مجلة الفنون المسرحية
"هلاوس" مسرحية إيمائية صامتة تختبر نص "تاجر البندقية" المخرج يغامر بتقديم عمل غير مألوف مصرياً والممثلون استوعبوا اللعبة
يسري حسان
في العرض المسرحي "هلاوس" (مركز الهناجر - القاهرة) ثلاث مغامرات لا مغامرة واحدة. الأولى تتمثل في أنه عرض إيمائي صامت (مايم)، وهذا النوع غير مألوف في مصر، بالتالي يصعب أن يكون جماهيرياً. أما الثانية فهي اعتماد العرض على نص "تاجر البندقية" لوليم شكسبير، وتوظيفه في تقنية "مسرح داخل مسرح"، وهو ما يستوجب أن يكون الجمهور على علم بالنص الأصلي، بخاصة أننا بصدد تمثيل صامت. وتأتي المغامرة الأخيرة في كون هذا النوع من المسرح يقتصر على العروض القصيرة السريعة، التي تكون في الغالب عروضاً هزلية، لكن العرض هنا لم يكن قصيراً ولا هزلياً على طول الخط.
إذاً هل استطاع المخرج ومعد العرض محمد عبد الله أن ينقذ عرضه من الغرق ويجنبه مصير سفن أنطونيو التي غرقت، وكاد صاحبها يتعرض لتقطيع رطل من لحمه وفاء لدين عليه، للتاجر اليهودي شيلوك، كما نص الاتفاق بينهما في مسرحية شكسبير؟
مسرح داخل المسرح
نحن أمام فرقة مسرحية تجري بروفات على مسرحية "تاجر البندقية". على يسار المشاهد وفي أقصى مقدمة الخشبة يجلس المؤلف (غير المرئي من الممثلين)، يراقب الموقف ويعدل في بعض المشاهد على الورق أمامه ويغير في مصائر الشخصيات بحسب ما توجهه أفكاره أو هلاوسه. وفي العمق، وعلى جانبي الخشبة، تجري الأحداث، حيث تفد ممثلة جديدة على الفرقة، تلعب دور بورشيا، حبيبة بسانيو، الذي من أجله اقترض صديقه أنطونيو ثلاثة آلاف جنيه من شيلوك.
تتعرض الممثلة لمضايقات زميلاتها في الفرقة، كما تحظى في الوقت نفسه بإعجاب زملائها، ويبدأ الصراع بينهم على الفوز بقلبها: الممثل الذي يلعب دور شيلوك، والممثل الذي يلعب دور أنطونيو، والممثل الذي يلعب دور المخرج، وفي النهاية يفوز بها ممثل شخصية أنطونيو.
ينتقل مخرج العرض ما بين مشاهد من "تاجر البندقية" ومشاهد من الحياة الشخصية للممثلين داخل الفرقة والصراعات بينهم. وجاءت نقلاته طبيعية ومبررة، بما أننا بصدد مسرح داخل مسرح، فقد كان واعياً، بشكل دائم، إلى الربط بين العلاقات في نص شكسبير والعلاقات بين أفراد الفرقة المسرحية. وربما جاء فوز من جسد دور أنطونيو بقلب من جسدت دور بورشيا كوجهة نظر من المخرج في نص شكسبير، تفضي إلى أن أنطونيو بوفائه لصديقه وتضحيته من أجله، وحسن معاملته للآخرين، وسمعته الطيبة بين الناس، كان الأحق بقلب بورشيا وليس صديقه، أي إنه حاول تقديم قراءة أخرى وجديدة في النص الأصلي.
هزل كثير
يجمع العرض ما بين الجد والهزل، وإن انزلق، في بعض اللحظات، إلى المبالغة ليصل حد الاستظراف غير المبرر، وغير المشارك في بناء دراما العرض، ربما شعوراً بعدم قدرة الجمهور على الاستيعاب، أو رغبة من المخرج في إنعاش الجمهور وربطه بالعرض، وهو ما انحرف بالعمل إلى طريق لا يتسق مع توجهه العام. إن طبيعة مثل هذه العروض تتسم بمقدار عال من الهزل، لكن الهزل عندما يتحول إلى شيء مجاني لا يسهم في تطوير العرض. وعندما يصبح غاية الممثل في حد ذاته فهذا من شأنه أن يشكل عبئاً، لا على العرض فحسب وإنما على المشاهد أيضاً.
كان واضحاً أن المخرج لديه خبرة جيدة بفن "المايم"، بخاصة أن كثيرين لا يفرقون بين "المايم" و"البانتومايم"، فالأخير، في أحد جوانبه فن إيمائي يتم تجسيده غالباً بحركات اليدين، أما الأول فهو فن تعبيري يتم تجسيده بالإيماءات وتعبيرات الوجه وحركات الجسد، وهو ما بدا واضحاً في أداء الممثلين (جورج فوزي، معتصم شعبان، مصطفى حزين، عبد الله سلطان، عبد الرحمن القاضي، عمر عز، نهال فهمي، ريم عصام، مارسيل ميشيل). أن تقدم عرضاً صامتاً لمدة تزيد على الساعة وتصل رسالتك فتلك مهمة صعبة تتطلب قدرة فائقة على استخدام الحركة والإيماءة، في تمرير آراء العرض وأفكاره ومغزاه، وعدم ترك الجمهور تتقاذفه الأفكار بعيداً تماماً عما يود العرض تقديمه. وهو ما نجح فيه الممثلون بدرجة كبيرة، بخاصة أن حضور لغة الإشارة كان محدوداً أو نادراً، مما يشير إلى وعي الممثلين بالفارق بين "المايم" ولغة الإشارة، التي يمكن أن تكون جزءاً ثانوياً وعابراً وليس كلاً من هذا الفن.
توظيف الموسيقى
ولأن التمثيل الصامت من دون موسيقى يمكن أن يبعث الملل في نفوس المشاهدين، ويمكن كذلك أن يشوش رسالة العرض، بخاصة إذا لم يكن مجرد مشهد عابر وسريع، (كنا بصدد عرض مسرحي درامي طويل نسبياً)، فقد استعان المخرج بموسيقى معدة، وظفها بشكل جيد بحسب طبيعة كل مشهد، ما بين لحظات المرح ولحظات الصراع والاحتدام، فكانت بمثابة جسد آخر للعرض، أو دعامة أساسية له. والأمر نفسه بالنسبة إلى الإضاءة (صممها أبو بكر الشريف)، التي أسهمت بشكل واع في إغناء صورة العرض، وتعددت نقلاتها لإضفاء مزيد من الثراء عليه، واهتمت بإبراز تعبيرات وجه الممثل. وهذا ما يتطلبه المسرح الصامت بشدة. ووضحت قدرات مصممها أكثر في مشاهد المسرح الأسود، بخاصة مشهد شيلوك وأنطونيو أثناء استعداد الأول لاقتطاع رطل اللحم من الأخير.
اقرأ عب الماكياج والأقنعة (تصميم محمد فوزي) دوراً مهماً سواء في تحول الممثل من دوره في الحياة العادية، إلى دوره داخل المسرحية. وبرز جمال الأقنعة وتصميمها الذكي في مشاهد المسرح الأسود، واتسمت الملابس (صممتها أميرة صابر) بالمرونة التي تسمح للممثل بتبديل شخصيته بسهولة ومن دون إخلال بإيقاع العرض. فكل شيء يتم بسرعة أثناء المشاهد التي جاءت كلها في إيقاع لاهث يناسب طبيعة العرض.
عناصر تجريبية
لا ديكور بالمعنى الحرفي استخدمه المخرج، أو هو ديكور لم يتم تنظيمه بعد باعتبار أننا بصدد بروفة: منصة مرتفعة قليلاً في العمق تجري عليها بعض المشاهد، وسلم، ومجموعة ملابس معلقة، ومنضدتان صغيرتان تعبران عن محل عمل كل من أنطونيو وشيلوك، يتم ضمهما معاً في مشهد المحاكمة ليصبحا منصة قضاء. كل ما هو موجود على الخشبة جاء في إطار تعبيري ومحسوب بدقة، فلا شيء مجانياً يثقل على العرض أو يعوق حركة الممثلين، التي هي أبرز عناصر العرض وأحقها بالاهتمام.
يضم العرض كثيراً من عناصر التجريب، سواء على مستوى النص، أو الرؤية الإخراجية، أو أداء الممثلين، لكن تبقى مشكلته الوحيدة في نوعيته، تلك النوعية المتمثلة في فكرة "المايم" وعدم اعتياد الجمهور على مشاهدة عرض "مايم" يمتد إلى أكثر من ساعة. وكذلك في اختيار النص الذي قد لا يكون معروفاً بالنسبة إلى الجمهور العام، مما يصعب الأمر على هذا الجمهور، ويدفع الممثلين إلى الإكثار من الهزل، رغبة في اجتذاب هذا الجمهور وإبقائه في مقاعده، لكن ذلك لا يعني توقف المخرج عن تقديم مثل هذه العروض، فهو يعلم أنه يجرب، أي يغامر، وهو هنا يجرب عن خبرة، لا عن فراغ، كما أفصح عرضه. والتجريب في المسرح وغيره من الفنون الأدائية أو الكتابية يحتاج إلى مقدار من الصبر والمثابرة، وما دام صادراً عن وعي وخبرة واحتياج فهو قادر على اكتساب أرض جديدة كل يوم.
_______________________
المصدر : independentarabia
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق