مجلة الفنون المسرحية
يملك المسرح القدرة على تأمل الواقع ومناقشته بعد عرضه وتفكيكه وتركيبه في الآن نفسه مستغلا في ذلك قدرته الكبيرة على التجسيم والتجريد، والعرض والاخفاء، والتلاعب بالمتلقي العارف.
كما يملك امتياز توظيف الأساليب البلاغية والأسلوبية بجميع تمظهراتها بما لا يتحقق في غيره من الأجناس الأدبية، ولعل هذه القدرة الكبيرة على الوصف والتحليل واستغلال مقولات المناهج المختلفة في تشكيل المعنى في المسرح تتأتى من بنيته المتعددة القائمة على اللغة والعرض البصري وتفاصيل أخرى.
في العرض المسرحي الليبي "المركب" إخراج شرح البال عبد الهادي
الذي عرض مؤخرا بمهرجان بغداد الدولي للمسرح، نتابع كل ما سبقت الإشارة إليه، حيث تُستهل الأحداث بهروب إحدى شخصيات المسرحية من واقعنا المتسم بالدموية إلى المركب العالق في ميناء ما، يعبر عن ذلك صعودها إلى الخشبة (المركب) بعد فشلها في العثور على ملجأ بين الجمهور، ومنذ تلك اللحظة تشتغل الاستعارات والتشبيهات بشكل كبير محولة فضاء العرض، وما ارتبط به من تفاصيل إلى عالم مصغر يستعير من عالمنا الواقعي جنونه، واضطرابه، والفوضى المميزة له، ومن التطلع إلى الانعتاق منه ومن كل الخراب المحيط ببشريتنا، يستعير من كل ذلك ما يكفي ليشكل هوية ذلك المركب العالق في ميناء بلا اسم محدد، منتظرا المجهول، متطلعا إلى الانطلاق.
على متن المركب يتجسد الأمل في وجود شخصين الرجل والمرأة بوصفهما أصل الحياة، وهما يحاولان النجاة معا، كأن المخرج يستعيد ثنائية الذكر والأنثى (آدم وحواء) المؤسسة لبداية الخلق الأولى، ويمزجها بقصة السفينة المؤسسة لبداية الخلق الثانية (سفينة نوح عليه السلام)، ليقذف بكل ذلك إلى المجهول ممثلا في البحر المضطرب الذي يحيل على واقعنا المثخم بالريبة والشك كما أسلفت.
خلال تلك الرحلة تنكشف حقيقة الشخصيتين بالتدريج، فندرك أن الرجل فنان ابن فنان اختار الاختباء مكرها هربا من بطش الظلاميين، حاميا بكل قوته آخر آلة عزف، بما يرمز إلى انقراض كل ما هو فن وجميل على اليابسة، وأن المرأة أستاذة فرت بشرفها وحياتها من وجه الطغيان، والبقية حاكتها يد القدر ممثلة في ظروف لقائهما على المركب.
حياتنا المعاصرة باتت بحرا لجيا متقلب الاهواء، لا يمكن توقع ما سيأتي به غدها، والإبحار فيها مغامرة غير مضمونة عواقبها، لكنها لا تخلو من لحظات جمال يصنعها رجوعنا إلى انسانيتنا الدفينة، وهو ما يعبر عنه رجوع الرجل إلى حيز الشعور والاحساس، وعودته شيئا فشيئا إلى شكله القديم، بعد استسلامه لحب رفيقته في الرحلة التي أوشكت على مبادلته المشاعر نفسها قبل أن تباغثهما ترتيبات البحر (الحياة) لتقذف بكل واحد منهما في مسار مختلف من جديد، دون أن يتمكن أحدهما من معرفة اسم الآخر أو هويته، مما يجعل من بقائهما بلا اسم مدخلا لتعميم قصتهما على العشرات مثلهما.
يختزل العرض المسرحي كل تفاصيل حياتنا عبر توظيف أساليب البلاغة، فيعبر عن الواقعي والمتخيل في زمن الضيق والخراب، ويصف وينتقد، ويقول كلمته ويمضي تاركا للمشاهدين المساحة الكافية لترتيب فوضاهم الخاصة، وإعادة تصحيح وجهة "المركب" الذي اختاروا صعوده.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق