تصنيفات مسرحية

السبت، 26 نوفمبر 2022

منصّة "الخشبة".. العمل على أرشفة المسرح السوري

مجلة الفنون المسرحية

منصّة "الخشبة".. العمل على أرشفة المسرح السوري


علاء الدين العالم  _ الضفة الثالثة 

 

بعد الانفجار التكنولوجي العظيم، اختلفت طبيعة الأرشفة. لم يعد هناك عواميد ورقية وسراديب من المصنفات. اختُزلت أحجام البيانات وأصبح الأثير يحمل كل شيء. لكن أظهرت العشرية الأخيرة، أنه مثلما كانت الأوراق عرضة للاحتراق والتلف، الأثير هو الآخر عرضة للضياع. البيانات تزول بلحظة، والموقع الذي يُغلَق، يأخذ معه كل بياناته وكلمات كتابه وعامليه. تحدي الأرشيف المعاصر، إن أمكن تسميته بذلك، هو واحد من الأسئلة التي تواجه برنامج "الخشبة" المسرحي الصادر حديثا، وهو جزء من مؤسسة "دوزان.. ثقافة وفن". ويقدم نفسه بما هو منصة معنية بالمسرح السوري، وأرشفته، وحمايته مما حل فيه بعد الانفجار السوري.

هل لدينا أرشيف للمسرح السوري، ولو لم يكن جامعًا؟ الإجابة لا. هل كان لدينا قبل الانفجار والثوران أرشيف مسرحي؟ الإجابة أيضا بالنفي. يعرف العاملون في الشأن الثقافي السوري هذه الإشكالية: غياب أرشيف للمسرح، مثلما هي الحال في السينما والتلفزيون. هناك أرشيفات مسرحية صغرى إن صح القول. أرشيفات بعض الأماكن الحكومية، وعلى رأسها الأعمال المقدمة في المعهد العالي للفنون المسرحية. وأرشيفات بعض المسارح في هذه المدينة وتلك. بعد الثورة، نُبش كل شيء، وكاد أن يضيع كل شي في غمرة النار، وعاد المسرحيون السوريون ليقفون أمام حقيقة انتثار أرشيف مسرحهم، وضرورة العمل على لملمته.

حول أرشفة المسرح السوري

قبل الحديث عن الأرشفة وعملياتها، يتوقف المرء عند تعريف المسرح السوري وصعوبته، لا كتعريف اصطلاحي وحسب، بل بسبب صعوبة إحصاء وحصر أصحاب هذا المسرح الذين فرقتهم السبل بعد الثورة والحرب من جهة، والمعايير التي على أساسها يقوم فرز ما هو مسرحي وما هو غير ذلك. بمعنى، من هم المسرحيون السوريون؟ وما هي أعمالهم التي يمكن إدراجها تحت مُسمّى مسرح سوري؟ في حالة عمل فنان سوري بجزء من عمل مسرحي مختلف الجنسيات، أو في حال تقديم مسرحية سورية بلغة أخرى وممثلين أجانب ــــ وهذا حال فاعلين مسرحيين سوريين كُثر خارج سورية ـــ هل يعتبر هذا العمل مسرحا سوريًا؟ برأي الكاتب المسرحي ياسر أبو شقرة (محرر ومنسق برنامج الخشبة) أن أرشيف المسرح السوري هو أرشيف المسرَحيين السوريين: "وجدنا إجابة عملية ومبدئية وقابلة للتطوير، وهي أننا نتتبع المَسرَحي السوري ومُنتَجه، بغض النظر عن لغته، ومكان عمله، وموضوعته".  يبقى هذا التعريف فضفاضًا ما لم يتم تحديد ما هو العمل المسرحي، وبعبارة أخرى، ما هي معاييركم لقول هذا العمل مسرح وذاك لا؟، "بالنسبة لنا أي عمل يطلق عليه صاحبه اسم مسرح، ندرجه في الأرشيف، دون الالتفات إلى القيمة الفنية أو الفكرية للعمل، فهذه مسألة النقد لا الأرشفة والتوثيق".

مصادر أرشيف المسرح السوري كثيرة ومتناثرة، وزاد الانفجار من شرذمتها، وضاع منها الكثير، لذلك يعد ظهور موقع ما يجعل من نفسه مكانًا جامعًا لأرشيف المسرح السوري الذي يمتد لقرن، مكانًا ملفتًا. السؤال هنا: ما هي الآلية التي يعمل من خلالها الأرشيف، وما هي موارده لأرشفة المسرح السوري وتنظيمه؟ يجيب أبو شقرة: "في حالة العروض، سعينا في آلية بحثنا إلى الإلمام بكل ما يحيط العرض المسرحي من مقالات وبروشور ومواد إعلانية وصور وفيديوهات، بينما في المقالات والأبحاث عملنا على أرشفة المنشور منها، أينما كان، وغير المنشور، أو تلك المقالات التي زالت بزوال مواقع نشرها. منهجية البرنامج في الأرشفة كانت واضحة: الرصد والإحصاء، جمع البيانات، توثيقها، ومن ثم تنظيمها وأرشفتها".

"الخشبة" ليست منصة رقمية مختصة بالأرشيف فقط، بحسب أبو شقرة "هي برنامج مسرح يُعنى بالأرشفة، لكن عمله لا يتوقف عليها، بمعنى أنه مهتم بالمسرح السوري عمومًا، وقد يُنتج مجموعة تدريبات أو إنتاجات لاحقًا، أو ربما ننظم مهرجانات خاصة بالمسرح السوري".

كان الانطلاق الرسمي لمنصة "الخشبة" في 19 تشرين الثاني/ نوفمبر الحالي، حاملًا معه عددًا من الأعمال المسرحية والنصوص والمقالات، مرفقًا بالسير الذاتية للمسرحيين السوريين.. "في عام واحد، أرشفنا مئات العروض المسرحية السورية، وعشرات النصوص والأبحاث، لكن لا يمكن إتاحتها إلا بالرجوع لكتابها وحقوقهم وحقوق دور نشرهم، لكن حاليًا سننطلق من مجموعة مواد، وبعدها سننشر تباعًا ما لنا الحق في نشره، سواء كانت نصوصًا أو عروضًا مسرحية أو أبحاثًا وسيرًا ذاتية".

الكاتب المسرحي ياسر أبو شقرة (محرر ومنسق برنامج الخشبة)


موقع ثقافي آخر وحسب؟

تشمل منصة "الخشبة" ستة أبواب رئيسية، هي (عروض مسرحية، نصوص، أبحاث ومقالات، مسرحيون، وثائق، يبث الآن). بالرغم من أن المنصة متاحة باللغتين، وبعض الأعمال موجودة بالعربية والانكليزية، إلا أنها لم تشتمل على بوابة خاصة بالترجمة المسرحية السورية، أي أرشفة الأعمال المسرحية العالمية التي ترجمت للعربية عبر مترجمين سوريين ونشرت عبر دور عربية مختلفة.  يناقش أبو شقرة هذه الملاحظة بأنه من "غير الممكن حصر كل هذه الترجمات، لأنها تحتاج لبوابة أرشفة لوحدها. هذا شأن خاص بأرشفة أعمال المترجمين السوريين، وهذا بدوره متعلق بحقل الترجمة إلى العربية لا المسرح. لذلك نحن معنيون بوضع النصوص المترجمة بنسختيها المترجمة والأصلية، وترجمت السير الذاتية والمقالات والأبحاث". 

يطفح الأثير الرقمي العربي بالعديد من المواقع الثقافية، تظهر مواقع بسرعة وتختفي أخرى، فكيف سيحافظ موقع "الخشبة" على نفسه من الزوال في قادم السنوات، لا سيما وما حدث مع بعض المواقع التي أغلقت بعدما شكلت قاعدة جماهيرية واسعة. بطريقة أخرى، ما هي إجابتكم في المنصة على سؤال الديمومة؟.. "هناك حلول بالطبع لاستمرار عمل المنصة، لكنها غير عملية. كذلك فإن مسألة التمويل تبقى شائكة ومربكة، وعمل الفريق مرتبط بها. وهي أساس لديمومة العمل". فعليًا، يعمل الموقع على أن يكون منصة حيوية، قابلة دوما للزيادة والإضافة. يعتمد ذلك على شغل العاملين فيه من جهة، وحركة إحصائهم ورصدهم وترتيبهم للمواد المسرحية السورية. كذلك يعتمد على المسرحيين السوريين أنفسهم، حيث بإمكانهم التفاعل مع المنصة وتزويدها بأعمالهم، سواء بغرض الأرشفة والحفظ، أو بغرض العرض. "في كل عملنا، ومحادثاتنا مع المسرحيين السوريين، دائما ما نسأل عن اقتراحات لتطوير العمل، اقتراحات قادمة من المسرحيين أنفسهم. وبالتالي يُبنى الأرشيف ليس من وجهة نظر العاملين فيه وحسب، بل من وجهة نظر الفاعلين المسرحيين السوريين". 

زالت مواقع ثقافية مختلفة، وحذفت معها عديد النصوص، خاصة في بعض الصحف الكبرى التي أغلقت مواقعها. هناك مسؤولية ما مفقودة في حالات كهذه. من المسؤول عن حماية النصوص من الحذف والاختفاء؟ وكيف تعمل المسؤولية المؤسساتية للحفاظ على هذا الخزان الثقافي الكبير؟.. "إننا كمؤسسة مسؤولين عن حفظ المواد التي بين أيدينا، من التداول غير القانوني أو من الضياع. أرّقنا سؤال المسؤولية بداية، لكن لاحقا تجاوزناه لأنه سؤال معطِّل، غير قابل للإجابة، نفهم المسؤولية على أنها حفظ هذا الإرث المسرحي وأرشفته طالما نحن قادرين، كمنصة، وكمؤسسة، على العمل".

سؤال الاستقلالية الدائم

تقدم "الخشبة" نفسها على أنها مشروع مستقل، وكحال المؤسسات المستقلة في الحقل الثقافي العربي، لها تعريفات محددة للاستقلالية وهياكل إدارية مختلفة وموارد دعم متغيرة. في السؤال عن هيكلية الخشبة الإدارية ومصادر دعمها يوضح أبو شقرة أن "الخشبة" هي "برنامج ضمن مؤسسة (دوزان.. ثقافة وفن) المعنية بإنتاج برامج ثقافية تشتغل على الأرشفة، ودوزان هي مؤسسة ثقافية مستقلة مهتمة بالعمل على حفظ التراث الثقافي السوري. كانت التجربة الأولى لدوزان مع منصة (نوتة) وهي منصة رقمية تشتغل على أرشفة الموسيقى السورية والتراث الفولكلوري والأهلي". إذًا، "الخشبة" جزء من مشروع ثقافي سوري أعم، يسعى إلى رصد وإحصاء وأرشفة الثقافة السورية، بمعناها الشامل، بما فيها من فنون (موسيقى، سينما مسرح)، أو من تراث شفوي متنوع ومختلف وكبير.

لا مجال للحديث عن "استقلالية ما" بدون الخوض في الشأن السياسي، فالاستقلالية المؤسساتية بمعناها الأشد عمومية، هي ضد التبعية، السياسية أو الاقتصادية. لذلك عند الحديث عن استقلالية منصة ثقافية ما، وجب استقراء الاستقلال السياسي للمنصة نفسها، سيما في عمل كالأرشفة أو التأريخ، حيث يُميل الرأي السياسي كفةَ العمل التوثيقي لجهة دون أخرى. في الحالة السورية، ومواقعها الثقافية المستقلة، يلتبس هذا القول كثيرًا، كيف تعاملت منصة "الخشبة" مع هذا الخط السياسي الشائك؟ "بوضوح، لا يوجد لدى المنصة توجه سياسي مُعلَن، هناك آراء أفرادها، لكن المنصة حيادية سياسيًا، لا يمكن لعملك في الأرشفة أن يميل لطرف سياسي دون آخر، المنصة تؤرشف كل نتاج المسرح السوري بصرف النظر تمامًا عن رأي صاحبه السياسي وتوجه عمله المسرحي وجهة إنتاجه ومكان عمله".

كفاعل في حقل المسرح السوري، أجد من الأهمية التعامل مع منصة تحفظ أعمالنا وأبحاثنا المسرحية، خاصة بعد ضياع عديد الأعمال، كحال كل المسرحيين السوريين، الذين تاهت أعمالهم، في غمرة الشتات وفوضاه، أو تلاشت مع المواقع الإلكترونية الآخذة في التلاشي. على أن تتمكن "الخشبة" وأي منصة أخرى، من الحفاظ على هذا الإرث الثقافي من زمننا، زمن البيانات المهدورة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق