تمهيد: الكتابة المفكر فيها
تنحو مسرحية كازابلانكا لكمال خلادي لتكون كتابة مُختبرية، ذلك أن هذا النص المسرحي أنتج في إطار مشروع إقامة فنية بالولايات المتحدة الأمريكية، هذه الإقامة التي وفرت للكاتب ظروفا مناسبة لاختبار تصوراته الإبداعية، ورسم معالم كتابة مسرحية مفكر فيها، ذلك أن المشرفين على المشروع وفروا له ممثلين لاختبار تصوراته النصية-الإخراجية فوق خشبة المسرح، وهو ما يسمح له بالكتابة وإعادة الكتابة بما يناسب شروط العملية المسرحية.
فها هو الكاتب كمال خلادي نفسه يوضح ذلك منذ الصفحة الأولى في المسرحية التي جاء فيها: "بدأت رحلة كتابة هذه المسرحية خلال إقامة الكتاب والمؤلفين الموسقيين التي يوفرها معهد ساندانس يوكروس الثقافية UCROSS ولاية WYOMING بالغرب الأمريكي شهر يناير وفبراير 2017، وطورت بمختبر معهد ساندانس للمسرح 2018، وتم الانتهاء منها شهر مارس 2019".
إنها ظروف مختلفة ومغايرة لتجريب طرق إبداعية جديدة في الكتابة المسرحية، لاسيما أن كمال خلادي يعتبر من الكتاب الشباب الذين يحملون رؤية جديدة للمسرح المغربي، وبالرغم من أنها رؤية جديدة في الكتابة إلا أنها تمثل أيضا تطلعا لجيل جديد من كتاب النصوص المسرحية بالمغرب. التطلعات الفنية والجمالية التي يمكن تسميتها بالحساسية الجديدة في الكتابة المسرحية المغربية، كما يشكل إلى جانب كتاب آخرين ما يمكن أن نسميه شعرية الجيل الجديد، وهو الكاتب الذي أعلن ثورته على التقاليد المسرحية المتوارثة، لاسيما ما يتعلق بالبحث عن الهوية الثقافية وقضايا التأصيل واستلهام التراث، رغبة من هذا الجيل الجديد في فهم الواقع وتفسيره تفسيرا جماليا من خلال الكتابة الدرامية، تفسيرا متنوعا ومختلفا عما كان سابقا. فما هي أهم خصائص الكتابة الدرامية عند كمال خلادي؟ وإلى أي حد يمثل هذا النص الحساسية المسرحية الجديدة؟
1 – الحدث: المقلق واللامفكر فيه
تدور أحداث المسرحية حول عائلة غنية في مدينة الدار البيضاء، عائلة تتكون من الحاج إدريس الديوري، وهو عميد أمن ينحدر من أسرة فقيرة، ارتقى السلم الاجتماعي بعد مصاهرته لأسرة بوشنتوف الغنية، وأصبح يرتقي بفعل هذه المصاهرة إلى أن بلغ مبلغا كبيرا في السلطة بعد أن كون نفوذا كبيرا في المدينة من خلال علاقاته المتشعبة. رجل سلطة صارم وعنيف، دأب على ممارسة الجنس بطرق شاذة ومخيفة، بل وصادمة للقارئ/المتلقي المغربي، سلوكاته غير طبيعية يخفي خلفها جرائمه التي لا يكف عن سردها كلما سنحت له الفرصة. يبلغ نشوته الجنسية بتعنيف المرأة إلى أن يقضي عليها، وحينها يطلب من خادمه بوسلهام، الخادم المخلص، التخلص منها.
إنها أفعال تكشف سلوكات شاذة لرجل غني غارق في معاقرة الخمر وممارسة ألوان من التعذيب على خصومه/خصوم الدولة في اعتقاده، وهكذا يسدل الستار عن الجولة الأولى من المسرحية في إيحاءات إلى قتل الحاج إدريس الديوري لآخر بائعة هوى/داميا التي رافقته إلى ضيعته على أطراف المدينة، ليسدل ستار الجولة الأولى التي تركت بياضات كثيرة يعسر على المتلقي ملأها.
وفي الجولة الثانية من هذه المسرحية، ينقلنا الكاتب إلى فضاء منزلي تلتقي فيه أسرة الحاج إدريس الديوري والحاج عزيز بناجح في حفل خطوبة ابنهم يونس الديوري من كنزة بناجح، وفي تنام دراماتيكي للأحداث، ومماحكة إبداعية خلاقة، يتكشف واقع الأسر الغنية في مدينة الدار البيضاء، حيث ترفع حواجز الحياء، وتقاليد العائلات الفقيرة، ويصبح شرب الخمر على مائدة الطعام أمرا مألوفا في الفضاء الأسري، والنطق بالكلام البذيء أمرا عاديا، والتعبير عن الاراء في المواضيع المحرجة جائزا، إنه عالم مختلف حقا، استطاع كمال خلادي أن يدخل القارئ في سراديبه، ومعرفة خباياه.
وفي هذه الأجواء المليئة بالضحك والسمر والاحتفال بأجواء الخطوبة، تدخل نورا، ابنة الخادمة كنزة من زواجها الأول، دون سابق إنذار لترتمي على قدمي الحاج إدريس الديوري، متوسلة إليه إنصافها من اغتصاب ابنه يوسف لها منذ مدة طويلة، غير أن الحاج يصرخ في وجه ابنه المرتبك والمحاول إنكار ما وقع ليخبره أن يردد وراءه: "كلت ليك شوف فيها وكليها، درتها ومن بعد، ضربي راسك مع الحيط".
وفي ظل هذه الأجواء المشحونة تتكشف مفاجأة أخرى من ماريا بوشنتوف زوجة الحاج الديوري، التي أخبرت الجميع أن كنزة الخادمة أم نورا أخذت النقود مقابل ذلك، غضبت الفتاة صارخة غير مصدقة لما يحصل أمامها، تسأل أمها عن صحة ما تقوله المرأة، تتأكد من ذلك بعد صمت الأم، فتهرول نحو شباك النافدة الذي كان مفتوحا لتلقي بنفسها منه، لتسوي الأسرة الأمور بالمال مع الخادمة كنزة كما كانت تفعل دائما.
أما الجولة الثالثة والأخيرة فيظهر فيها إدريس الديوري تعبا ومرهقا بعد يوم شاق في العمل، تتقرب إليه زوجته ماريا بوشنتوف لمساعدته على الاسترخاء، يتذكر الحاج أمه وأسرته التي هجرها بطلب من ماريا ليقبل به والدها، يستطردان في تذكر الماضي، بينما يستعيد الحاج الديوري حكاية شاب يشبهه ولا يستطيع تعذيبه كما يفعل مع الاخرين، يشرب الخمر ويحاول مراقصة الخادمة التي كانت تخدمهم، ويسألها الحاج المنتشي عن سبب بيع ابنتها مرتين، تخرج الخادمة دون إبداء رأيها بعد دخول السيدة ماريا بوشنتوف.
وفي جو من التداعيات الحرة يسقط الحاج إدريس الديوري وماريا بوشنتوف أرضا يصارعان الموت، لتدخل الخادمة المنتقمة لزوجها (بوسلهام) الذي أخذه الحاج منها، وانتصارا لدماء ابنتها الوحيدة، لقد وضعت مادة سامة في شرابهما، وها هي تشهد احتضارهما قبل أن يسدل ستار النص المسرحي.
لقد اختار كمال خلادي موضوعا راهنيا، غير أنه مقلق إلى درجة كبيرة، نظرا لما يتضمنه من مشاهد صادمة للقارئ العربي عموما، والمغربي خصوصا، ما يحدث دهشة إنسانية وفنية وأخلاقية.
كما أن الحدث المسرحي، يعكس بشكل ملفت اللامفكر فيه، باعتباره عيبا أو طابو يستحسن السكوت عنه، لكن الكاتب واجه هذه الوقائع بمعالجة درامية تنم عن بحث عميق للوضع السوسيوثقافي لشخصياته، بل يؤكد أن النص عولج دراميا في المختبر كما سلف الذكر في التمهيد.
2- العنف والصراع: من أجل حساسية درامية جديدة
يخلق الصراع الدرامي أبعادا جمالية ورؤى مفتوحة ومغرية في مسرحية "كازابلانكا"، حيث يتنامى الحدث ويتطور من خلال الصراع الدرامي الذي يعكس ثنائيات ضدية عديدة تكشف تناقضات إنسانية ومشكلات اجتماعية عميقة، وهي نفسها تشكل عوالم موازية لبعضها البعض، مثل الفقر والغنى، والقوة والضعف، والظلم والعدل... وغيرها من هذه الثنائيات التي تشكل جوهر العمل المسرحي ككل.
إنه الصراع الذي يحتد بين الشخصيات ليكون بؤرة دلالية يتناسل من خلالها الحدث في خط تصاعدي ليبلغ ذروته، غير أنه يؤدي أحيانا إلى تمظهرات للعنف بمختلف أشكاله، سواء كان رمزيا أم جسديا، كما هو الأمر في المقطع التالي:
إدريس الديوري: باش نسى، باش نسى، ضربيني ونضربك باش نسى، شتفي علي ونشتف عليك، ومن بعد أراك الحب
داميا: دابا إذا شتفت عليك وشتفت علي، غادي نساو؟
إدريس الديوري: مائة بالمائة، سولي المجرب. إدا ما تشتفش على جد والدين أمي القليلة مرة فالشهر يتبوشالي شي عرق ف الراس، وحتى النعاس ما نقدر نعس لا معاك لا مع وحدة أخرى. هادشي لي كال الطبيب
داميا: على هاد الحساب نتشاتفو، حتى أنا باغيا نسى داك وجه الكلب د الخليفة اللي داز في وشوهني فدوارنا ورمى الراجل يعنق شجرة ب موطور، غير هي حاجة..
إدريس الديوري: النعاس بالثمن والضرب بالثمن، تقدر تخسر لي كمارتي ودكدكني ف عظامي وما نخدمش سيمانة ولا جوج.
إدريس الديوري: شحال قدك؟
داميا: أنت وجهك الكوميسير.
إنه عنف مختلف يتناسب مع رغبات شاذة لرجل مختلف، فعل مازوشي، وهو أحد انحرافات السلوك الجنسي، حيث يُستمتع بالألم الممارس على الإنسان من الطرف الآخر، وصاحب هذا المرض لا يصل لقمة النشوة الجنسية إلا بالضرب والعنف. وهكذا تكمن إثارته الجنسية في إيلام الطرف الآخر له عند حدوث علاقة جنسية، ففي بعض الحالات المرضية لا يستمتع المازوشي إلا بدرجة بالغة من الألم قد تؤدي به إلى الموت ولعل هذا ما يحدث مع الحاج إدريس الديوري.
إن رحلة إدريس الديوري من الفقر إلى الغنى رحلة تعكس تحولا من حال إلى حال، فانتماؤه إلى الطبقة الجديدة جعله ينظر إلى طبقته بعين الازدراء والاحتقار، وهو ما جعله يكرس حياته ووظيفته للانتقام، الانتقام من الماضي، والانتقام من الشاب الذي كانه، فما أشد افتخاره وهو يحكي للمومس ما يمارسه من تعذيب في حق المعتقلين، أو سرد هذه الحكايات المؤلمة أمام أسرته، وهذا ما يجعل منه رجلا ساديا يستمتع بعذابات الاخرين، وكل هذا جعل شخصية الحاج إدريس الديوري شخصية مركبة، سادية ومزوشية، إنها شخصية جمعت كل المتناقضات، واستطاع الكاتب ببراعة رسم معالمها بدقة بالغة.
إن هذه الثنائيات الضدية خلقت أبعادا غير مألوفة من الصراع الدرامي، تختلف باختلاف الحالات والمواقف، لكنها تكشف في عمقها صراعا طبقيا بين فئات مجتمع تطغى عليه سمات التناقض. إن الصراع بين هذه الشخصيات المنتمية لطبقتين اجتماعيتين مختلفتين يبرز جانبا من اللامفكر فيه، والغائب عن العامة خلف سلطة المال، الأمر الذي جعل مسرحية كازابلانكا ترتقي إلى مصاف التعبير عن الحساسية المغربية الجديدة في طريقة معالجة موضوع راهني بأسلوب ولغة جديدة، فضلا عن بناء محكم في تنويع الصراع ورسم ملامح الشخصيات وتنويع الفضاءات التي تجري فيها الأحداث.
3- موضوعات قديمة بمعالجة مسرحية جديدة
يشكل الطابو أهم عناصر مسرحية "كازابلانكا"، ليس باعتبارها طابو أو شيئا لم يتم التطرق إليه سابقا، ولكن من خلال طريقة المعالجة المسرحية، وهذا هو الذي جعل المسرحية تجريبية بامتياز، ومن أهم الطابوهات التي جاءت في النص، والتي كان الجيل القديم يخشى مقاربتها وتجنبها باستمرار باستثناء إشارات وتلميحات لا ترقى لموضوعة معالجة مسرحيا:
الجنس: إن الجنس في المسرحية ليس حاجة بيولوجية لشخصية من شخصياتها، أو نزوة عابرة، بل يطرحه الكاتب في سياق برجوازي شاذ غير مألوف، وبجرأة كبيرة لم تتح إلا للجيل الجديد، فالحاج إدريس الديوري، ولكي يفرغ من مكبوتاته، ويستطيع تحقيق توازنه العاطفي والعقلي في الحياة، يقوم باستدراج بائعات الهوى إلى ضيعته ويطلب منهن تعنيفه قبل الجماع (المازوشية).
لقد استطاع الكاتب الكشف عن حياة الخفاء للطبقة البرورجوازية في مدينة الدار البيضاء، حياة تعد عالما موازيا لعالم الطبقة الفقيرة المنفصل تماما عن الطبقة الأولى، فها هي ماريا تخرج لترى البؤس في أعين الناس الذين أصبحوا مثل المجرمين، بل تستغرب من توقيفها من طرف الشرطة لأنها كانت تتحدث في الهاتف، إذ لم تكن تعلم بصدور قانون جديد يمنع المحادثة الهاتفية أثناء السياقة، وهذا ما يدل على أننا أمام عالمين منفصلين ومتصارعين.
إن شخصية ماريا شخصية مركبة بدورها، قريبة إلى حد بعيد من شخصية زوجها إدريس الديوري في نزواتها، فهي التي جعلت نورا ابنة الخادمة كنزة تلبي الرغبات الجنسية لابنها يوسف، وأعطت المال للخادمة أيضا للتستر على الأمر، إنه عالم مختلف ومغاير وصادم، وهذا ما يميز طروحات الكتاب المغاربة المسرحيين من الحساسية الجديدة، الذين استغنوا عن الشعرية القديمة القائمة على جماليات اللغة ومرجعية الشخصيات وتراثية الحدث.
الدين: يحضر الدين في المسرحية من خلال أشكال مختلفة، منه ما يرتبط بالممارسة الدينية ومنه ما يرتبط بالتطرف والإرهاب، أسر مسلمة لكنها تجد لنفسها مبررا لشرب الخمر وحججا دينية لتلبية النزوات وإن كانت مخالفة لتعاليم الدين، يقول الحاج بناجح: "واحد الحديث معرفتوش واش صحيح ولا لا: اشربا ولا تسكرا"، يصبح الدين بهذا المعنى مسايرا للحياة البرجوازية، بل امتدادا لرغبات هذه الطبقة الاجتماعية.
كما يحضر التطرف الديني من خلال إفشال محاولة لتفجير مهرجان موازين، الذي أعلن الحاج إدريس الديوري أنه سيقام رغم كل ما حدث، وهنا تبرز مواجهة السلطة، السلطة التي تمثلها الشخصية الرئيسية مقابل العنف الديني. غير أن كمال خلادي يظهر من خلال هذا التقابل المبني على الصراع خلل السلطة، فالقمع ومنع الحريات يؤدي غالبا إلى التطرف العنيف الذي يزهق أرواح الأبرياء، لذلك نجده يذكر القارئ بأحداث 16 ماي المأساوية في مدينة الدار البيضاء.
السياسة: تحضر السياسة من خلال صهر الحاج إدريس الديوري، الحاج بناجح الذي يقود حزبا سياسيا ذو مرجعية اسلامية، ومن خلاله تتكشف حقائق عديدة عن دواليب اللعبة السياسية، والتي أصبحت غطاء للكذب على الفئات الاجتماعية المهمشة، زيف الواقع السياسي وترهله كشف عنه الكاتب بإيحاءات معبرة. فها هو الزعيم السياسي لا يجد حرجا في نقد حزبه الذي يسن سياسته، بل يبرر وضع زوجته لشال فوق رأسها بانتمائه لحزب سياسي ذو مرجعية إسلامية.
ينجح الحاج بناجح بإثبات نفسه زعيما للحزب بعد قبوله من طرف الهيئات العليا في البلد، لأنه استطاع المزاوجة بين خطابين مختلفين ومتناقضين، خطاب الأندية البرجوازية، وخطاب الجماهير الشعبية.
هكذا استطاع كمال خلادي أن يجمع في هذا النص الطابوهات الثلاث، لكن بمعالجة درامية مختلفة تراعي البنية المركبة للشخصيات وتطور الحدث من خلال ثلاث محطات كبرى سماها جولات عوض الفصول كما هو معتمد في المسرح، هذا فضلا عن جرأة الطرح، واعتماد العامية المغربية التي منحت الملفوظات الحوارية طابعا خاصا، لاسيما في بعض مواقف العنف والمجون.
4- شعرية اللغة الحوارية
لا جرم أن الحوار يشكل جوهر المسرحية، ويختلف في بنائه بين التيارات المسرحية، ومن هنا يكتسي أهميته في المسرحية خاصة والمسرح عامة، فبواسطته ينمو الحدث وتتكشف تفاصيله على ألسنة الشخصيات، غير أنه يكتسي طابعا خاصا بالنظر إلى طبيعة اللغة، والأسلوب، واستدعاء الجوانب الفنية، علاوة على أنواع الحوار الكامنة في النص، ونظرا لما يكتسيه الحوار من أهمية بالغة في العمل المسرحي سنتطرق للعناصر التالية بغية الوقوف عند خصائص لغة الحوار:
اللغة المسرحية:
وظف كمال خلادي لغة موغلة في الواقعية، رغبة منه في تجسيد أوضاع اجتماعية مختلفة ومتناقضة مبنية أساسا على الصراع الطبقي، فهي تجري على ألسنة الشخصيات كما الكلام العادي المتداول في المقاهي والشوارع، دون قصدية توظيفها توظيفا جماليا كما تطرقنا إلى ذلك في الجانب النظري، غير أن هذا لا يعني انتفاء الشعرية المسرحية، فمسرحية "كازا بلانكا" بكاملها تعتبر رسالة تركز على ذاتها من خلال بنائها المحكم، وهو ما يمنحها تماسكا وتناسقا للتأسيس لشعرية التكابة المسرحية المغربية، إنها لغة عادية، بل متداولة في مواقف مرفوضة في المخيال الجمعي المغربي، بل يمكن نعتها بأنها لاأخلاقية ولا مرجع لها إلا الواقع الحالي:
إدريس الديوري: خفت يسكن امك شي جن، ما تبقايش تهدري فالتواليت.
داميا: فكرتيني ف امي، كانت معلقة كموسة دالملح فالحمام
إدريس الديوري: (ينادي الحارس) بوسلهام، بوسلهام...(لا مجيب) كلت لك دينمو هاد العساس تيتخلص فابور.
داميا: شنو بغيتيه
إدريس الديوري: ياك كلت لك ما تهدريش ف التواليت، راه إدا عوجك شي جن نرمي امك من السرجم، الكلاب ديال الدار البيضاء تيتجمعو كاملين هنا بالليل..
إن توظيف العامية المغربية جعل الكاتب أكثر قدرة على سبر أغوار الصراع الطبقي في مدينة الدار البيضاء، باعتبارها نقطة تمركز رؤوس الأموال، التي تشكل محور الصراع، هذا ولجأ الكاتب إلى اللغتين الإنجليزية والفرنسية في مناسبات كثيرة للكشف عن الفئات الاجتماعية المتصارعة، حيث كل واحدة تدافع عن عالمها الخاص وتستعرضه في خضم تطور الأحداث، بل يرمز للثقافة الهجينة للأسر الغنية، غير أن جوهر الصراع أيضا ينشأ من خلال استغلال طبقة اجتماعية لأخرى، ما يولد فكرة العنف واللاتسامح والانتقام كما فعلت كنزة:
الخادمة كنزة: (تدخل من تلقاء نفسها، تجلس فوق طاولة الماساج، الحاج وزوجته على الأرض) بلا ما تحاولوا، ما بقالكومش بزاف، بقالكم الوقت اللي تصليو فيه وتطلبوا الله يسمح لكم، اللي نقدر ندير لكم دابا هو نلبسكم حوايجكم، باش ما تمشيوش لـ عندو زوبط، صحيح الله تيخلقنا زوبط ولكن عيب نرجعو عندو زوبط...
عندنا فـ الجبل، المراوات فاش تيعصروا الزريعة د الخروع، أو فاش تيرقدوها فالزيت وتيخرجوها، تياخدوا داك الشي اللي بقا من الزريعة وتيبسوه فالشمس حتى تيشبع حرارة، تيجمعوه ويدقوه حتى تيولي غبرة رقيقة بزاف، وتيخبعوها فشي بلاصة حتى حد ما تيوصلها...
العيالات فالجبل بوحدهوم تيعرفو هاد الزريعة، والبنت فاش تتزوج ولابد أمها تديرلها كموسة فحوايجها اللي غادي تمشي بهم لدار راجلها، فالدوار ديالنا، العيالات ما كانتش تتجيهوم غريبة يسمعو بـ اللي راجل فلانة مات من بعد ما كان صحيح فصيح، بيناتهوم تيعرفوها مابقاتش قادة تصبر، بعض المرات تتسمع جوج حتى لثلاثة د الرجالة ودعوا ف نفس السيمانة...وفاش ما تتبقاش قادة، تتمشي للكموسة، تتحطها للحلوف ف الماكلة أو تتشربها لو مع الما.
كما تحضر شعرية اللغة الحوارية من خلال توظيف بعض أغاني العيطة التي تكتسي دلالة رمزية في حياة الحاج إدريس الديوري، فهي تعكس حياة العربدة، ودوامة التيه الذي وجدت الشخصية نفسها فيه:
"ماريا: ما تكترش ألحبيب، هكدا كال الطبيب
إدريس الديوري: أموتة وحدة فالدنيا، وما مات اللي مات بين دراع حبيبو
ماريا: كلبي رهيف الحبيب غير بقالي قريب
إدريس الديوري: تعالي حوزيني...
ماريا: والجماعة هادي فين حمادي أسيدي...
إدريس الديوري: تعالي بوسيني، زيدي حوزيني
ماريا: واجماعة الغدر فين ولد عمر، واطويل وعالي حيت دكالي أسيدي...
إدريس الديوري: تعالي بوسيني...
ماريا: حبيبي مزوينو، محسن شويربو، شارب لبينو، جالس فالبيرو، تيكتب بالستيلو...
إدريس الديوري: خيتي يا خيتي وشحال ترخيتي، تعالي بوسيني، تعالي حوزيني، علاش تقمشيني، علاش تجرحيني...
ماريا: وارقيق وفاني حيت زهواني
إدريس الديوري: واخيتي يا خيتي وشحال ترخيت يا كلبي، تعالي بوسيني..
لقد قامت أغاني العيطة في مسرحية "كازا بلانكا" بخلق أبعاد جمالية في المسرحية من خلال مرجعيتها التراثية والمسرحية، فهي لم توظف اعتباطا، بل جاءت كضرورة فنية للإسهام في البناء الدرامي، ففي لحظة الانتشاء والاستمتاع بالأغاني يحضر الانتقام بأبعاده الرمزية، ومؤشرا في الان نفسه عن معاناة المرأة في مجتمع أبيسي جائر.
تركيب
تمثل مسرحية كازابلانكا نموذجا لتطلعات الكتاب المسرحيين المغاربة التحرر من قضايا ظلت لصيقة بالمسرح منذ بداياته الأولى في المغرب، فلم يعد يشغل بال هؤلاء العودة إلى التراث من أجل التمسك بالهوية والخصوصية الثقافية كما كان يفعل الجيل القديم، بل اندفعوا بكل صدق لمقاربة تيمات ومواضيع قديمة بمعالجة مسرحية جديدة، معالجة تعتمد بالأساس على الجرأة في الطرح الفني، والكشف عن المشكلات الاجتماعية المسكوت عنها واللامفكر فيها، بلغة صادمة، ومقلقة للمتلقي المغربي الذي لم يتخلص بعد من إرثه المسرحي القديم وفي بداية استئناسه بالشعرية الجديدة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق