تصنيفات مسرحية

الجمعة، 13 يناير 2023

إشكالية المثاقفة المسرحية بين الغرب والشرق

مجلة الفنون المسرحية 
إشكالية المثاقفة المسرحية بين الغرب والشرق

عواد علي _ صحيفة العرب 

افتتن العديد من المسرحيين في الغرب بجماليات المسرح في الشرق وأعرافه وطقوسه، إلى جانب اهتمامهم بملاحمه وأساطيره، وتكييفها في تجارب مسرحية، وفقا لرؤى مختلفة، منذ بداية القرن العشرين. وشكّلت هذه الموروثات مصدر إلهام لهم في تجديد تجاربهم على صعيد الأداء والإخراج والتأليف، ومن ثم في تنظيراتهم التي أنتجت تيارات واتجاهات مسرحية معروفة.
تُعدّ الزيارة التي قامت بها فرقة جزيرة بالي الإندونيسية إلى أوروبا عام 1931 فاتحة اكتشاف المسرحيين الغربيين لجماليات المسرح الشرقي وحرفياته وأساليبه المرتبطة بالتراث الروحي لشعوب الشرق وفنونها الأدائية والسمعية.

وقد وصف الناقد والباحث المسرحي المغربي خالد أمين، في كتابه الجديد “المسرح والهويات الهاربة: رقص على حدّ السيف”، رحلة الغرب، مسرحيّا، صوب الشرق بأنها شكل من أشكال “مسرح المثاقفة”، تدل على التفاعل بين ثقافات مختلفة في التأثير والتأثر.
نماذج بديلة

لاحظ أن المسرح الغربي حين بدأ يعيش حالة من “العقم”، كان عليه أن يفتح نوافذه على الشرق، في لقاء مثمر بينهما من أجل بناء حداثة مسرحية غربية، وحل مشاكل أضحت كامنة في تخوم التقاليد المسرحية الغربية، وخاصة مركزيتها المنكفئة على ذاتها سنين طويلة ضمن قوالب فنية تقليدية لم تعد تؤثر في جزء مهم من الجمهور.

وضرب أمين على ذلك أمثلة بتجارب الإيرلندي وليام باتلر ييتس، والفرنسي جاك كوبو، الذي ذهب إلى فضاءات “مسرح النّو” الياباني لاقتراح دراماتورجيا جديدة، والإنجليزي جوردون كريك الذي استخدم الأقنعة الأفريقية، والنمساوي/الأميركي ماكس راينهارت الذي استلهم بعض تقاليد “مسرح الكابوكي” الياباني، في محاولته لإعادة النظر في الترتيب المسرحي البرجوازي قبل تلميذه الألماني برتولد بريشت الذي تأثر، أيضا، بجماليات الأداء الشرقية.
في محاولتها إبراز العلاقة بين الثقافة والمسرح، سبق أن فحصت الناقدة المسرحية الكندية سوزان بينيت نظرة الغرب إلى المسرح الخاص بالثقافات المغايرة، بل وافتتانه به، وبحثت في تطلّع كل من برتولد بريشت وأنتونين آرتو إلى الشرق بحثا عن نماذج بديلة لأنماط الممارسة المسرحية الغربية، مبينة أن استخدام الطقس في المسرح غير الغربي (أي الشرقي تحديدا) كان له تأثير هائل على ممارسات المسرح التجريبي في الغرب.

وبالرغم من أن العروض الطقسية برزت وتطوّرت خارج المحضن الثقافي الغربي، فقد اجتذبت، بشكل واضح، جمهوره. وتستشهد بينيت  لتوكيد ذلك بفقرة من مقال لبارت بعنوان “كيف تقضي أسبوعا في باريس” يقول فيها “لقد فتنت أيما افتتان بمسرح بونراكو للعرائس، إن الشعوب الأخرى، بوصفها الآخر المغاير، تستثير اهتمامي، ذلك لأن هذه العرائس تنتمي إلى سياق آخر ومكان آخر. ولهذا السبب وحده فإنها تثير فضولي، وتغذّيه“.

وتضيف بينيت أن ما يثير الاهتمام بهذا المسرح هو غيريّته بالنسبة للجمهور الغربي، واختلافه عمّا ألفوه، وأيضا عدم القدرة على فهمه في إطار عمليات التلقي التقليدي، إذ أن هذا الجمهور يعتمد تقليديا، كما لاحظ أيوجين باربا صاحب أنثروبولوجيا المسرح، على الكلمة، بوصفها الوسيط الوحيد الذي يمكن من خلاله تحديد معنى العرض، وهذا يفسّر، كما يقول باربا، اعتقاد المتفرج الغربي العادي بعدم قدرته على الفهم الكامل للعروض التي تتأسّس على تداخل أفعال متزامنة، ومن ثم فهو يجد صعوبة في استيعاب المنطق الذي تقوم عليه الكثير من الأنماط المسرحية الشرقية. ويعترف باربا، على العكس من بينيت، بافتتان الغرب بالمسرح الشرقي، وممّا هو شائع أيضا أن الغرب، بسبب ردة فعل تلقائية لهيمنة ثقافته، يتجاهل المسرح الشرقي، ويسوّغ تجاهله كما لو أنه يتعلق بتجارب ليست لها علاقة مباشرة به، فهي من الغرابة بحيث لا يمكن الإفادة منها، والتعرّف إليها.

وينعت باربا هذا الموقف بأنه “نظرة منحرفة هي نفسها التي تدفع إلى جعلها وكأنها شيء مثالي، ومن ثم إلى أدلجتها وتسطيحها وجعلها أحادية الجانب، أو مراقد للعبادة”.

لكنني أختلف، إلى حد ما، مع باربا في صياغة رؤيته لموقف الغرب من المسرح الشرقي، أو لعلاقته بـه، فالتجارب الكثيرة لما يعرف بـ”المسرح الطقسي” في الغرب، أو تلك التي تبنّت شكل الطقس، أو التي استعارت بعض عناصره، كما في بعض تجارب المخرج البولوني تاديوز كانتور، وغروتوفسكي، وبيتر بروك، ومايرهولد، وأورليان لونييه بو (مخرج سويسري)، وبريشت، وباربا نفسه، قد كان المسرح الشرقي مصدرا أساسيا لجمالياتها واستلهاماتها.
لكن إفادة المسرح الغربي من الجانب الجوهري في المسرح الشرقي، أو من طقوسه، والرؤية التي استند إليها في استلهاماته منها، أمران يمنحان باربا بعض الحق في وصفه لنظرة الغرب إلى المسرح الشرقي بأنها “نظرة منحرفة”.

إن الجمهور الغربي لا يستطيع، حسب بينيت، تقبل المسرح غير الغربي إلاّ إذا قُدّم له في سياق مسرحي غربي يقوم على الفضاء المسرحي التقليدي، والحدود المكانية الفاصلة بين الجمهور والخشبة، ومواضعات الإضاءة، وغيرها من العناصر.

وترى أن ذلك يدلّ على أهمية المؤسسة المسرحية في عملية فهم الجمهور واستيعابه للمسرح، ويؤكّد أهمية العناصر الحركية المرئية للعرض المسرحي، ويشير إلى ضرورة تقليل الاهتمام بالنص الدرامي.

لكن بينيت تهمل أسبابا أساسية أخرى لذلك تتصل بطبيعة الثقافة الغربية المتمركزة حول ذاتها، أو أنموذجها المشبع بأيديولوجيا التفوّق الثقافي التي تتمظهر في أنماط عديدة من المواقف والممارسات والتعبيرات النرجسية.

إذا كانت هذه حال الجمهور الغربي مع المسرح الآخر غير الغربي، فإن الفرق المسرحية الغربية، حينما تسعى إلى إنتاج العروض المسرحية النابعة من ثقافة مغايرة، وتقديمها، بعد تطعيمها بدوال وشفرات ثقافية غربية، تنتهي حتما إلى خلق منتج ثقافي مختلف.

وقد يؤدّي تغريب تلك العروض (نسبة إلى الغرب لا إلى مفهوم بريشت) إلى إيجاد نمط مسرحي بمقدور الجمهور الغربي فهمه، لكنه سيفضي، أيضا، إلى تقديم دلالات غريبة على جمهور الثقافة الأصلية، الذي تعود إليه مادة العرض، كما يستعصي على فهمه.
فضاء ذكوري
تضرب بينيت مثلا على ذلك بتجربة للمخرج الأميركي فيكتور تيرنر، في سعيه إلى صياغة الطقوس الخاصة بقرية اسمها “نديمبو” صياغة مسرحية، بالاشتراك مع فرقة ريتشارد ششنر. فالمعروف أن السياق الاجتماعي لثقافة هذه القرية هو سياق أمومي، ولكي يتمكّن الممثلون من إيصال هذا السياق مسرحيا قاموا بعمل بروفات تقوم على فن الباليه اعتمدت على وجود إطار عام قدّمته الممثلات بأجسادهنّ، وفي داخل هذا الإطار كان يُقدّم الفعل الدرامي (والسياسي) الذكوري، في حين أن الفكرة كانت تهدف إلى إظهار أن الفعل الدرامي يجري من خلال فضاء اجتماعي أمومي.

ويعلق تيرنر على ذلك قائلا “لم تؤت هذه الطريقة، إلى حد ما، أثرها لأنها انطوت على توجّه سياسي معاصر أفقد العملية الاجتماعية الثقافية الخاصة بقرية نديمبو طبيعتها المميزة. إن التوجه النسوي الخاص بمسرحة معطيات الإثنوغرافيا يقوم على مفاهيم أيديولوجية حديثة لا تمت بصلة إلى السياق الثقافي لقرية مثل قرية نديمبو”.
أخلاقيات العرض  
في هذا الصدد، أيضا، تشير بينيت إلى محاولات بيتر بروك في الكشف عن العديد من المشكلات الخاصة بالعروض التي تقوم على التقاء الثقافات وتمازجها، وكذلك إلى تجربة غروتوفسكي الذي سعى مسرحه، المسمى بمسرح الأصول والدراما الموضوعية، إلى إيجاد أواصر للتعاقب مع علماء الأنثروبولوجيا، والاجتماع، والسلوكيين، وغيرهم، بهدف جعل الممارسات الطقوسية ذات منحى موضوعي.

إذا كانت بينيت ترى أن استثمار هؤلاء المسرحيين الغربيين لما تسميه بالممارسات الطقوسية يشكل نوعا من التقاء الثقافات وتمازجها، أو أنه يهدف إلى جعلها ذات منحى موضوعي، فإن ثمة رؤية نقدية شرقية مغايرة تماما لرؤيتها تتمثل في طروحات الناقد الهندي روستم بهاروشا، من خلال تفكيكه لأعمال هؤلاء المسرحيين المستندة إلى التراث الشرقي، وتركيزه على ما يسميه بـ”أخلاقيات العرض” التي تكمن وراء أي تبادل ثقافي، والعلاقات الاجتماعية التي تؤسّسه، فهو يرى أن الاتجاه السائد في إنتاج تلك الأعمال يفصل بين التاريخ الشرقي والحضارة الشرقية بأساليب تخفي تحت قشرتها الخارجية نزعات مركزية غربية، واستشراقية براغماتية.

ومن بين الأمثلة على ذلك، حسب بهاروشا، إنتاج بيتر بروك لملحمة “المهابهاراتا” الهندية الشهيرة، فقد وصم الثقافة الهندية بالتفاهة في عرضه للأساطير والملاحم، وخفّض من قيمة الفلسفة الهندوسية بطرح ملاحظات معروفة سلفا، تعتمد على بناء أوروبي مركزي للأحداث وللتمثيل صمّم خصيصا للجماهير العالمية.

ورأى بهاروشا أن بروك تعامل مع هذه الملحمة الروحية بطريقة حولتها إلى حلل وأثاث، وقام بتجريدها من تاريخها حتى يمكنه بيعها لجمهوره في الغرب، في حين أنها، بالنسبة للشعب الهندي، تُعدّ المصدر الجوهري للمعرفة في تراثه الأدبي، ففيها الرقص، والرسم، والنحت، واللاهوت، والدين، وفن الحكم، وعلم الاجتماع، والاقتصاد. وباختصار إنها تاريخه بكل غزارته وتفاصيله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق