تصنيفات مسرحية

الأربعاء، 7 سبتمبر 2022

مسرحية " سيرة السيد عبد الوالي " تأليف : *عقيل عبدالله

مجلة الفنون المسرحية


"إِنَّ النَّاسَ عَبِيدُ الدُّنْيَا، وَالدِّينُ لَعْقٌ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ‏ يَحُوطُونَهُ مَا دَرَّتْ مَعَايِشُهُمْ، فَإِذَا مُحِّصُوا بِالْبَلَاءِ قَلَّ الدَّيَّانُونَ".
الحسين بن علي


الشخصيات
الحسين بن علي
السيد عبد الوالي: خمسيني، خليطٌ من سنة 61 هــ، وعصرنا الحالي.
السيد عبد الحرب: خمسيني، صديق عبد الوالي
الفرزدق: الشاعر، أربعيني
الحرّ الرياحي
مجاميع وأصوات خارجية


                                                 المشهد الأول

(طرفٌ من سوق مكة، سنة 61 للهجرة، دكانة لبيع التمر، وبسطة فارغة قبالته، والمتبضعين يتجولون، في السوق بعض حداثة، مثل جهاز راديو في دكانة التمر للسيد عبد الحرب. سيجار كوبي، مسدس، وهوية يملكهما السيد عبد الوالي، في إشارة أن القصة تحدث كلّ يوم)


عبد الحرب
(يُروّج لبضاعته) تمر، تمرٌ لم تذقه أمك ولا أبوك، تمر الطائف تعال وذق، تمرٌ ياناس تمر (يقترب أحد المارة ويتذوق، بينما يستمرّ عبد الحرب بمدح بضاعته) تمرٌ أنضجه حرّ الطائف، فصار ذهبًا، ولكن يؤكل، كُل واستمتع.
رجل 1
 هذا تمرٌ ينفع علفًا للحيوانات.
عبد الحرب
إذن هو المطلوب لك تمامًا.
رجل1
ماذا؟ ماذا قلتَ أيها الوضيع؟ 
(يمسكه من تلابيبه ويتصارعان)
عبد الوالي
(يدخل حاملًا شوال، يوقف العراك ويقف حائلا بينهما) توقفا، توقفا. (يعودان للعراك فيقف عبد الوالي مرة أخرى بينهم ويُخرج للطرف الثاني -الذي لايعرف عبد الوالي- هويته) توقف وإلا سجنتك، ألا تعرف من أنا، خذ اقرأ (يغادر الطرف الثاني، بينما يعالج عبد الحرب كيس الشوال ليفتحه) عبد الحرب إذن يبيع أعلاف حيوانات، ويصارع من هبّ ودبّ.
عبد الحرب
لو كنتُ متملقًا، عبدًا للسلاطين لكنتُ أنت، لكني عبد الحرب، أبيعُ تمرًا ولا أكون خادمًا لعاهرات السلطان.
عبد الوالي
(يضحك) يخبرك من شهد الوقيعة أن عبد الحرب يفرّ عند الوغى ويُقبل عند المغنم.
عبد الحرب
(يستريح على كرسي) كلانا في الهوا سوا يا صديقي، ولا أظننا أغبياء، أفنينا عمرها في راحة ودعة. بينما مات الأغبياء لأجل السلاطين، لكننا عشنا، أنت لتصحب السلطان في معاركه، تشرب ثمالة كأسه، وتقضي حوائج جواريه، وأنا لأقتنص خواتم الذهب والقلائد من أجساد فرسان المعارك المقطعة.
عبد الوالي
(يخرج من الشوال خوذًا، لأمات حرب، ومسدس. ويعلقها في البسطة مقابل دكانة التمر) ولكن انظر مستقبلنا ياحضرة بائع التمر العفن، أنت تبيع هذه القمامة، وأنا أبيع تاريخي.
عبد الحرب
(يضحك) تاريخك، أي تاريخٍ يا أبو التاريخ (يضحك) ماذا جرى؟ لِمَ تبيع لأمات حربك وخوذك، طردك السلطان؟ هل شكتك أحد جواريه؟ هل خنته في أحد جواريه أيها الكلب؟
عبد الوالي
مات السلطان
عبد الحرب
أشش، ماذا دهاك، أسواق مكة كلها آذانٌ للسلطان، ليس في هذا الحديث مزح.
عبد الوالي
أظن التمر العفن أثّر في سمعك وعقلك، مات السلطان حقًا أيها الصديق، كلّ الناس تعلم إلّا أنت.
عبد الحرب
(يُدوّر موجات الراديو من الدكانة) لكن الراديو لم يُعلن، لم يُعلن أحد.
عبد الوالي
لن يعلنوا… لن يعلنوا حتى يستتب الأمر لمن بعده… والآن دعني أبيع، واترك اللغو، نفدت دنانير عبد الوالي على الحانات وصالات القمار، ولم يبق إلّا أن أبيع تاريخي لآكل.
(ينادي بينما يتجمع الناس يقلبون البضاعة) خوذة للبيع، خوذة للبيع، صنعت خصيصًا لجبان، فولاذ، لاتُظهر إلا عينيك حين يحمى الوطيس، اهرب واستمتع وأنت تتفرج على المعركة كفيلم سينمائي، يمكنك أن تمضغ بوب كورن لو شئت. وحين يُشرف الوالي على الانتصار، عُد، وامسح وجهك بدماء أصدقائك القتلى، وجرّ من الغنائم الخفيف وغالي الثمن.
لأمة حرب، لامة حرب، مصنوعة لرجل مرتجف، يخاف من ظلّه، وهذا يعني أنها المثالية لك لو كنتَ مرتعبًا من اسم الموت مثلي. في الأكتاف والركب وسائر الجسد قطع حديد تحميك من الموت، ثقيلة نعم، لكن ليست أثقل من الموت.
مسدس، إذا استقامت لك الأمور، ومنحك السلطان المنصب الذي تشتهي، يمكنك التبختر به، يمكنك أن تروي عنه قصصًا، لاتخف، احك ماشئت، قل مثلا أنك قتلت به عدو الله وعدو الوالي، حين نفدت منك ذخيرة بندقيتك، وبقيت طلقة واحدة في مسدسك، صرعتَ بها قائد الأعداء. وما رميتَ إذ رميت…
رجل 2
بكم، بكم كلّ هذه القمامة؟
عبد الوالي
قمامة؟! هذا تاريخي، أبيعه لأني سئمت المناصب الصغيرة، عريف، حرس، وأنا رجلٌ تجري بدمائه حرارة السلطة، تملقتُ وأذللتُ نفسي، وتالي متالي، منحوني منصب حارس على باب ابن الوالي، ابن الوالي يُضاجع قحابه، وأنت تستمع للصريخ. وتشرب بقايا كأسه. هل تعرف كم حربًا خاضت هذه الخوذة؟!
كلّا لن تعرف، وهل تعرف كم معركة ارتديتُ فيها هذه اللأمة؟!
عبد الحرب
(يهمس في أذنه) لو تعرف كم معركة اختبأتَ فيها خلف جذوع النخيل، وكم حربًا فررتَ منها مستغلًا هياج الخيول.
عبد الوالي
أنا الآن المجاهد والمقاتل وصديق ابن السلطان، لن تستطيع إثبات عكس ذلك.
عبد الحرب
بعني جروحك، سأشتريها منك، كلّ جرح بعشرة دنانير ذهبية، الندبة بدينار، الضربة على الخوذة بدرهم.
عبد الوالي
لا تنسى أنك رفيق حياتي، وصديقي في كلّ الحروب
عبد الحرب
والله إني لأظن الله يغفر كلّ شيء إلا التصفيق للطغاة.
عبد الوالي
(يهمس من في السوق بعضهم لبعض بأمرٍ ما، ويحدث هرجٌ في السوق، يسحب عبد الوالي الذين كانوا يقلّبون بضاعته) ألن تشتروا؟
رجل 3
اتركني (يهمس بأذن عبد الوالي، يخرج الجميع ويبقى عبد الوالي وعبد الحرب، يبدو عبد الحرب غير مهتم)
عبد الوالي
ألا تهتم؟ ألا ترى الهرج في السوق؟
عبد الحرب
اهتممتُ قبلًا، ولم يحدث شيء، لن أهتم بشؤون غيري، حين اهتممتُ المرّة الأخيرة عدتُ فوجدتُ دكانتي مسروقة.
عبد الوالي
اسمع، تعال، تعال معي. فلنعرف ماذا يجري؟! (يسحبه من يديه)
(إظلام تام)
الحسين
(صورة شبحية مضيئة) الحمدُ للهِ، ومَا شاءَ الله، ولا قُوَّة إلاَّ بالله، خُطَّ المَوتُ على وِلدِ آدم مخطَّ القِلادَة على جِيدِ الفَتاة، وما أولَهَني إلى أسْلافي اشتياقَ يَعقُوبَ إلى يوسف، وخِير لي مَصرعٌ أنا لاقيه، كأني بأوصالي هذه تقطِّعُها عسلان الفلوات بين النَّواوِيسِ وكَربلاء، فيملأن مني أكراشاً جوفا، وأجربة سغباً.
لا مَحيصَ عن يوم خُطَّ بالقلم، رِضا الله رِضَانا أهل البيت، نصبر على بلائه، ويوفِّينا أجورنا أجور الصابرين، لن تشذّ عن رسول الله لَحمته، وهي مجموعة له في حظيرة القدس، تقرُّ بهم عَينه، وينجزُ بهمْ وَعدَه.
من كان باذلاً فِينَا مهجتَه، وموطِّناً على لِقَاء الله نفسه، فلْيَرْحَل مَعَنا، فإنِّي راحلٌ مُصبِحاً إن شاء الله.
(يعود الضوء، ونرى عبد الوالي وعبد الحرب يعودون لدكاكينهم)
عبد الوالي
سلطان آخر…
عبد الحرب
 لاترتجي من هؤلاء خيرًا، هذا ابن علي، ليسوا سلاطين، عاش أبوه عيشة الفقراء رغم أنه مَلَكَ الشرق والغرب. يأكل إدامًا واحدًا ويرفع إدامين.
عبد الوالي
كنا في حياتنا لاعبي قمار، مرةً نربح، ومرةً نخسر، وهذي متعة حياتنا، حين نربح أكون أنا كلبًا للوالي، وأنت سارق غنائم. ما رأيك لو لعبنا الورقة الأخيرة؟ عمري سبعة وخمسون عامًا، كم سأعيش بعد؟! لم أُخلِف لأولادي إلّا الذكر السيء. هذه الورقة الأخيرة في لعبة القمار، سلطانٌ أخير.. إن فزنا فقد فزنا، وإن لم نفز فليست المرّة الأولى التي نخسر فيها… ستعود أنت لبيع تمرك العفن، وأنا لبيع لأمات حربي.
عبد الحرب
لا أدري لِم أسمع صوت الشيطان من فمك، إنك تغازلني بأجمل ما أحب، الورقة الرابحة الأخيرة، لا بأس... فكرة مقبولة، سنرحل مع هذا السلطان الجديد، إن صار سلطانًا ربحنا، وإن خسر لم نخسر نحن. 
عبد الوالي
إلبس، خذ.. (يناوله لامة حرب)
عبد الحرب
لكني لازلتُ أفكّر…
عبد الوالي
فكّر في الطريق، هيا نتبع السلطان الأخير..
(يرتديان ملابس الحرب)





                                          المشهد الثاني

(قافلة الحسين في عَرَض الصحراء، عاصفة تضرب القافلة، لكنها تسير ولا كأن شيئًا حصل، بينما يتأثر عبد الوالي وعبد الحرب بالعاصفة)



عبد الحرب
أتمنى أن يُكافئنا الحسين على قدر ضيمنا وظلائمنا، عواصف وحرّ، وقافلة تعرض نفسها على القبائل والمدن؛ تدعوهم للانضمام، لن يكون لنا مجال في المقرّبين إلى السلطان الجديد لو استمرّ يضمّ هذه الأعداد الكبيرة…
عبد الوالي
خذ انظر، أول قبيلة تتفرّق عن الحسين (يضحك) الفخر للتالي ياصديقي، لا أظن أحدًا يتحمّل قسوة الطريق إلى العراق، شهرٌ أو أقلّ، وستكون قائد فصيل أو قائد شرطة في حكومة السلطان الجديدة.
عبد الحرب
أعجب لابن علي، ما للعيال وللسياسة؟! يصطحب عياله ونساءه في هذا الطريق الموحش المجهول، لو انتظر أن يستقر العرش له ثم يبعث بهم.
عبد الوالي
لازالت البشائر تصل، رسائل أهل الكوفة يمتلئ بها جراب الحسين، الدولة تستقيم لنا أخيرًا…
عبد الحرب
لنا!! (يضحك) ومن تظننا أيها الأبله؟! لا تنس نفسك… مَن هذا القادم للحسين؟! أليس الفرزدق؟
(يقتربان من القادم للحسين وتهدأ العاصفة رويدًا، يومئ الحسين أن يناولوه ماءً)
الفرزدق
أعطاك الله سؤلك، وأمَّلك فيما تحب، بأبي أنتَ وأمي يا ابن رسول الله، ما أعجلك على الحج؟
الحسين
لو لم أعجل لأخذت. من أين أقبلت يا أبا فراس؟
الفرزدق
من الكوفة...
الحسين
أخبرني عن الناس خلفك؟
الفرزدق
على الخبير سقطت… قلوب الناس معك وسيوفهم عليك، والقضاء ينزل من السماء، والله يفعل ما يشاء..
الحسين
صدقت... للّه الأمر من قبل ومن بعد، يفعل اللّه ما يشاء، وكلّ يوم ربنا في شأن، إن نزل القضاء بما نحب فنحمد اللّه على نعمائه وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء، فلم يتعدّ من كان الحق نيته والتقوى سريرته. 


(ينشد الإمام شعرًا)


لئن كانت الدنيا تُعدّ نفيسةٌ …  فدار ثواب اللّه أعلى وأنبلُ.
وإن كانت الأبدان للموت أنشئت…فقتل امرئٍ بالسيف في اللّه أفضلُ.
وإن كانت الأرزاق شيئا مقدرًا…فقلة سعي المرء في الرزق أجمل.
وإن كانت الأموال للترك جمعها…فما بال متروك به المرء يبخلُ.


(يغادر الفرزدق ويقترب من الحسين الرجال والأطفال، يمسح على رؤوس الأطفال ويحادث الرجال بود)
عبد الوالي
تعال فلننضمّ لجموع المتملقين، يجب أن يحفظ وجوهنا في الشدّة، حتى لا ينسانا أيام الرخاء.
عبد الحرب
هو لايرانا، هذا رجلٌ لايحفل بنا، يمسح على رؤوس الأطفال، يجالس شيوخًا، ويطمئن على النساء، لكنه لايرانا بالمطلق.
عبد الوالي
(يهمس بأذن عبد الحرب) هل نريد إلا مناصبه وأمواله. فلندع النظرات يا رجل. (يتفرّق عنه الجمع، ويقترب من عبد الوالي وعبد الحرب، يظنوه ينظر إليهم) ها قد أتى، هذا رجلٌ يحتاجنا ونحن في غنىً عنه.
عبد الحرب
إنه لاينظر إلينا، بل يُطالع الأفق. هل نحنُ أشباح؟!
عبد الوالي
لكنّه حين ينتصر سيرانا..
عبد الحرب
 أتعرف؟ حين يمسح على رؤوس الأطفال، أتمنى لو كنت طفلًا يمسح على رأسي، رغم كلّ الأسى في كيان هذا الرجل، إلا أن قلبه فيّاضٌ بالحبّ، هل تتذكّر سلطانًا سرنا معه وكان بهذا الحبّ؟ كما لو كان الذين يسيرون معه أبنائه، فيهم الأسود والأبيض، المسلم والمسيحي، الحرّ والعبد، لكنهم كلّهم أبنائه.
عبد الوالي
ياهذا، لايسحرك الرجل، هو رجلٌ يبتغي السلطة مثل السلاطين الآخرين، لن يختلف عنهم، هيا هيا… إنه يطلب من القافلة أن تسير..


(إظلام)
عبد الوالي
(بعد عودة الضوء نرى التعب يأخذ مأخذه من عبد الوالي وعبد الحرب، يسأل عبد الوالي أحد الرجال في القافلة) يا رجل، هل تعرف أين نحن؟ هل المسافة طويلةٌ للكوفة؟
رجل 4
هذه زُبالة… نحن ربما في منتصف الطريق...


(يُقدِم رسولٌ للحسين ويناوله رسالة، يظهر الحزن على وجه ابن رسول الله، يحوقل وهو يقلب بيديه، ثم يوقف القافلة ويخطب بهم)
الحسين
بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد... فقد أتانا خبر فضيع! قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وعبد الله بن يقطر، وقد خذلتنا شيعتنا، أيها الناس فمن كان منكم يصبر على حدّ السيف وطعن الأسنّة فليقم معنا، وإلا فلينصرف عنا، ليس عليه منا ذمام.


(يتفرّق عنه الناس، ويبقى معه القليل)
عبد الوالي
هيا يا عبد الحرب (لكن عبد الحرب يقف في مكانه لا يتحرك)       عبد الحرب هيا تحرّك، تفرّقت الناس. نعود من حيث أتينا…
عبد الحرب
عبد الوالي
هيا ياصديقي، هذه حرب سلاطين لاناقة لنا فيها ولاجمل، هيا تحرّك...
عبد الحرب
كم سلطانًا سرنا معه ياعبد الوالي؟
عبد الوالي
ليس الوقت وقت الأسئلة، ولكن كثير، لا أستطيع عدّهم
عبد الحرب
هل منهم من نصح جيشه بالعودة، لأنهم لن يصبروا على حدّ السيف وطعن الأسنّة؟! هل منهم من يسير مع جيشه كواحدٍ منهم، يُخبرهم بحقيقة الأمور، ويطلب منهم التفرّق عنه…
كان السلاطين يقتلون من يتفرّق عنهم، إلّا هذا الرجل، يترجّى الناس أن يتفرّقوا عنه…
عبد الوالي
الرأي ياعبد الحرب؟ ماعندك؟ لِمَ تهذر بهذا الكلام الآن…
عبد الحرب
هذا رجلٌ يخبئ لأنصاره الكنوز الكبيرة، سيمنحهم ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ
عبد الوالي
هذا رأيك ياعبد الحرب، إذن نبقى، أظنك تتكلّم صدقًا هذه المرّة، هو يختار للمناصب وقطع الأراضي من يستحقّها، وهذا كلّه اختبار لهم.. فلنرتجز هيا… (يصيح) نعم نعم للحسين، نعم نعم للحسين (لكنه صوتٌ وحيد، لا أحد يردّد معه، لايهتم به الحسين… ثم يقترب منهم)
ها قد أتى، غمزت السنّارة، أحسنت ياعبد الحرب كانت خطتك ناجحة فعلا..


(يقترب الحسين ويقف قبالة عبد الحرب، ويمسح على رأسه، ينحني عبد الحرب ليقبل يد الحسين ببكاء عارم، لكن الحسين بدل أن يمنحه يده يحتضنه، يقرّب عبد الوالي رأسه فيتركه الحسين ولاينظر إليه، وكأنه شبحٌ لا وجود له… إظلام)
رجل 5
(في الظلام نسمع أصوات) الله أكبر، الله أكبر (يعاد الضوء)
الحسين
"الله أكبر، لِمَ كبرت؟"
رجل 5
رأيتُ نخلاً..
رجل 6
ما رأينا نخلة قط في هذا المكان. إنها الخيل..
الحسين
وأنا والله أرى ذلك.. أما لنا ملجأ نلجأ إليه نجعله في ظهورنا ونستقبل القوم من وجه واحد؟" (يُقبِلُ الحرّ الرياحي)
عبد الوالي
هذا الحر بن يزيد، أشجع أهل الكوفة، ما أظنه سيترك الحسين إلا قتيلًا.
عبد الحرب
الحسين سيخطب بالجيشين، هلمّ... 
عبد الوالي
لايأخذنك الحماس، (يخاطب رجلًا) أخا العرب، ما اسم هذه الناحية؟
رجل 5
اسمها البيضة، اقتربا، اقتربا للحسين، سيخاطب جيش الحرّ...
الحسين
(صورة شبحية مضيئة) فأنا الحسين بن علي وبن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله، نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهلكم، فلكم فـيَّ أسوة، وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدكم وخلعتم بيعتي من أعناقكم، فلعمري ما هي لكم بنُكر، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمي مسلم، والمغرور من أغترّ بكم، فحظكم أخطأتم ونصيبكم ضيعتم، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه، وسيغني الله عنكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته".
الحرّ الرياحي
"يا حسين، إني أذكرك الله في نفسك، فإني أشهد لئن قاتلتَ لتُقتلنّ، ولئن قوتلتَ لتهلكنّ فيما أرى".
الحسين
"أبالموت تخوفني؟ وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني؟ ما أدري ما أقول لك؟ ولكن أقول كما قال أخو الأوس لابن عمه حين لقيه وهو يريد نصرة رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال له: أين تذهب فإنك مقتول؟ فقال:
 سأمضي وما بالموت عار على الفتى…إذا ما نوى حقاً وجاهد مسلمًا
وواسى الرجال الصالحين بنفسه…وفــارق مثبــوراً وودّع مجرماً
فإن عشت لم أندم وإن مت لم أُلَمْ…كفى بك ذُلاَّ أن تعيش وتُرغما
(ثم يتمتم الإمام بالآية الشريفة) ﴿فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾.
(إظلام)
عبد الوالي
(يعود الضوء لنجد عبد الوالي وعبد الحرب متقابلين) مجنونٌ هذا الرجل، إنّه يُقدّم نفسه وعياله قربانًا للسلطة
عبد الحرب
لو كان كذلك لاستسلم وبايع، هذا رجلٌ مقبلٌ على أمرٍ أكبر من هذه الدنيا كلّها، رجلٌ يريد أن يكون مشعلًا، يحمله الثوّار على طول التاريخ… 
عبد الوالي
هيا يا عبد الحرب، لازال في الأمر متّسع، الغربان تنعق في هذه الصحراء، ولا يتردّد في رأسي إلّا صدى طبول الحرب، هذه ليست الحرب التي تعوّدتَ أن تغنم منها ياعبد الحرب، هذي حرب سيكون رأسك غنيمتها…
عبد الحرب
اسمع ياعبد الوالي، حين كنت أغنم في الحروب، كنتُ أرى رؤوس الفرسان وأياديهم مرصّعة بالذهب والجواهر، وعيالهم في البيوت المرفهة، أما هذا الرجل، لقد قدّم للشهادة ابن عمه ابن عقيل وأخيه من الرضاعة ابن يقطر، وها أنت ترى عياله عطشى وحالهم في أصعب حال، ألا زلتَ ترى في الحسين سلطانًا؟ بعد كلّ هذا…
عبد الوالي
لاشأن لي بالحسين أو بجيشه، أحدّثك أنت، كنّا نأكل فضلات السلاطين مسرورين، فما بدا لك؟
عبد الحرب
إنّي وإن كنتُ أتمنى أن تكون رفيقي هنا، فلا أستطيع أن أقرر عنك… أما أنا فلم أرَ فارسًا في حياتي مثل هذا الحسين، وإنّي يطيب لي أن أختم حياتي معه في هذه الصحراء اللاهبة…
رجل 6
الحسين… اقتربوا من ابن بنت رسول الله...
عبد الحرب
اسمع… ثمّ القرار لك…
الحسين
"أثني على الله تبارك وتعالى أحسن الثناء، وأحمده على السراء والضراء، اللهم إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة، وعلّمتنا القرآن، وفقّهتنا في الدين وجعلت لنا أسماعًا وأبصارًا وأفئدة، ولم تجعلنا من المشركين.
أما بعد: فإني لا أعلم أصحابًا أوفى ولا خيرًا من أصحابي، ولا أهل بيتٍ أبرّ ولا أوصلَ مِن أهل بيتي، فجزاكم الله عني جميعًا خيرًا، ألا وإني أظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غدًا، ألا وإني قد أذنت لكم. فانطلقوا جميعاً في حلٍّ، ليس عليكم مني ذمام، هذا الليل غشيكم فاتخذوه جملاً، ثم ليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، ثم تفرّقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج الله، فإن القوم إنما يطلبونني، ولو أصابوني للهوا عن طلب غيري..
عبد الوالي
(لعبد الحرب) الآن لا عذر لك… هاهو يمنحك العذر…
العباس
(صوت خارجي) "لِمَ نفعل؟ لنبقى بعدك؟ لا أرانا الله ذلك أبداً".
الحسين
"حسبكم من القتل بمسلم، اذهبوا قد أذنت لكم".
العباس
(صوت خارجي) "فما يقول الناس؟ يقولون إنا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير الأعمام، ولم نرمِ معه بسهم، ولم نطعن معه برمح، ولم نضرب معه بسيف، ولا ندري ما صنعوا!؟ لا والله، لا نفعل، ولكن تفديك أنفسنا وأموالنا وأهلونا، ونقاتل معك حتى نرد موردك، فقبّح الله العيش بعدك".
مسلم بن عوسجة
(صوت خارجي) أنحنُ نخلي عنك ولما نعذر إلى الله في أداء حقك!؟ أما والله، حتى أكسر في صدورهم رمحي، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولا أفارقك، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك حتى أموت معك.
سعيد بن عبدالله الحنفي
(صوت خارجي) والله، لا نخليك حتى يعلم الله أنا قد حفظنا غيبة رسول الله صلى الله عليه وآله فيك. والله، لو علمت أني أقتل، ثم أحيا، ثم أحرق حياً ثم أذر، يُفعل بي سبعين مرة، ما فارقتك حتى ألقى حِمامي دونك.
زهير بن القين
(صوت خارجي) والله، لوددت أني قُتلت، ثم نُشرت، ثم قُتلت حتى أقتل كذا ألف قتلة، وأن الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك.
الحسين
"ارفعوا رؤوسكم.. فانظروا إلى مواضعكم في الجنة"
عبد الوالي
(يحاول أن يرفع رأسه لكن لايقدر) ليس المُقام مُقامي… سأرحل
(يهرب)
الحسين
انطلق فلا تسمع لي واعية ولا ترى لي سوادًا، فإنه من سمع واعيتنا او رأى سوادنا فلم يجبنا او يُغِثْنا كان حقًا على اللّه عز وجل أن يكبّه على منخريه في النار.


(يهرب إلى جهة اليمين فيظهر له شبح عبد الحرب)
عبد الحرب
أتعرف؟ هذا الرجل هناك (يشير للحرّ) القائد في جيش الأمويين، بكلّ غطرسته وكبريائه، بعد ساعاتٍ سينضمّ إلينا، تعال معنا… إن سفينة الحسين تَسَع…


(يهرب إلى جهة اليسار فيظهر له شبح عبد الحرب)
عبد الحرب
هذا ملتقى أرواح ياعبد الوالي، أنا هنا لست عبد الحرب، أنا روحٌ تطوف حول الحسين، نحن أرواحٌ تطوف حوله، تنتظر أن تُحلّق، مابيننا وبين أن نحلّق إلى السماء إلا هجمة من هذي الذئاب..
عبد الوالي
وأنا روحٌ تحبّ العيش مع السلاطين… عائدٌ إلى قصر يزيد… سأقبلُ أن أكون سجادة تدوسها رجليه… سأصفّق له حين يقتل أعدائه… وأهيئ له عِدّة شربه وجواريه… سأعيش ياعبد الحرب… سأعيش ومت أنت…
عبد الحرب
الحسين هو البوصلة، ستتوه ياعبد الوالي
عبد الوالي
بوصلة نحو الموت
عبد الحرب
الموت قدر الجميع ياصديقي، لكن لايُتاح لكلّ الناس أن يختاروا موتهم…  الموت مع الولاة ليس كالموت مع الحسين… هو هنا في هذه الصحراء حسن خاتمة، وبداية سعادة… الحياة مع الظالمين تيه…
(يتردد صدى عبد الحرب… الحياة مع الظالمين تيه…بينما يفرّ عبد الوالي متخذًا الليل جملًا)

                                 المشهد الثالث

(مونودراما لعبد الوالي في عَرَض الصحراء)


عبد الوالي
(يُحادث نفسه) ماكنتُ أظنك ستُخدع ياصديقي… سأعود لأحضان الدعة والراحة… وأنت متّ، مادام اختيارك… 
ابتعدتُ ليلة كاملة ونصف نهار… ولازلتُ أسمع صدى معسكر الحسين يتردّد في رأسي…
الحسين
(صوتٌ خارجي)
 يــــــا دهر أفٍّ لك من خليلِ…كم لك بالإشراق والأصيل
من صاحبٍ أو طالبٍ قتيل…والــــدهـر لا يقنع بالبـديل
وإنمــــا الأمــر إلى الجـــلــيل… وكـل حــــي ســـالـــك سبيلـــي
عبد الحرب
طبول الحرب تُقرع… كان الحسين يجب أن يشكرني لأني لم أنضمّ لجيش السلطان يزيد، كنتُ سأقتله ربّما، وأسلب عياله… لكني باختياري هربت…
الحسين
(صوتٌ خارجي) إنّ هذِهِ الدُّنْيا قَد تَغَيَّرَت وَتَنَكَّرَتْ وأدْبَرَ مَعرُوفُها، فَلَمْ يَبْقَ مِنْها إلاَّ صُبابَةٌ كَصُبابَةِ الإناءِ، وَخَسِيسُ عَيْشٍ كَالمَرعَى الوَبِيلِ، ألا تَرَوْنَ أنَّ الحَقَّ لا يُعْمَلُ بِه، وَأنَّ الباطِلَ لا يُتناهى عَنهَ.
لِيَرْغَبْ المُؤْمِنُ في لِقاءِ اللهِ مُحِقّاً فَإنِّي لا أرَى الْمَوتَ إلاّ سَعادَةً، وَلاَ الحَياةَ مَعَ الظَّالِمينَ إلاّ بَرَماً.
إنَّ النّاسَ عَبِيدُ الدُّنْيا وَالدِّينُ لَعِقٌ عَلى ألسِنَتهم، يَحُوطُونَهُ ما دَرَّت مَعائِشُهُم، فَإذا مُحِّصُوا بِالبَلاءِ قَلَّ الدَّيّانُون…
عبد الوالي
من تقصد ياحسين بعبيد الدنيا؟! أنا… نعم أنا عبدالدنيا… ولاعق أحذية الطغاة… أنا من يُصفق لهم حين يقتلون الثوّار ويعذبون الكادحين… أنا الساهر على راحة القائد… حتى يستمرّ سيفًا ظالمًا على رقاب الناس…


(صوتُ خارجي لذئاب)
عبد الوالي
هذا هو عبد الوالي، وخوذته ياما طاف بها البلدان، خلْف الأمراء والولاة، يتبعهم مثل كلب صيد، رأسه معروض للبيع في كل معركة لأضعف سيف، لكنه رأس ذليل تحميه خوذةٌ صنعت لجبان، 
اذهبي ياذئاب إلى كربلاء، هنالك ستجدين الموتى يملؤون الآفاق، أجسادٌ طازجة، مستأنسة بالموت، أما أنا فحي، دعيني واذهبي إليهم… أسمحُ لك بأكل صديقي عبد الحرب، اذهبي… لايغرك أني تائهٌ في عَرَض الصحراء… فأنا أملك سيفًا أهدي لي من السلطان، مقبضه من الفضة والزمرد، لن يموت من يملك سيف السلطان… نعم... السلطان مات… وصار سيفه هدية السلطان الميت، سلطانٌ سابق لن يذكره أحدهم…
وأنا لو متّ هنا لن يتذكّرني أحد، ستندرس عظامي مع رمال الصحراء، وتذروها الريح هباءً منثورًا… هل تقبلين أن يتحوّل عبد الوالي، الذي تعرفه كلّ جواري السلاطين، وأبناء السلاطين، وقردة السلاطين… يتحوّل هواءً… بينما عبد الحرب يُدفن مع ابن علي…  لم يكن سلطانًا، كان خطأي أني رافقته، ظننته الورقة الرابحة الأخيرة، فعلًا هو الورقة الأخيرة… لكنها ورقة خاسرة، لكنه لم يكن سلطانًا… لم أرَ رجلًا مثله يغذّ الخطى نحو الموت كما لو يُزفّ إلى عروسه… يقدّم أطفاله للذبح… هذه ليست أفعال السلاطين، السلاطين يقفون في الخلف… يُطالعون المعارك من بعيد… أما هو… فبوصلة… صدقت ياعبد الحرب هو بوصلة… وأنا في التيه الآن، يرافقني في رحلتي ذئابٌ تشم رائحة الخوف تجري في دمائي… ولكنّ معي سيف السلطان، ومسدسه، وقنينة من بقايا شرابه… وسيجار كوبي من بقايا دخانه… اسمحي لي أن أدخن أيها الذئاب… ولكن ماذا لو عدتُ حين تنتهي المعركة… أعود والأجساد ملقاة جسدٌ فوق جسد… لآخذ علامة من ملابس الحسين أو إخوته… سيقرّبني يزيد… ربما سيضعني في خدمة قروده… أو أصلح له شرابه… سأعود… (يتجه يمينًا… ثم يتجه يسارًا) أين هي كربلاء؟! 
عبد الحرب
(صوت خارجي) الحسين هو البوصلة، ستتوه ياعبد الوالي


(صوتُ خارجي لذئاب)
عبد الوالي
(يسحب سيفه، فيظهر أنه فارغٌ من أي نصل… مقبضٌ فقط… يضحك بصوت عال) كلّ سيوف الطغاة فارغة… نحن من يملأ غمدها بالنصل… نحن من يصنع للطغاة نصل سيوفهم (يسحب المسدس فيظهر أنه فارغ من الرصاص) أو نحن رصاص مسدساتهم… مت ياعبد الوالي… (يضحك… بينما يقترب صوت الذئاب… ثم إظلامٌ تام)
عبد الحرب
(صوتٌ خارجي) الموت قدر الجميع ياصديقي، لكن لايُتاح لكلّ الناس أن يختاروا موتهم…  والموت مع الولاة ليس كالموت مع الحسين… هو هنا في هذه الصحراء حسن خاتمة، وبداية سعادة… الحياة مع الظالمين تيه…
(يتردد صدى عبد الحرب… الحياة مع الظالمين تيه)


                                     ستار 

*E-MAIL: aqeel0muhanna@gmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق