق قزحية» / 2016.

  3. «تفاحة الغواية» / 2016.

  4. «حمائم وأشواك» / 2014.

  5. «ثورة الياسمين» / 2012.


  • أعمال أخرى 

  1. «مقاربات نقدية في الق ق ج عند الطيب الوزاني» / (تأليف جماعي) / 2016.

  2. «حسني الوزاني المبدع المتعدد» (إعداد)/ 2008.

  3. «تأملات في الغريزة والعقل» / (تأليف)./ 2007

  4. «محمد الكتاني في ميزان التقويم والتكريم» / (تأليف جماعي) / 2002.

  5. «الحياة بين النشوء والتطور والاستمرار» / (تأليف) 1998.

  6. مقالات منشورة في مجلات علمية مختصة.

مقالات منشورة في جرائد ومجلات مختلفة.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق