تصنيفات مسرحية

الأربعاء، 26 أكتوبر 2022

ورقة نقدية مقدمة لمهرجان بغداد الدولي للمسرح بعنوان " تجليات التمسرح فى المشهد السياسى السودانى المعاصر " / للناقد السوداني :* السر السيد

مجلة الفنون المسرحية


مستخلص:

اسعى قدر المستطاع فى هذه الورقة الى الكشف عن ماهية التمسرح  وفى علاقته بالحياة اليومية وعلاقته بالمسرح ومن ثم ابحث فى تجلياته فى المشهد السياسى السودانى والذى يتحدد فى هذه الورقة بالفعل السياسى الذى يتخذ من الفضاءات المفتوحة كالشوارع  مجالا له لذلك ستكون ثورة 19 ديسمبر2019 السودانية هى الحيز الزمنى الذى تتحرك فيه الورقة..

مدخل:

قد يكون المدخل المناسب لورقتى هذه هو قول الناقد والمفكر الالمانى والتر بنيامين “1892-1940”:( ان فى شتى الفنون جانبا ماديا لم يعد بالامكان الوقوف عنده ولا النظر اليه مليا كما كان فى السابق حيث ان هذا الجانب لم يعد بامكانه التحرر من وطأة تأثيرات العلوم النظرية والتطبيقية الحديثة..انه لا المادة ولا المكان ولا الزمان منذ عشرين سنة هى نفسها المادة والمكان والزمان منذ القدم.وعليه يجب الاقرار بان مثل هذه الابتكارات الكبيرة هى التى تقوم بتغيير مجمل تقنية الفنون،وبهذا قد تكون قد طغت على الحالة الابداعية نفسها،لتصل ربما فى نهاية المطاف الى تغيير مفهوم الفن نفسه واستبداله بنوع اكثر سحرا)1

تكمن وجاهة هذا المدخل ومناسبته ليس فى انه يشير الى حتمية التغيير والاختلاف بين مكان ومكان وزمان وزمان فحسب وانما فى اشارته المثيرة الى الابتكارات الكبيرة وقدرتها فى  تغيير مجمل تقنية الفنون  بل وفى تغيير مفهوم الفن نفسه..ما تجدر الاشارة اليه هنا متصلا ومتعلقا بموضوع ورقتنا هو ان التحولات التى طرأت تحت تأثير العلوم النظرية والتطبيقية على العالم اى على عصرنا الذى نعيش فيه خاصة فى سياق ما يعرف بالحداثة وما بعد الحداثة، عملت على اعادة تعريف كل شئ بدأ من تعريف الواقع وماهيته مرورا بتعريف الجسد وتعريف الابداع وماهيته انتهاء باعادة تعريف الحياة نفسها واعادة تعريف الحياة اليومية..هذه الاعادة لاعادة تعريف العالم بكل مكوناته واعادة قراءته بالضرورة استندت على ما سبقها من منجزات فكرية فى الفلسفة والعلوم الطبيعية والاجتماعية اضافة الى منجزات التكنولوجيا  التى كان لها القدح المعلى  فى صناعة هوية كل هذه التغيرات وذلك لانها استطاعت ان تصنع واقعا موازيا للواقع الذى كان متعارفا  عليه ونعنى هنا ما يعرف بالواقع الافتراضى فقد استطاعت التكنولوجيا ان تقرب الحدود بل كادت ان تمحوها، بين علم وعلم… بين فن وفن..بين ثقافة وثقافة..بل بين بلد وبلد وكل هذا بالطبع لم يأت مصادفة ولم يكن معلقا فى الهواء وانما جاء عبر تطور تاريخى كبيرمحكوم بجدلية (الاستغلال والمقاومة) فى دلالتيهما العميقة والبعيدة منذ فجر التاريخ الإنسانى وإلى الآن.

فنحن مثلا لا نستطيع ان نتحدث الان عن اى حدث او واقعة دون النظر الى التحولات الاجتماعية والثقافية وتحديدا فى عصرنا والى ما قاد اليه انتصار (“النيوليبرالية” برغم ازمتها اللاحقة، الى تغيير شروط الحياة الاقتصادية  والسياسية واجراء تحول اجتماعى وانثروبولوجى،وتلفيق اشكال جديدة للذاتية انتجت هيمنة قطاع البنوك والمالية وانشأت السيطرة على شبكات المعلومات والاتصالات وزيفت الديمقراطية والامان والحماية وهو ما سيشكل ما يجب على حركات المقاومة والتمرد التحرك ضده..)2….هذا المحو للحدود-اى حدود- او التقريب بينها او اذابتها فى بعضها اضافة الى بناء ما عرف بالواقع الافتراضى كانت له انعكاساته الكبيرة على فن المسرح،ذلك الفن العريق الذى بدأ فى بلاد اليونان قبل ما يقارب ال 700 عام قبل الميلاد وبعدها انتشر فى كل ثقافات العالم واستطاع أن يرفد نفسه بكل ما تجود به الحياة وبكل ما يجعله حيا وجديدا .

وربما لهذا السبب تحديدا ظل صامدا ولم يفقد سحره حتى الان برغم ما طاله من تحولات على صعيد النص وعلى صعيد مختلف ما اصطلح عليها بعناصر العرض المسرحى وكذلك على صعيد التلقى ..ليس هذا فحسب بل انه اى المسرح بقدر ما رفد به نفسه مما تجود به الحياة استطاع ان يرفد حقولا اخرى كثيرة ويعمل على تغذيتها ليس على صعيد الفنون كالشعر والرواية مثلا فحسب وانما حتى على صعيد حقول الرياضة والادارة والسياسة اما مباشرة او عن طريق ما اصطلح عليه بالتمسرح.

اشارة اولى:

ثمة مبحثين ضرورين لا بد من الوقوف عندهما عند البحث فى مفهوم “التمسرح”،الاول هو مبحث عالم الحياة او الحياة اليومية والثانى هو مبحث المسرح وفى المبحث الاول اشير الى ان عالم الحياة او الحياة اليومية كما تراه مدرسة فرانكفورت وتحديدا “هابرماس”،يقول دكتور هشام عمر النور: ( قدم هابرماس تمييزا بين عالم الحياة والنسق استطاع به ان يجمع بين مفهومين ظلا على تناقض طوال تاريخ النظرية الاجتماعية،فقد ظلت النظريات الاجتماعية تغلب احدهما على الاخر،فاما ان تجعل الفرد فى سلوكه اليومى فى عالم الحياة اساسا نظريا لها  وللمجتمع او تجعل المجتمع كنسق وهى امر مختلف عند هابرماس من البنية التى تنتمى لعالم الحياة بينما النسق هو نظام ينفصل بالتمايز عن عالم الحياة…)3 ما نود التأكيد عليه هنا هو كما عند هوسرل:( ان مفهوم عالم الحياة مفهوم مضاد للنمذجة التى تكون على اساسها مجال موضوعات العلوم الطبيعية)4

اما المنظرالشيوعى الفرنسى هنرى لوفيبر ( فقد جعل الحياة اليومية بابا للنظرية الاجتماعية الاكاديمية فى الاربعينيات وكرد فعل على السرياليين فهو يرى ان اليومى موجود حيث يعيش العمال “غربة” وان الحياة اليومية عنده هى نتاج الحداثة الرأسمالية لذلك فهى عنده مفهوم يعبر عن درجة اختلاف دقيقة اكثر بكثير من تلك المتضمنة فى مفهوم تبجيل العادى لدى ريموند وليامز وريتشار هوغارد)5 اما ديفيد لوبروتون فيقول: (ان الحياة اليومية هى الملجأ المضمون ومكان الاشارات المطمئنة…الى ان يقول: وتلعب الاستعمالات المنظمة للجسد دورا اساسيا فى شعور الامن الذى يولد من الطابع الواضح والمألوف  للحياة اليومية ..)6 قصدت فى هذا المبحث ان اشير الى غنى الحياة اليومية واستقلالها النسبى عن النسق “النظام”فبينما عالم الحياة تواصلى ينهض على اللغة وينتج من اليومى وخبرة المعيش ينهض النسق على علاقات السوق والمواقع الطبقية لذلك فهو اداتى مع ملاحظة صعوبة نفى تأثير النسق على عالم الحياة بالكامل ومن هنا يمكن القول ان الحياة اليومية وبما انها تواصلية فهى اذن غنية بالمجاز وتتوفر على قدر كبير من التعبير الجمالى الكامن فى طبيعتها هى وليس فى التعبير الفنى فالحياة اليومية عرفت الاستخدام المجازى للجسد على سبيل المثال قبل الفنون التى تعيد انتاج الجسد وتنحرف به عن دوره العادى كفنون المسرح والبالية مثلا  وكذلك عرفت الاستخدام المجازى للغة قبل فنون الشعر وفنون الحكى ولا عجب فكل الفنون كما هو معلوم نابعة من الحياة اليومية وعائدة اليها.

اما المبحث الثانى والذى هو المسرح وتذكير بما اوردته عن والتر بنيامين فى مدخل هذه الورقة فاننى اشير الى ان المسرح وعبر مسيرته الطويلة قد طالته الكثير من التحولات والتبدلات فى مختلف العناصر المكونة له اضافة الى ما يتصل بالتلقى وموقع الجمهور فى العملية المسرحية فالمسرح وبما يتمتع به من مرونة استطاع عبر التحوير والتطويع والاستيعاب اضافة الكثير من العناصرالتى اثرته من حقول ابداعية اخرى ومن حقول غير ابداعية كما استطاع فى نفس الوقت ان يتخلى عن بعض مكوناته فقد استطاع مثلا ان يغذى نفسه على مستوى النص بتقنيات الكتابة السردية وببعض تقنيات السينما وبالكثير من منجزات التكنولوجيا ومن جانب اخر استطاع فى بعض الاحيان  ان يتخلى عن الكلمة المنطوقة وعن الممثل بل حتى عن خشبة المسرح مكانه التقليدى ويتنقل فى الفضاءات المفتوحة والحجرات والحدائق  العامة وفى كل هذه التحولات استطاع ان يحتفظ بسحره وشخصيته..فى هذا المبحث سأركز على بعض ما له صلة بالورقة مما اضافه المسرح ومما تخلى عنه على مستويات النص والممثل والمكان المسرحى “الخشبة” وموقع الجمهوروسأبدأ بالنص واشير مباشرة الى تلك التجارب المسرحية التى سعت الى الغاء او تقليل الكلمة الملفوظة فى العرض المسرحى والتى كانت بمثابة ميلاد ما يعرف بنص المخرج..هذا الالغاء او التقليل للكلمة المنطوقة استتبعه بالضرورة اضافة عناصر مرئية من حقول اخرى كالرقص التعبيرى والمايم و(تقنيات شاشات العرض السينمائى كما فعل بسكاتور وقد لعب الفيلم السينمنائى دورا يقترب من دورالجوقة اليونانية القديمة التى تعلق على الحدث المسرحى)7، ومن المعروف طبعا ان الجوقة تشكل عنصرا اساسيا فى بناء النص الاغريقى القديم.ايضا على صعيد النص تم رفد النص المسرحى بأعادة كتابة احداث ووقائع من الحياة اليومية حدثت بالفعل وتم توثيقها فى صحيفة او وثيقة قضائية او اذيعت عبر الراديو او التلفزيون وقد تم هذا الرفد او هذه الاضافة عبر ما عرف فى دراسات المسرح “بالمسرح التسجيلى” وكمثال هنا نذكر مسرحية (“التحقيق” لبيتر فايس التى تدور احداثها حول محاكمة لبعض المسئولين فى معسكر “اوشفيتز” من خلال تشكيل محاكمة فعلية بما فيها من قاض وممثل للدفاع وبعض المتهمين والشهود الذين يجسدون بالتناوب شخصيات حقيقية)8

اما فيما يتصل بالممثل فقد توصلت مسيرة المسرح عبر التجريب والثورات التى قادها بعض المسرحيين وفى مقدمتهم بريخت واللاحقين له امثال بيتر بروك،فقد توصلت هذه الثورات (الى ان يقف الممثل موقفا موضوعيا من الشخصية التى يؤديها وذلك باستخدام مجموعة من التقنيات،مثل استخدام عنصر السرد واستخدام الفعل الماضى…)9،كل هذا رغبة فى كسر الايهام،بل ان بعضها استبدل الممثل بالدمى او بالتجسيد الهولوجرامى وفى تجارب كثيرة استبدل الممثل المحترف “بمواطنين” عاديين ولعل هذا مرتبط بتحول النظرة للمسرح نفسه ولدوره فى الحياة .اما المكان المسرحى والذى يكمن فيه سر المسرح وسحره فقد مر بتحولات وتطورات كثيرة ولن ابالغ اذا قلت انه هو من شكل روح التغيرات فى العناصر الاخرى فالمكان المسرحى والذى يمكن تعريفه (بأنه الحيزالعام متضمنا كل التكوينات البصرية والعلاقات المكانية الناتجة عن كل من العمارة المسرحية والديكور المسرحى الواقعين ضمن صياغة مكانية واحدة ولهما تأثير جمالى مشترك .

كما انه من الضرورى التفريق فى دراسة المكان بين مكان العرض: وهو المكان الذى تقدم فيه المسرحية  ومكان الحدث: وهو المكان النصى الذى يقترحه المؤلف او تشترطه الحكاية)10،هذا العنصر المهم فى العرض المسرحى مر بتحولات كثيرة منذ المكان المسرحى الاغريقى وحتى ظهور مسرح العلبة الايطالى فى عصر النهضة ولعل العنصر الواضح  فى كل هذه التحولات هى محاولات للبحث عن جماليات اكثر واقعية تساعد فى ايجاد مرونة مكانية وعلاقة خلاقة بين الممثل والمتفرج وهو ما سيجد تحققه ولحد كبير فى اكثر الاتجاهات والاساليب الاخراجية الحديثة  فى المسرح العالمى المعاصر ظهورا وتأثيرا،         ( كتجارب “ادولف ابيا” وكوردن كريج ومايرهولد ورينهارت  وبريخت وانتونين ارتو وجروتفسكى وبيتر بروك وغيرهم..

كل هذه التجارب مع اختلافها واختلاف تواريخها واختلاف اوطانها،حاولت ان تستعيد الخواص الجمالية فى المكان المسرحى التى اختفت مع ظهور مسرح العلبة “الاطار،البروسينيوم”نتيجة للتطور التقنى الكبير الذى توالى على مسرح العلبة والتى من بينها مغادرة مسرح العلبة والبحث عن اماكن بديلة وتأسيس اتجاهات مسرحية ذات اشتراطات جمالية مكانية مغايرة)11.اما فى ما يتصل بالجمهور وموقعه من العملية المسرحية فسنكتفى بالاشارة  الى ما يمكن اعتباره التحول الاساس فى موقع الجمهور من العمليه المسرحية  فالانتقال بالجمهور من موقع المتفرج السلبى الى الشريك فى بناء العرض ترك اثرا بالغا على كل عناصر العرض المسرحى بدا من المكان المسرحى الى بناء النص مرورا بالاداء التمثيلى فنظرة الى تجارب بسكاتور وبريخت والبرازيلى اوغستو بوال وغيرهم، بل الى غالبية العروض المسرحية التى تقدم فى وقتنا الراهن يؤكد ما ذهبنا اليه.

فى التمسرح:

هنا ومنذ الوهلة الاولى ستجد الورقة نفسها مواجهة بصعوبة ايجاد تعريف جامع مانع لماهية التمسرح فالدكتورة مارى الياس فى بحثها المنشور فى مجلة نزوى، نجدها تستخدم مصطلح “المسرحة” والذى لا يذهب بعيدا عن مصطلح التمسرح،فهى تقول: (ان مفهوم المسرحة حديث نسبيا فقد ظهر فى القرن العشرين لكنه ومنذ ظهوره لعب دورا فى تغيير النظرة الى كل ما هو “مسرحى” بداية، ثم الى كل ما ينتمى لعالم العرض ومن ثم شمل مجالات اخرى منها الحياة الاجتماعية والحياة اليومية وترى انها “اى المسرحة” سمة من سمات العصر الحديث،مسرحة نشرة الاخبار او اى شئ اخر فى وسائل الاتصال وتعبيرا عن التقاء الفنون الزمنية بالفنون المكانية “الاغنية والفديو كليب” وملمحا هاما من ملامح الحداثة وما بعدها)12، وفى موضع اخر فى نفس البحث تقول: ( ان مفهوم المسرحة كما يفهم اليوم يتجاوز ما يتعلق بالمسرح فقط ويرجع الى شئ اعمق واكثر بدائية من المسرح،انه يتعلق بشكل ادراكنا للعالم.وهذا ما يسمح باستخدامات متعددة للمفهوم فى مجالات عديدة. ايضا اشارت الى،الروسى نيكولاى افرينوف والذى يعتبر ان غريزة المسرحة هى غريزة طبيعية عند الانسان مثلها مثل اى غريزة اخرى وان هذه الغريزة تسبق اى رغبة او محاولة جمالية او فنية)13. وفى تعريف اخر للتمسرح حسب عرض الناقد عصام ابوالقاسم لكتاب “التمسرح من الاستعارة الى الخطاب”لمؤلفه الدكتور حسن اليوسفى،يقول اليوسفى:( اصبح من الصعب تحديد تعريف موحد وشامل للتمسرح وان كان ممكنا ابراز تجلياته عبر الحركة والفكر واللغة الانسانية وتجسيد تمظهراته عبر خطابات متعددة،منها ما هو قريب من روح المسرح ومن مجاله التعبيرى كالرواية مثلا  ومنها ما هو بعيد عنها كالرياضيات مثلا)14.اما التعريف الثالث للتمسرح الذى سأتوقف عنده فهو لفقيد المسرح العزيز الدكتور محسن مصيلحى فقد قال:(قد تبدو غريبة كلمة التمسرح،او صفة التمسرح عند اطلاقها على اعمال مسرحية،الا ان المقصود منها هو “تجسيد البنية الدرامية من خلال وسائل عديدة تتمرد على محاولات الايهام بالواقع،فالتمسرح لا يعنى الالتجاء الى محاولات التأثير المفتعل باستخدام وسائل مؤثرة فى الوجدان مثل الانتاج الضخم او الديكور المثير او الاستعراض او غير ذلك من وسائل الابهار الاخراجية،ان التمسرح يعتمد على النص فى المقام الاول،على الرغم من انه يعتمد بالطبع على الاخراج لتجسيد ما يطرحه النص)15.

من كل هذه التعريفات للتمسرح او المسرحة وربما فى غيرها نصل الى ان التمسرح لا ينفصل عن المسرح اذ هو يجسد كل ما ينهض عليه المسرح ويتميز به لذلك ثمة علاقة جدلية بين التمسرح والمسرح فبما ان التمسرح غريزة انسانية ووسيلة تعبيرية فى الحياة اليومية، فأنه يأخذ من المسرح بقدر ما يعطى هو للمسرح حتى يمكننا التساؤل كما تساءلت د.مارى ايهما يسبق الاخر المسرح ام التمسرح؟؟ فالتمسرح مرتبط بالحياة اليومية  ومتعدد التجليات سواء فى النصوص الادبية او فى الطقوس او فى البلاغة السياسية لذلك فهو كامن فى تفاصيل الحياة الانسانية اليومية وهو الجسر بين الواقع والخيال،بل هو متعلق بشكل ادراكنا للعالم..انه بلاغة الحياة اليومية ومجازاتها واستعاراتها..انه التعبير الخلاق لكسر الحدود..اى حدود بين فن وفن..بين واقع ومتخيل..بين حياة افتراضية واخرى واقعية..انه المجاز الاكبر الذى يجمل اليومى والمعيش وفى نفس الوقت يدعم المتخيل ويثريه…ان التمسرح كما المسرح يعلن عن نفسه بالجسد وبتفعيل المكان ومنحه دلالات اخرى وباللغة عبر تفجير مجازاتها وبالترميز و “بالميتامسرح”

اشارة ثانية:

اشرت فى ثنايا هذه الورقة الى الهيمنة الامبريالية وما انتجته من استغلال مريع للشعوب المستطعفة والى ما انتجته فى نفس الوقت من مقاومة شعبية لهذا الاستغلال ومن هنا لا يمكن النظر للثورة السودانية بمعزل عما دار ويدور فى العالم بخارطته الجديدة التى صنعتها كما ارى عملية 11 سبتمر 2001 بتدمير “تنظيم القاعدة” لمبنيى برجى مركز التجارة العالمى فى نيويورك ومبنى وزارة الدفاع الامريكية “البنتاغون” فى واشطن، ثم ما حدث فى 17 سبتمبر 2011 فكانت (“احتلو وول ستريت” فى نيويورك، وقبلها بقليل فى 17 دبسمبر 2010 عندما قام البائع المتجول التونسى محمد البوعزيزى بأشعال النار فى جسده  لتنتقل بعدها هذه الدورة من الاحتجاجات الشعبية الى بلدان اخرى فى شمال افريقيا والشرق الوسط والى اسبانيا عندما احتل من يطلق عليهم “الغاضبون” الساحتين المركزيتين فى مدريد وبرشلونة)16..

يمكن القول فى ما يتصل بالثورة السودانية،انها مثل اى ثورة جاءت عبر تراكم متصل من النضالات منذ السنين الاولى لنظام الانقاذ 1989-2019،الا ان اللحظة الحاسمة لتراكم هذه النضالات كانت فى ما عرف بانتفاضة سبتمبر 2013 التى مارس فيها نظام الانقاذ ابشع انواع القهر والتقتيل لتستمر بعدها المقاومة السلمية والمقاومة المسلحة حتى سقوط النظام فى 11 أبريل 2019..بالطبع لن استرسل فى الحديث عن طبيعة ويوميات الثورة السودانية فهذا موضوع مكانه ليس هنا ولكننى سأكتفى بفكرتين على صلة بموضوع الورقة:الفكرة الاولى ذات صلة بما يمكن تسميته “بعالمية القهر والاستغلال وبعالمية المقاومة” فعالمية القهر والاستغلال تتبدى فى ( لا ديمقراطية وظلم سلسلة من المؤسسات الرئيسة لنسق القوة العالمى: منظمة التجارة العالمية،صندوق النقد الدولى،البنك الدولى، والزعماء الوطنيين لمجموعة الثمانى،وغيرها)17  .

أما عالمية المقاومة فتتبدى فى المشترك بين كل هذه الحركات والثورات،كاحتلال الشوارع والميادين العامة وفى الكثير من الهتافات كهتاف “الشعب يريد اسقاط النظام” او هتاف “لن يحكمنا البنك الدولى” وفى الاساليب البلاغية كاستخدام الشعر والمسرح والغناء والموسيقى  والتشكيل كما فى الجداريات وفى استخدام “الميديا” بمختلف اشكالها للحد الاقصى خاصة وسائل التواصل الاجتماعى الا ان اهم هذه المشتركات هو الدعوة للعدالة بمفهومها الاشمل.

كيف تجلى التمسرح فى الثورة السودانية:

كنت قد اشرت الى العلاقة الجدلية بين التمسرح والمسرح والى احتشاد الحياة اليومية بخاصية التمسرح نسبة لما تتوفر عليه من مجازات واستعارات والى ان التمسرح متعلق بشكل ادراكنا للعالم. فى النظر الى الثورة السودانية كبنية مشهدية ثم العمل على تفكيكها والوقوف على عناصرها المكونة لهذه المشهدية،سأبدأ بأحراق دار الحزب الحاكم-حزب المؤتمر الوطنى- فى 19 ديسمبر 2018 بمدينة عطبرة،المدينة العمالية ذات التاريخ التليد فى النضال،فالاحراق وليس الحريق وبالنظر اليه فى ارشيف الثورات سنجد ان له جذرا فى الثورة الفرنسية والتى تمثل احدى الذواكر الجمعية العالمية والتى بدورها تمثل فى مجملها مستودع للهويات ومحفز من محفزات التمسرح، وبالنظر اليه اى الاحراق فى السياق الذى تم فيه وبالطريقة التى تم بها يعد عملا متجاوزا للعادى ليس فقط فى ما حمله من دلالات ومجازات كتحطيم قوة الحزب الحاكم واذلال نظامه وانما فى ما تضمنه من ابعاد ملحمية وفى ما حققه من حالة تطهيرية،

فمشهد النيران المتصاعدة والحشود التى تهتف واللافتات ورفرفة علم السودان والحضور البليغ للجسد وما صنعانه من احتفالية وبهجة  فى المكان،لا يمكن النظر اليها بعيدا عن فن المسرح..هذه الصورة ذات البعد الاحتفالى بحسبانها صورة واقعية لا تدين فقط لخبرات الحياة اليومية فى الاحتجاج السياسي وما تحمله من استعارات ومجازات وانما تدين كذلك لما اختزنه الفاعلين والفاعلات لهذ المشهد من مشاهدات مسرحية او سينمائية ومن صور بثتها الميديا لاحتجاجات فى بلدان اخرى،وحيث هنا تتبدى العلاقة الجدلية بين  التمسرح والمسرح التى اشرنا اليها،لتتوالى المشاهد بعد ذلك وتتجسد فى ما يمكن وصفه باعادة “هندسة المدينة” ليحتل الثوار (نساء ورجالا) الشوارع والميادين العامة ويصبحون هم من يمنحونها دلالتها ومعناها بعد نزع دلالتها الوظيفية كأمكنة سلطوية مخصصة لاغراض بعينها،فمفهوم الشارع هنا (يتعدى الحيز المكانى الذى تطؤه اقدامنا ونحن نمضى الى بيوتنا  وأعمالنا اولشراء حاجياتنا أوحتى التسكع

انه عالم مملوء بالعلامات،بل علامة كبرى تتحدر الى علامات غير متناهية)18..يقول الشاعر السودانى بابكر الوسيلة:

( يحفظ الشهداء اناشيدهم فى المواكب

عن ظهر قلب

يغنون ويبتهجون

انها جنة الضوء فى الشارع المتحرر تحت اقدامهم)19.

اعادة هندسة المكان “الشوارع” هذه تأخذ معناها ودلالاتها بتفعيل المكان الذى يبدأ بحضور الجسد واعلانه..ذلك الجسد والذى هو المكان الاثير لاستيطان (السلطة)..اذ انه المجال الحيوى للتابوهات والمحرمات وللسجن وللسحل وللجلد وللتعذيب وللقتل ولالوان القهر والاذلال كافة،كما انه وفى نفس الوقت قربان المقاومة والتحرر..هذه الشوراع “امكنة الحدث” لا تتبدى مجردة او “فارغة” وانما تتبدى حاملة لهوية وذاكرة،فلا يكاد يخلو شارع  منها من شهيد او جريح او مفقود او معتقل ولا يخلو منها شارع من متاريس هنا وهناك ولا من ملصقات واعلام  وجداريات تعبر عن هتافات واشعار وشعارات،فمن الهتافات على سبيل المثال “تسقط بس” و”ثوار احرار حا نكمل المشوار” ومن الاشعار “حا نبنيهو البنحلم بيهو يوماتى” أو “ياتو رصاص ما عقبو خلاص..ياتو وطن دام للأنجاس” او “دم الشهيد بى كم؟ولا السؤال ممنوع؟”

ومن الشعارات “حرية سلام وعدالة الثورة خيار الشعب” او “يا عنصرى ومغرور..كل البلد دارفور”.. ضمن هذا الفضاء “السنوغرافي” يعلن الجسد الانسانى عن حضوره او يعلن عنه،واول ما سنلاحظه فى هذا الاعلان للجسد كتعبير عن التمسرح،محو المسافات بين اجساد الرجال والنساء لا بالمعنى الذى يفيد الالتصاق والالتحام وانما بالمعنى الذى يفيد المشاركة المتساوية فى التعبير عن الفعل فالجسد الانثوى يفعل كما يفعل الجسد الرجولى -فى الكر والفر وفى الهتاف وفى كل شئ،ومحو المسافة بين المشارك والمتفرج فالكل فى هذا المشهد الاحتفالى مشاركون ومتفرجون فى نفس الوقت،وهذه بالطبع صيغة من صيغ المسرح،والاكثر تعقيدا محو المسافة بين المؤدى والمتفرج فى المشارك/المشاركة المتعين،

بمعنى ان هذا المشارك/المشاركة المتعين بقدر ما يكون مؤديا يكون فى نفس الوقت متفرجا على ما يؤديه وفقا لبعض نظريات علم التمثيل التى تقارب موقع الجسد فى الاداء التمثيلى “تبادل الادوار”..هذا التعديل فى موقع الجسد ودلالاته اذا جاز التعبير فى “مشهدية الثورة السودانية”كأن ترى مثلا جسدا عاريا فى نصفه الاعلى”اجساد المؤدين الرجال” او ان ترى جسدا يرتدى ازياء شخصية “اسبايدر مان” اوان ترى اجسادا ترتدى ازياء يغلب عليها اللون الاحمر كما حدث فى مليونة عيد الحب فى 14 فبراير 2019 والتى خرجت تضامنا مع ضحايا الحروب والانتهاكات أو أن ترى جسدا يكمل نفسه باكسوارات الحروب التقليدية كحمل “الدرقة” أو أن ترى اجسادا انثوية محمولة على أكتاف أجساد الرجال أو أن ترى إعادة تمثيل جنازة احد الشهداء فى دلالة على الاحتفاء والصمود او ان ترى تمثيل جنازة احد رموز السلطة كدلالة على هزيمتها واذلالها..هذا التعديل للجسد ودلالاته ضمن الفضاء السينوغرافى الذى تم تشييده وبقصد للمكان “الشوارع”، وبما يحتويه من الوان وازياء واصوات وهتافات وشعارات وجداريات وسخرية وتهكم وحركة  وكر وفر ما كان له ان يتم الا بتازر خبرة الحياة اليومية مع ذاكرة الاحتجاجات محليا وعالميا ومجازاتها التى اعيد انتاجها تقنيا ووزعت على ملايين “الشاشات”، ومع خبرة المسرح وصيغ التمسرح الكامنة فى الغريزة الانسانية…هو ما عمل فى الاخير على صناعة الاحتفال او فلنقل “الفرجة” والتى هى وليدة التمسرح وبجدارة والمتلبسة دوما “بالهوية”.

أخلص الى ان ثورة 19 ديسمبر 2019 باحتلالها للشوراع وجعلها مكانا اساسيا تعبر من خلاله عن احلامها ومطالبها فى الحرية والسلام والعدالة،جسدت وبجدارة ( التمسرح ) كوسيلة للتواصل بين البشر وكأداة يتعلق بها شكل ادراكنا للعالم، وقد كان من العمق بمكان (ان يرفع الطليعيون بداية القرن العشرين نداء لتقريب  الفن والحياة ليعلن عن ظهور شكل جديد لجماليات الاثر وتتم اعادة سحر العالم  من خلال الربط بين الفن والحياة)20.

1-والتر بنيامين: العمل الفنى فى عصر اعادة انتاجه تقنيا..ترجمة نشوان محسن دماج..منشور فى الشبكة العنكبوتية- حديقة لوركا-مدونة احمد هلالى الادبية والفكرية 31-3-2018.

2-انتونيو نيجرى و مايكل هاردت..ترجمة عمار جمال-اعلان-منشورات الحداثة السودانية-اغسطس 2020 ص43

3-د.هشام عمر النور..تجاوزالماركسية الى النظرية النقدية..رؤية للنشر والتوزيع 2012-ص 189 و190

4-المصدر السابق نفسه ص190

5-سايمون ديورنغ..ترجمة د.ممدوح يوسف عمران..الدراسات الثقافية:مقدمة نقدية..سلسلة عالم المعرفة..المجلس الوطنى للثقافة والفنون والاداب-الكويت يونيو 2015-ص 59 و60

6-دافيد لو بروتون..ترجمة محمدعرب صاصيلا..انثروبولوجيا الجسد والحداثة..المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع-الحمراء-بيروت-ط2 1997-ص 89 و90

7-د.شيماءفتحى..تقنيات الكتابة فى المسرح التسجيلى..الهيئةالمصريةالعامةللكتاب-2018 ص37.

8-المصدر السابق نفسه ص49-50

9-المصدر السابق نفسه ص43

10-كريم رشيد..جماليات المكان فى العرض المسرحى المعاصر:من المكان الخراافى ما قبل الفلسفة الى العصر الحديث..مجلة دبة الثقافية-اكتوبر 2015.ص39.

11-لتفاصيل اوفى يرجى النظر الى المصدر السابق “المبحث الثانى”.

12-د.مارى الياس..مفهوم المسرحة..مجلة نزوى-اكتوبر2008

13-المصدرالسابق نفسه.

14-عصام ابوالقاسم..مقال..جريدة الاتحاد 21يونيو 2022

15-د.محسن مصيلحى..التمسرح والتحريض السياسى فى مسرحيات سعدالدين وهبة..مجلة رواق عربى-مركزالقاهرة لدراسات حقوق الانسان-2002 العدد 27.

16-اعلان مصدر سبق ذكره-ص34 وص35 بتصرف.

17.المصدر السابق نفسه ص37.

18-عمار على حسن..المجاز السياسى..سلسلةعالم المعرفة-المجلس الوطنى للثقافة والفنون-الكويت-سبتمبر 2021.ص48.

19.من قصيدة جنة الشهداء-منشورة على صفحته فى الفيس بوك.

20.مأخوذ بتصرف من مقال عرض كتاب جماليات الاداء-نظرية فى علم جمال العرض-تأليف لاريكا فيشر ليشتة-اعداد حيدر على الاسدى-مجلة الفرجة الالكترونية-23 أغسطس 2022.

------------------------------------
*ورقة  مقدمة  لمهرجان بغداد الدولي للمسرح  
الدورة الثالثة2022 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق