مجلة الفنون المسرحية
من الفلسفة الى المسرح يواصل فلاح شاكر دياليكتيكا المسرح ، محمولا بهمّ السؤال عن الانسان.. رافعا شهقة : "خوفي أن يموت المسرح"؟
حاورته: د. فوزية ضيف الله
فلاح شاكر، كاتب ومخرج مسرحي وتلفزي عراقي قدير، من روّاد المسرح في العالم العربي ومن أهمّ وجوهه. كتب العديد من الأعمال المسرحية والتلفزية. كان ظهوره ككاتب مسرحي مفاجأة كبيرة. تحصّل سنة 1987 على جائزة أفضل مؤلف شاب للموسم المسرحي عن مسرحيتيه "ليلة من ألف ليلة وليلة"، و"ألف رحلة ورحلة". قرطاج الى حبيبته الأولى، زارها سنة 1991، وتُوّجت مسرحيته "قصة حب" معاصرة" بجائزة أفضل نص في مهرجان قرطاج الدولي. وسنة 1995 فازت مائة عام من المحبة" بجائزة أفضل نص في قرطاج، وسنة 1999 فازت "الجنة تفتح أبوابها متأخرة" بجائزة الابداع الكبرى في المهرجان نفسه.
أعادته أيام قرطاج المسرحية في دورة 2022 الى حبيبته الأولى قرطاج كما يقول، بصفته عضوا في لجنة التحكيم الدولية.
أستاذ شاكر فلاح مرحبا بك في ضيافة الشارع المغاربي:
سيكون حوارنا على طريقة الجدل الأفلاطوني، ووفق الثنائيات والثلاثيات الفلسفية المربكة التي عنونت بها نصوصك .
أنا ممنون، وسعيد جدا بوجودي في تونس بعد غياب طويل، تونس الرائعة، تونس التي يستحيل أن أراها كبلد محجب، تونس جميلة، ولا أقصد النساء، هي جميلة كبلد، ممكن لبعض المدن أن تتحجّب، لكن تونس مهد المرئية دوما ولا تتحجب. أنا سعيد جدا أن آتي لتونس وأجدها غير متغيرة رغم قسوة ما حصل. أسئلتك رائعة جدا ونادرا ما أُسأل هكذا. المعلم الأول لي، ليس المسرح وإنّما أفلاطون. فقد كانت محاورات أفلاطون درسا هائلا لي، وأول كتاب نشرته كان محاورة فلسفية اسمها "مملكة الاختراع"، وانعكس ذلك في نصوصي كلّها في ثنائياتها، وفي ثلاثياتها. لأن افلاطون أسّس أسس الانتقال بالحوار، فلا نحس بأية قفزة لأنه حوار فلسفي، فأنت تحولينه الى شحنة عاطفية، تخرجينه من الفلسفة، فيبقى المنطق العاطفي الموازي للمنطق الفلسفي، وهذه عملية صعبة، حتى يبقى نفس النفيس. لذلك تميزت كفلاح شاكر، ويُقال أنّي متميّز في حواراتي، ومسرحه في أغلبه حوارات على هذه الشاكلة.
الثنائية الأولى: الفلسفة والمسرح؟
لحسن حظي، لم يحملني القبول المركزي للمسرح، ولكن حملني القبول الثاني نحو الفلسفة. وكان ذلك من أحلى الأخطاء التي قامت بها الدولة. تعلمنا الفلسفة كيف نفكّر، ويعلمنا المسرح كيفية التقديم. وبالتالي، فالعلاقة وثيقة جدا بين الفلسفة والمسرح. ربّما أكون كاتبا متميزا نتيجة تكويني الفلسفي. كانت أوّل بداياتي سنة 1988-1989، فقد قُدّمت لي ثلاث عروض في موسم واحد، فوجئت الفرقة القومية للتمثيل التي كان من الصعب اختراقها، بكاتب مجهول. وكان أستاذي سامي عبد الحميد رحمه الله، وكان عزيز خيون مخرج أيضا. فتساءل الجميع: من هذا المجهول الذي لا نعرفه في السابق. كنت مفاجأة بالنسبة لهم، نظرا لأنه لم تكن لي تجارب سابقة، ولكني أمارس الكتابة منذ زمان، فكانت لي الفرصة رأسا. ولم أحس أنه علي أن أتدرّج في المسرح، فكانت العروض الثلاثة في الموسم الواحدة أمرا مفاجئا. وقد تحصلت على جائزة أحسن مؤلّف شاب، فقامت التساؤلات واللغط: "من هذا الذي جاء فجأة؟" ولكن الفلسفة مهّدت كثيرا لكل هذا.
الثنائية الثانية: الشعر والمسرح ؟
إنّ فترة محمود درويش مؤثرة، وبالتالي فإن تأثّري بالشعراء أيضا كان أكثر من المسرح عدا شكسبير طبعا. كان تأثري بالرواية أكثر من المسرح. ولا أفشي سرّا إن قلت أني لا أحب مطالعة المسرح، فلا أقرأ الا القليل من المسرح. أتذكر هنا مقالا للصديق التونسي لطفي العربي السنوسي عنوانه "الشاعر الذي ظلّ طريقه الى المسرح". لقد بدأنا كلنا حقيقة بكتابة الشعر واشتغلت في مجال الشعر، لكن لم أنشر شعرا. لقد كانت بدايتي مسرحياّ وأبقى مسرحيّا.
ولكن يبدو أنك كاتب مشاعر ولست كاتب حكاية؟
صحيح، لست كاتب حكايات ولكن لست كاتب مشاعر. أنا عندي الحكاية هو أن أكون قد عرفت منذ أول صفحتين كل الصراع الموجود، سواء الصراع مع الداخل أو مع الخارج. يمكن القول أن للفلسفة دورا في أن أشدّ المتلقّي من الأوّل، فلا ينتظر حكاية، وإنما ينتظر ما سيحدث من جهة وما سيشدّه للحظة الآن، مثل اللغة وعذوبة الممثل. ولذلك فأنا أحذف الجمل غير الممتعة أثناء الاستماع للممثلين، رغم أنه يُقال أنني "دكتاتور". فإذا استمتع الممثل، فإن الجمهور سيستمتع أيضا. صحيح، أنا لست كاتب حكايات وإنّما كاتب رؤى فلسفية من خلال المشاعر الروحية.
أو ربّما أنت تكتب الحكاية وتلخصها في الموقف الذي يتبناه الممثل، وينصدم المتفرج من اللحظة الاولى؟
بالضبط، هذا هو. ويبقى المتفرج متابعا لجمالية أو لمشاعر الصراع الداخلي والخارجي الطاغيين على بنية الحكاية.
رُقيّ اللغة وعدم نخبوية الشخوص؟
نحن نحتاج للجمهور، ولكن لا اكتب لفئة محدّدة بل للناس بمختلف انتماءاتهم، أو لأجل عرض يدوم خمسة أيام ويمضي، فذلك ظلم لجهود دامت أكثر من ستة أشهر، ظلم للممثلين وللمخرج و ظلم لي أيضا فأنا أكتب نصّ كل أربع أو خمس سنوات. فالنص لا يُكتب كل أسبوعين أو كل شهر أو كل شهرين. فأولا ليس من المعقول أن أبقى كل هذا الوقت، لأجل عرض لمدة خمسة أيّام، وثانيا لا بد من استهداف الجمهور العادي، لذلك نستدعي أشخاصا دون تعيين من الأصدقاء والمقربين وغيرهم، أثناء فترة المشاهدات، لنرى إن أثّرنا عليه أم لا. فإن أثرنا فيه، فذلك أمر جيّد، فنستمر. لأنه دون الجمهور العادي لا وجود للمسرح، فما فائدة أن نقدّم مسرحا للنخبة. على سبيل المثال، وقياسا على عرض مسرحية "الجنة تفتح أبوابها متأخرة"، التي قدّمناها في مسرح الرشيدي، أمام 600 مشاهد ، وطيلة 35 يوم كان الحجز ينتهي قبل يومين، وهي التي تحصلت على جائزة قرطاج لسنة 1999 بالتانيت الذهبي، يعني أنها أرضت النخبة، أخذت جائزة أفضل عمل وأرضت الجمهور العادي، وهذا صعب جدّا.
اللغة، الدهشة والمتعة؟
كلها من المتعة، وينغي أن تتواجد كلها في المسرح.
فلاح شاكر والجدل (الدياليكتيك)؟
النص الفلسفي يؤكل مثل الأكل، ثم يتحوّل الى دم خاصّ، فصار من دم ولحم خاص بفلاح شاكر. يقول العرب للاشارة الى شاعر معيّن "يكتب البيت وابن عمّه" (يعني مشتت) بينما "الشاعر الجيد يكتب البيت وأخوه" (من الدم نفسه). يتحوّل أفلاطون عندي إلى نسيج البيت وأخيه، لهما الخلايا نفسها، فلا نحس بوجود أفلاطون. مثلا محمود درويش استعار أساطير كثيرة ولكن لا نحس أنه يستعمل الأسطورة كمثقف عكس بدر شاكر السيّاب الذي يستعمل ثقافته، ونحس أنه يستعرض ثقافته.
المرأة والحبّ والحرب:
هذه خماسية الحب والحرب، بدأتها سنة 1991 "بقصة حب معاصرة"، الجزء الرابع هو "الجنة تفتح أبوابها متأخرة"، ومن بينهم كانت "مائة عام من المحبة"، و"في أعالي الحب"، للأسف ضاع نص "صانع النكت" وسط الانتقالات المتكررة. هذه الخماسية، لخّصت فيها كل تاريخ العراق، مشاعر الناس، والحروب والحصار، في كل الأحوال بشرط أن يتحوّل ذلك الى همّ انساني غير محلي. أتذكر مثلا في قصة حب أننا كنا حديثي الخروج من حرب
الكويت، فكان الجمهور يتوقع أننا سنتحدث عن الحرب وعن أثرها وقالوا أنهم كانوا يتوقعون عملا صاخبا يدين الحرب والغاشمين، فيتفاجئ أننا نتحدّث عن الحب في وطنه، ولكن لم يكن ذلك بطريقة غير مباشرة، وإنّما هو "وجع همّه الرحيل"، وتلك كانت أول نبوءة لهجرة العراقيين، يعني أوّل عمل تناول هجرة العراقيين. كتبت "قصة حب معاصرة" تحت القصف، عندما كنت في البصرة في مختبر تصوير، كان معي اياد الحطاب يكتب مذكرات وكنت أكتب "قصة حب". كنا نتبادل القراءة لبعضنا البعض، وكان القصف قائما، فتجلت في عفويتها وفي صدقها.
الكتابة سلاحك، فكان النص المنفتح على التأويل خلاصا من الرقابة؟
جيّد، صحيح. وذلك أفادنا كثيرا. فنقول دوما أن ما عاشته العراق خدم المسرح العراقي وجعله يتقدّم.. لأنه جعلنا متقدّمين من خلال رؤانا لانفتاح القراءة. لم يكن لدينا انترنات، ولم نكن نسافر خارج العراق كثيرا، ولكن عملية التأويل جعلت الرقيب يَتُوه. فيتفاجئ المتلقي قبل ادراك القصد .فتقدم المسرح نتيجة للدكتاتورية، وليس نتيجة لقراءاتنا.
حكايتك مع ألف ليلة وليلة؟
الحلم الذي لا يتسع له العمر. المقالة الوحيدة التي كتبتها بجريدة "الجمهورية"و كان أملي أن أكتب مسرحيات بقدر ما عندي من حياة. كتبت 11 ألفية، عرضت على ما أعتقد أربع أو خمس منها، والباقي مسودّات تحتاج الى اعادة ترتيب حتى أنشرها. ولكن للأسف جاءت الحرب ودمّرت الألف وكلّه. لأنّ همّ الناس صار أكبر بكثير من الترف الفكري الذي نعتقده.
حكايتك مع قرطاج؟
قرطاج هي أوّل مدينة أزورها بحياتي، مرورا بعمّان الجميلة أيضا. فقرطاج هي الحبيبة الأولى، وعشت بها ترف جميل، وأنا خارج من حرب، نحو هذا الانفتاحعلى الجو الثقافي، يعني متعة هائلة، فظلت الحبيبة الأولى التي أحِنّ لها، جائزة "قصة حب معاصرة"، ثم "ألف عام من المحبة"، ثم "الجنة تفتح أبوابها متأخرة"، فقد تحصلت هذه المسرحيات الثلاثة على جوائز قرطاج.
أول دورة شاركت فيها لمهرجان قرطاج الدولي كانت سنة 1991، وفازت مسرحيتك "قصة حب معاصرة" بجائزة أفضل نص، جائزة أفضل ممثلة، الجائزة الخاصة بالمعهد الموسيقي التونسي، ومثلت تونس في المهرجان العالمي الجامعي. فكيف تُقيّم أيام قرطاج المسرحية منذ 1991 الى اليوم؟
نفس المشكل. نرى أعمال رائعة وأخرى بائسة، التنظيم جميل، ظلت النكهة كما هي، الجمهور التونسي رائع، من ميزته أنّه عنيد، لا يُجامل. فإذا لم يُعجبه العرض المسرحي
يُغادر، وإذا تأخّر العرض، يُصفّق حتى يبدأ. هذا الحماس الذي يتميز به الجمهور يُعطي شحنة لنا –كأعضاء لجنة التحكيم-كل هذا أحبه في تونس.
كتقني، كل العروض الجميلة. لكن المشكلة الأساسية تكمن في أن العروض التي تصل للناس، يغيب عنها العمق. لذلك نرى تواجد هاتين الفئتين. إمّا الإغراق في الفوقية والنخبوية، إمّا النزول الى التسطيح. فإرضاء الجمهور لا يعني أن أنزل لرغباته، ولكن أن أرتقي بذاته الجمالية. نحن نتربّى أوّل الأمر على الفنون في التلفزيون، المسرح ، وكلّ ذلك يُكوّن شخصيّتنا بالاضافة الى القراءة. لذلك فمن يكون فنّانا يستحيل أن يكون سارقا، ويستحيل أن يكون طائفيّا، لأنّ الفنّ انتماء للإنسانية.
المسرح العربي والمسرح العالمي:
لا يمكن للمسرح أن يصل للعالمية إلاّ إذا كان انطلق من الخصوصي والمحلي. أرى أن العروض الافريقية مثلا رغم بساطتها، لها طابع مخصوص ومحلي. لكن المسرح العربي، ظل على أغلبه، يكرر تجارب غربية. المسرح العربي للأسف دون هوية، ولذلك فهو لم يصل بعد للعالمية.
ماهي الأسماء التي تشدك أكثر في المسرح التونسي والعربي، كتابة وإخراجا؟
هذا سؤال صعب. وأنت تدركين أن ولادة الكاتب المسرحي صعبة. يفترض أن نحتفي كلما ولد كاتب مسرحي. لأنّه يمكن أن نجد مليون شاعر، مليون روائي، مليون رسّام. كل هذه أعداد هائلة . مثلا بالعراق عندنا 6 أو 7 كتّاب مسرح، والعدد مقارب في مصر، فالأسماء قليلة وكثيرة في الوقت نفسه، لأني أنا غائب منذ فترة طويلة خارج الوطن العربي. فالأكيد أنه ظهرت أجيال، لم أحضر عروضها للأسف. لكن أخاف أن يموت المسرح. أنا قلق جدّا على المسرح. لأنّه مع العولمة ووسائل الاتصال الاجتماعي، يمكن لأي انسان أن تكون له قناة، فصار المتلقي باحثا عن السهل. ولا يأتي ليَسمعنا ولو لمدة ربع ساعة. فيكتفي بسماع أغنية لمدة لا تتجاوز ثلاث أو خمس دقائق. الشباب الآن في الواجهات السريعة. أما اذا نزل المسرح الى مستواهم، فلا يُسمّى مسرح، وهذه كارثة كبيرة. ولا بدّ أن يصير نشر الوعي بالمدارس. فالمسرح الجيد يبدأ من المدرسة.
المسرح والتربية:
ليس ثمة في العراق مسرح مدرسي، رغم أن المتخرجين من المسرح بالآلاف، فهم يدرسون "المادة الفنية"، وهي التي تشمل الرسم وتفاصيله. أما المسرح المدرسي، فهو في دائرة، ليس منتشرا في كل العراق. إذا صار عندنا مسرح مدرسي يُمكن أن يُنقذنا.
في تونس عندنا مسرح مدرسي. انطلق النشاط المسرحي المدرسي مبكرًا في تونس تحت شعار "أعطني مسرحًا أعطيك شعبًا عظيمًا".
جيّد. لذلك فإن الجمهور التونسي ممتاز، فقد تربى على الطريقة السليمة. على يصفّق اذا أعجبه العرض، وإن لم يُعجبه يُغادر. المسرح حل من الحلول العظيمة.
حول نصّك "حتى ترضى" الذي شرعت في كتابته سنة 2003، وبعد انقطاع عن الكتابة دام قرابة 15 سنة؟
هذا النصّ مازال في طور التعديل منذ 2003، ومازلت لم أرضى بعد عن صيغته النهائية. وبالتوازي معه لي نص مسرح في طور الاعداد له، وسوف يُعرض قريبا وعنوانه "صناعة الأوهام".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق