مفهوم القسوة (أو الأنا الجريح )عند "أنتونان أرطو".
معنى كلمة قسوة كما نظر لها "انتونان أرطو".
استعمل أنتونان أرطو 1(Antonin Artaud) «تعبير مسرح القسوة سنة 1938 لمشروع للعرض، يؤدي إلى احتمال المتفرج علاجا انفعاليا صادما، بطريقة ترمي إلى تحريره من سطوة التفكير المنطقي، بغية اكتشاف عيش مباشر داخل تطهير جديد، وتجربة جمالية وأصالة راسخة. والمسرحية برمتها تكون في إطار شعائري، إلى حد إنتاج صور تتجه نحو لا وعي المتفرج، وهناك جماعات عديدة الآن تستند إلى مسرح القسوة إذ هناك إخراج مارا/ صاد "لبيتر فايس" من قبل "بيتر بروك" (P.Brook)/ ومسرح "فرناندو (F. Arabal) الإسباني، والمسرح الحي الأمريكي، وهي كلها من بين المحاولات الأكثر ارتباطا بهاته الجمالية»2. كما يرمي هذا الاتجاه المسرحي إلى «إغراق المتفرج في جو أشبه بجو الطقوس الدينية، إلا أنه – في المسرح- يتكون من الحركة، والإيماء، والضوء، والإيقاع، والصوت... وذلك بهدف تحريك وإقلاق أعمق وأدق غرائز هذا المتفرج وانفعالاته المكظومة في لا شعوره»3.
إن أرطو عندما استخدم كلمة (قسوة) لم يكن يقصد إثارة نزعات، بل كانت دعوته ترتكز بالأساس على ما هو صارم وقاس في الحياة، هذه الحياة التي تفور بمختلف أشكال العذاب والألم. إنه بكل بساطة مسرح يختفي منه عنصر الرحمة، فكلمة قسوة «ليست مرادفا للدم المسكوب، واللحم الشهيد، والعدو المصلوب، هذه المطابقة بين القسوة والتعذيب جانب صغير جدا من الموضوع... أنا استعمل كلمة قسوة بمعنى دوامة من الحياة تلتهم الظلمات، بمعنى ذلك الألم الذي لا يمكن أن تمارس الحياة خارج ضرورته التي لا مناص منها»4. فالقسوة عند "أرطو" تصبح حقيقة مسرحية لا يمكن الاستغناء عنها، فهي ليست شيئا تجريديا أو منظومة أدبية أو درامية، بل قوة تملأ قلوب الضعفاء بالرعب والرهبة في العالم. إنها تعبير عن ذلك الأنا الجريح والمتمزق، إذ «يوجد في نار الحياة، في شهوة الحياة في الاندفاع المجنون نحو الحياة، نوع من الشر الأصلي، رغبة "إيروس" قسوة مادامت تحرق بعض الاحتمالات، والموت قسوة، والبعث قسوة، والتحول قسوة، ما دام لا يوجد في كل الاتجاهات، وفي العالم الدائري المغلق مكان للموت الحقيقي»5.
نظرية القسوة ورمزيتها.
لقد تشكلت نظرية القسوة عند "أنتونان أرطو" من خلال رؤيته السحرية والجمالية والرمزية للأشياء، واستطاع بواسطتها خلخلة مرتكزات المسرح الفرنسي الكلاسيكي، حيث رفض أن يكون المسرح عبارة عن تاريخ يروي الأحداث أو مسرحا سيكولوجيا صرفا، لهذا طالب بالعودة إلى ما هو سحري وأسطوري، وكانت ثورته على المسرح هذه تهدف طرد الكاتب من المسرح، فلم يعد المؤلف هو السيد، ولم يعد الممثلون هم العبيد، وإنما أصبح الممثل يملك قداسته وجدارته على الخشبة، فمن خلال علاقته بالشرق، اكتشف "أرطو" أشكالا تعبيرية غير لغوية تعتمد لغة الجسد الفيزيقية كإحدى الوسائل لقيام عملية مسرحية ترتكز بالأساس على بعض العناصر كالإضاءة، والصوت، والرقص، والإيماء، والإشارة، والحركة، والموسيقى، كما يجعل اللغة عنصرا مساهما إلى جانب هذه العناصر بعد أن كان لها دور مباشر في تأسيس الفعل المسرحي كما هو الشأن بالنسبة للمسرح التقليدي الأوربي.
انفتاح النظرية على التجارب الأخرى.
استفاد أرطو من "المدرسة السريالية"6 التي ظهرت كحركة مناهضة "للدادية"7، كانت ترتكز على ما هو تلقائي وتعتمد على العقل الباطن، وقد لقيت نظرية "أرطو" عن القسوة استجابة من طرف مدرسة اللامعقول خصوصا عند "يوجين يونسكو" (Eugène Ionesco) في "المغنية الصلعاء"، وعند "صمويل بيكيت" (Samuel Beckett) في مسرحيته "في انتظار غودو". ويبدو أن «أكبر رجل صنع المسرح الجديد وفنيات عروضه هو "أنطونان أرطو" الذي نجده حاضرا في أعمال "شارل دولان" (Ch.Dullin) (فرنسا)، و"روجي بلانشون" (R.Planchon) (فرنسا)، و"يورخي ليفلي" (Lorgé Lovelli) (الأرجنتين)، و"بيتر بروك" (P. brook) (انجلترا) و"غروتفسكي" (Grotowski) (بولونيا)، كما نجد تعاليمه تطبق على الخصوص في الاتجاهات المسرحية الحديثة بأمريكا، أي في إنجازات مسرح الوقعة8 (Happening) ومسرح الخبز والدمى9 P.Shumann, Bread and pappet ، والمسرح المفتوح، 10…Joe Cheirin, open théâtre ، والمسرح11 الأسود»12 بالإضافة إلى المسرح الحي13... إلخ.
فإذا كان أرطو يرفض المسرح الغربي الذي يعتمد على شكل وصفي سيكولوجي، فإنه ينطلق في تأسيسه لمسرح القسوة من مجموعة من الخطوات والمراحل، فبعد أن انغمس في الحركة السريالية، نجده يؤسس مسرح "الفريد جاري"14 (Alfred Jary) هذا الكاتب الذي يعبر بقسوة عن الإنسان ذي النزعة الحيوانية، كما أن رؤيته لراقصي جزيرة بالي في فرنسا كان له أثر بالغ في تصوره للمسرح حيث فهم عمق هذه الفرجة التي توحي بدلالات الحركات الجسدية النابعة عن الممثلين، وتأكد بأن المسرح لا يمكن أن يعتمد فقط على اللغة المنطوقة، بل يمكنه كذلك أن يهتم بالتمثيل الصامت وإعطاء العرض المسرحي بعدا فرجويا متميزا. وتكمن جدارة "أرطو" في كونه مكتشفا أكثر من كونه مبتكرا، وهذه هي طبيعة الفن بصفة عامة حيث ينطلق المنظرون في تجاربهم المسرحية من جذور وإرهاصات تصب في نفس التجربة المسرحية التي يدعون إليها. وقد رأينا في فصل سابق كيف أن برشت اعتمد في "نظريته الملحمية" على عنصر التاريخ وعلى الحكاية التي تعتبر قلب الدراما عند أرسطو. ونفس الشيء بالنسبة لغروتفسكي الذي دعا إلى مسرح بدائي بسيط تكون الغاية منه تجاوز مخلفات الحضارة المعاصرة. ويرى أرطو أن من واجب المسرح أن يقدم مسرحية لا أن يقدم مشهدا أو مواعظ أو حكما، وأن يصور الحياة كما نلمسها في الأحلام، فتقديس الكلمة في نظر أرطو يقلل من إيجابية المسرح ذلك أن «الكلمات لا تعني كل شيء، وأنها توقف الفكر بطبيعتها وتشله نهائيا، بدلا من أن تساعده على نموه»15، فمجال المسرح مادي وتشكيلي وليس نفسيا يعتمد على لغة الكلمات التي استعبدت المسرح في الغرب لفترة طويلة، فأن نجعل – كما يقول أرطو - «اللغة المنطوقة أو التعبير بالكلمات يسيطران على المسرح، وعلى تعبير الحركات الموضوعي، وعلى كل ما يبلغ الفكر عن طريق الحواس في الفضاء، يعني أن نولي ظهورنا لمتطلبات المسرح المادية، ونثور على إمكانياته»16.
لغة العرض المسرحي في مسرح القسوة.
وبهذا اقترح لغة أخرى مادية ملموسة إلى جانب لغة الكلمات، وهي "لغة الفضاء" باعتبارها لغة مركبة تساهم فيها مجموعة من العناصر والأشكال التعبيرية التي من شأنها أن تملأ خشبة المسرح كالموسيقى والرقص، والنحت والإيماء، والحركات، والنبرات، والمعمار، والإضاءة، والديكور... إلخ. يستطيع الممثل بمساعدة هذه العناصر أن يقدم عرضا مسرحيا يختلف عن العرض المسرحي الكلاسيكي، ولسوف ينضاف «إلى أكبر عدد ممكن من الحركات، أكبر عدد ممكن من الصور المادية والمعاني الممكنة المرتبطة بهذه الحركات، ولن توجد الصور والحركات المستخدمة من أجل إمتاع العين والأذن فقط، بل من أجل متعة أكثر غموضا وفائدة للفكر»17. وانطلاقا من هذه اللغة المادية المحسوسة، فلن يكون هناك مكان خال على المسرح، كما لن يعرف المتفرج فترة راحة بحيث سيُشغل فكره وإحساسه للمشاركة في العرض المسرحي، وبالتالي لن يجد فرصة من أجل التسلية أو الترفيه، لأنه سيجد نفسه أيضا مرتميا في جو من الاحتفالات والطقوس الدينية، وهذه اللغة المسرحية الموضوعية المحسوسة تجري في الإحساس كما يقول أرطو «وإذ تتخلى عن الاستخدام الغربي للكلمة، تجعل من الكلمات تعزيما، وتدفع الصوت وتستخدم ذبذباته وأنواعه، وتوقف الإيقاع وقوفا ولها، وتسحق الأصوات وتهدف إلى إثارة الإحساس وإخماده وسحره، وتستخلص معنى غنائيا جديدا للحركة، تلك التي تنتهي على تخطي غنائية الكلمات إذ تسرع أو يتسع مداها في الفضاء. نقول أخيرا، إنها تضع حدا لعبودية اللغة الذهنية، وتعطينا إحساسا بعقلانية جديدة أعمق، تختفي تحت الحركات والإشارات التي ارتقت إلى مستوى التعزيم الخاص»18.
فمسرح القسوة إذن، يخاطب الإنسان الشامل، لا الإنسان السيكولوجي، يحاول علاج هذا الإنسان من خلال تجسيد النزعات والطقوس القديمة مع إضفاء طابعي الحينية والحالية عليها. فالحياة عبارة عن ازدواجية بين المفاهيم كالمسرح والطاعون، والمسرح والقسوة، والمسرح والثقافة، فالمسرح والطاعون (مثلا) سيان عند أرطو، فهما عبارة عن أزمة تنتهي إما بالشفاء أو بالموت، وحيث يهدف المسرح إلى العودة بالفكر إلى منابعه الأولى أي منبع الصراعات، فإن الطاعون كذلك «داء أسمى لأنه أزمة كاملة لا يبقى بعدها سوى الموت أو أقصى التطهير»19. فإذا كان الطاعون (Peste) مُعْد يكشف الغطاء عن الألم والقسوة، فإن "أرطو" يعتبر المسرح كذلك "داء" لن يُكتسب إلا بواسطة الهدم وإعادة البناء. فتأثير المسرح كتأثير الطاعون يدفع البشر في المسرح لأن يروا أنفسهم كما هي في الحياة اليومية دون خداع أو قناع أو كذب، وإذا «كان المسرح جوهريا كالطاعون، فليس لأنه معد، بل لأنه كالطاعون، يكشف ويدفع إلى الخارج جوهرا من القسوة الكامنة، تتمركز عن طريقه كل إمكانيات الفكر الفاسدة على فرد أو شعب»20. إن كل شيء في الحياة يؤثر في الإنسان لهذا استغل أرطو تلك اللغة الفيزيقية التي تؤثر في الحواس، هذه اللغة التي تختفي وراء الحركات، والإشارات، باعتبارها نقيضا للغة الذهنية. وبهذا يمكن القول بأن المسرح يهدم لكي يبني صرحا اجتماعيا، ويدفع بالمشاهد إلى كشف الصراعات ومتناقضات الواقع، شأنه في ذلك شأن الطاعون باعتباره وباء يؤدي في النهاية إلى الانهيار والموت أو الخلاص والشفاء. وخلاصة القول، يمكن القول بأن المسرح الحقيقي عند أرطو هو الذي يحرك حواس ولا شعور الجمهور ويدفع بهم إلى الكشف عن أحاسيسهم وانفعالاتهم الداخلية.
إن طبيعة الإحساس بالألم والقسوة التي يحددها أرطو في مسرحه من خلال ازدواجيات المسرح والطاعون، والمسرح والقسوة ... إلخ تشبه إلى حد ما المعاناة التي يشكو منها الإنسان في الحياة اليومية أثناء اصطدامه بحدث مفجع. من هنا يصبح الألم المسرحي بمثابة شفاء للمتفرج من انفعالاته الداخلية، فالإنسان الذي يقاسي في الحياة نتيجة ظروف معينة فرضتها طبيعة المرحلة التي يمر بها ويعايشها، يتعب ويتألم، ويحاول بذل طاقاته للخروج من المأزق الذي ارتمى فيه وإيجاده حل لمشاكله. غير أنه لن يفلح – نسبيا- في معالجة هذه المشاكل طالما أنه لا يجد من يرشده وينبهه، بينما الألم في المسرح يكتسي صبغة خاصة، حيث يستعير الممثل على المسرح نماذج من مشاكل معاشة على أرض الواقع مشخصة بطريقة تجعل المتفرج يتألم خارجيا وداخليا. بمعنى أنه يحس بتأثيرات الظلم أو الجوع أو الفقر أو القمع أو الرشوة ... إلخ، كما هي مجسدة على المسرح وبين ما يعيشه داخليا، فلا يمكن «أن يوجد المسرح إلا إذا وجد عنصر القسوة، أساسا، في كل عرض، وإزاء حالة التدهور التي نحن فيها، ستدخل الميتافيزيقا في الأذهان عن طريق الجلد»21.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق