المسرح الاحتجاجي للمؤلف والمخرج العراقي ماجد درندش: البحث عن الأبطال المهمشين في الحياة
مروان ياسين الدليمي
المسرح في العراق لا يعني شيئا مهما للأغلبية من الشعب، وهنا يطرح سؤال جوهري: ما الذي يمكن للمسرحي أن يُقدِّم من مغامرة فنية، حتى يستطيع أن يمنح الثقة للعرض المسرحي، فيتمكن من كسب مساحة واسعة من المتلقين، من غير النخبة التي اعتادت أن تشاهد العروض؟ نرى أن هذا السؤال بقي ملازما لمعظم العاملين في المسرح العراقي، منذ أن بدأت الظاهرة المسرحية تتشكل محليا مع مطلع ثلاثينات القرن الماضي، والمتابع لتاريخ الحركة المسرحية يدرك جيدا أن في هذه المسيرة كانت هناك محاولات اصطبغت بمختلف الأساليب والمناهج الفنية، باعتبارها إجابات متنوعة على هذا السؤال، بعضها أخفقت في إيجاد صلة وثيقة مع المتلقي، وأخرى تمكنت من استكشاف مناطق فنية حققت قدرا لا بأس به من الاهتمام الجماهيري، ربما لأنها واظبت على أن تكون بعيدة عن المنفعة المادية، مقابل حرصها على أن تميل بخطابها إلى اتخاذ مسار ايديولوجي يساري يلتقي مع ما يؤمن به أعضاء الفرقة من أفكار تنسجم مع موقفهم المضاد للنظام السياسي، كما هو الحال مع عروض فرقة مسرح اليوم، وفرقة المسرح الشعبي، وفرقة الفن الحديث، وكان ذلك خلال ستينات وسبعينات وثمانينات وتسعينات القرن الماضي، ثم أسدل الستار على عروض هذه الفرق بعد العام 2003 بعد أن فشلت في أن تضخ دماء جديدة بدلا عن عناصرها التي غادرت العراق أو فارقت الحياة أو توقفت عن العمل، هذا إضافة إلى أسباب أخرى، في مقدمتها عجز هذه الفرق عن استيعاب التحولات التي شهدها العراق، وعدم قدرتها على استشعار ما ينبغي تقديمه من عروض تستطيع أن تستقطب المتلقي.
المسرح اليوم في العراق اختلف كثيرا عن الأمس، والفاصل بينهما ما حدث من تغيير بعد العام 2003 إثر سقوط بغداد تحت الاحتلال، فقد غابت عنه النصوص الأجنبية وحلت بدلا عنها نصوص محلية، وهذه علامة فارقة، تعني دلالاتها، أن هناك نضجا في الوعي قد حلِّ في عقول وخبرة العاملين في المسرح، ابتعدوا بموجبه عن الاندهاش أمام النص الأجنبي الذي كان يشكل خيارا أوليا لدى معظم المخرجين، ويعني أيضا أن هذا التحول يشير إلى بروز الاستعداد لديهم للاقتراب والتلاحم مع الحياة والواقع المعاش، وردم الهوة القائمة بين المسرح والجمهور، وبطبيعة الحال قد ساعد على ذلك، مناخ الحرية الذي ارتفع سقفه بشكل ملموس خلال العقدين الماضيين رغم فساد النظام السياسي.
انزياح عن القانون الارسطي
تجربة ماجد درندش في مسرح الاحتجاج الذي أطلقه بعد منتصف العام 2014 من أبرز التجارب وأهمها، باعتبارها إجابة على السؤال الذي أشرنا إليه في المقدمة، ولم تكن خطوة درندش في إعلان مسرح الاحتجاج مبنية على رغبة ذاتية في أن يكون له حضوره المميز عن بقية العاملين، بقدر ما كانت استجابة واعية لما شهدته البلاد من حدث كارثي نتيجته كانت أن أصبح آلاف العراقيين نازحين عن بيوتهم ومدنهم بعد أن سقطت ثلث مساحة العراق تحت سلطة تنظيم داعش الإرهابي، وهنا يوضح رؤيته للنص في ما يدعو إليه اصطلاحا بمسرح الاحتجاج: «نزح النص عن القانون الأرسطي ليكون في محاكاته جزءاً لا يتجزأ من الإنسان النازح ومعاناته». ثم يضيف إن «النص النازح هو نص أحادي الصراع احتفظ بعنصر الجمال وأزاح عنصر الشر من الورق، ليبقى طاهراً ومحتجاً على وجوده في فضاء العرض كي لا يدنس المكان».
الاشتباك مع الواقع
لم يكتف درندش في إطلاق مفهوم مسرح الاحتجاج في إطار تنظيري يسبق التجربة، بل عبر عنه في نصِّه الأول الذي تولى إخراجه للفرقة الوطنية للتمثيل التابعة لوزارة الثقافة العراقية، وحمل عنوان «ثمانية شهود من بلادي» فكان ذلك تجسيدا فنيا للمسرح الاحتجاجي. ومن الواضح أن درندش الذي اضطر إلى الخروج من العراق في تسعينات القرن الماضي احتجاجا على الأوضاع التي كانت تعيشها بلاده لم تخمد في داخله جذوة الاحتجاج حتى بعد أن زالت الظروف التي أرغمته على الخروج، وهذا ما يتضح في سيرته الذاتية المسرحية عندما عاد إلى وطنه، حيث قرر أن لا يكتفي بممارسة حياته وحريته كفنان في تقديم عروض يتحرك خطابها في إطار شكلاني وموضوعات غير ملموسة أو مفهومة بالنسبة للمتلقي، بل عمد إلى أن يتوغل في الظرف الصعب الذي بات يعيشه العراقي، بعد أن تمدد الإرهاب في شتى صور الحياة، ومثلما حاول أن يستعيد حياته الشخصية التي افتقدها في غربته، حاول أن يؤسس مشروعه الفني منطلقا من فكرة الاحتجاج الفطرية التي تسكن ذاته كفنان، فالتمرد لديه بمعناه الفني لا ينفصل عن معناه الإنساني الواقعي، وما يزال ينهل منه قوة حضوره، فهو ليس من فصيلة دون كيخوته حتى يواجه العالم الواقعي الموضوعي بعالم وهمي، بل سعى إلى مواجهة ومعانقة العالم الواقعي لأجل أن يحدث فيه تغييرا، فكان سقوط مدينة الموصل في العاشر من شهر حزيران (يونيو) 2014 تحت سلطة تنظيم داعش، الحافز الذي وفَّر له مبررا واقعيا حتى يتعارض مع الواقع ويفرض عليه خطابه الفني الاحتجاجي، بمعنى أنه لم يلجأ إلى حياة الأحلام والتخيلات في كتابة نصوصه المسرحية، إنما لجأ إلى التواصل مع الواقع، فالتقى بشكل مباشر بنساء ورجال كانوا جزءا من الحدث التاريخي، وأعاد صياغة الحدث بالمخيلة، وهنا يتجلى تمرده وتفرده عن بقية المسرحيين في أنه وجد في اللعبة المسرحية، بكل ما تمتلكه من مساحة للتخييل قدرتها على أن تشتبك مع الحياة الواقعية.
ثلاثة محاور للمسرح الاحتجاجي
نحن أمام تجربة مسرحية أخذت تتكشف أمامنا بعد عرضه الأول «ثمانية شهود من بلادي» ليعقبه عمل حمل عنوان «أساطير من بلادي» وثالث بعنوان «بلاك بوكس» وبعد هذه العروض الثلاثة، توصل إلى قراءة تنظيرية لتجربته، متحررا من أطر وأنماط الأساليب السائدة في المسرح العراقي، وقد تجلى ذلك في طبيعة النص الذي كرَّس في بنيته الفنية خطابه الاحتجاجي، ومن هنا يرى درندش أن نصه المسرحي يتوزع على ثلاثة محاور: أولا النص الاحتجاجي النازح عن القانون الأرسطي، حيث يجد أن النص لا يمكن أن يبقى على ما هو عليه بعد كل هذه التحولات الخطيرة التي شهدها الواقع، لذا يؤكد على أن النص الاحتجاجي نزح عن القانون الأرسطي ليكون في محاكاته جزءاً لا يتجزأ من الإنسان النازح ومعاناته. والنص النازح كما يراه ما هو إلاَّ «نص أحادي الصراع احتفظ بعنصر الجمال وأزاح عنصر الشر من الورق ليبقى طاهراً ومحتجاً على وجوده في فضاء العرض كي لا يدنس المكان».
ثانياً نص الميكانو، وهذا «يمنح للمخرج صلاحية أن ينثر المَشاهد على طاولة القراءة كقطعِ لعبة الميكانو، ثم يختار المَشاهد التي تتفق مع رؤيته الإخراجية ويترك باقي المَشاهد ليأتي مخرج آخر يتناولها ويصنع منها عرضاً مسرحياً آخر، كذلك يسمح للمخرج أن يغمض عينيه ويختار مَشاهد أخرى لا على التعيين ويسلسلها بدون تفكير، ليحصل أيضاً على نص يستطيع من خلاله أن يبني عرضاً مسرحياً وفق المعايير الفنية والجمالية». ويضيف درندش إن «نص الميكانو يمنح الحرية للمخرج بوضع تسلسل جديداً للمشاهد، مغايراً لنص المؤلف، مثلا: المَشهد الرابع يصبح الأول لدى المخرج، والأول يصبح الثاني، والثاني يصبح المَشهد الأخير، وهكذا، ويمكن للمخرج الواحد أن يقدم عرضين أو ثلاثة عروض متتالية مع تغيير في تسلسل وترتيب المَشاهد في كل عرض، ففي كل عرض يمكن أن نشاهد بداية مختلفة ووسط مختلف وثلاث نهايات مختلفة بنفس المَشاهد التي أختارها المخرج من نص الميكانو، وبنفس المنظومة الجمالية والأدائية». ويستطرد لتوضيح فكرته أن «نص الميكانو من الممكن أن يقدم للمُشاهد من خلال مخرجَين، الأول يختار المَشاهد التي يريد إخراجها والثاني كذلك، ثم يتم دمج الرؤيتين لتقديم عرض واحد من نص واحد بمخرجين إثنين».
ثالثاً نص البانودراما، إذ «يحاكي هذا النص أكثر من حكاية، مستقلة عن الأخرى، ثم تلتقي الحكايات في المشهد الأخير، حيث لحظة المصير وكشف الحقيقة أو لحظة التساؤلات الكونية والاحتجاج».
ما جدوى المسرح؟
راهن درندش في مسرحه الاحتجاجي على أن ينحاز إلى صف الأبطال المهمشين الذين واجهوا الموت من أجل أن يعيش من بعدهم الآخرون، فكان مسرحه نشاطا فعالا لبعث الحياة مرة أخرى في هذه الحيوات التي غيبها النسيان في ظل الموت المجاني الذي استباح العراقيين بشكل جنوني. فما كان منه إلاَّ أن يغذي احتجاجه المسرحي من فرادة المواقف التي اتخذها المهمشون، وعلى الرغم من أن هوية المسرح الاحتجاجي الذي أطلقه قد انضبط في إطار تنظيري بعد سلسلة من العروض التي قدمها في عدد من المدن العراقية، إلاّ أنه ما يزال يقرأ تجربته ويحاول إنضاجها فنيا، طالما ينظر إلى الواقع باعتباره منجما يزخر بممكنات تتفوق على مخيلة الفنان الجامحة، ومن هنا تتضح حماسته في الاقتراب من الواقع المعاش والإصغاء لقصص وحكايات الأبطال المهمشين في الحياة.
ولعل أبرز ما تكرسه تجربته في أنه يحاول أن يدفع بعرضه المسرحي إلى أن يكون قادرا على تحقيق المتعة عبر الاتكاء على السخرية المعبأة في خطابه الاحتجاجي، لأن جوهر اهتمامه هو استقطاب أكبر عدد من المتلقين الذين ينتمون إلى الهامش، فلا حياة لما ينشده من نموذج مسرحي يتبناه بعيدا عنهم. والسؤال الذي يلح عليه دائما: ما جدوى المسرح إن لم يكن غايته إنصاف الانسان المهمَّش؟ ولأجل تحقيق هذه القصدية كان عليه أن يبتكر تجربته من الحياة المعاشة، وأن تصبح الينبوع الذي يرتوي منه مسرحه، فلا غرابة أن تحتشد في عروضه شخصيات غريبة في مواقفها الإنسانية لا يمكن العثور عليها إلا خلف سطور الحياة الخفية والمستترة في هامش حياة.
---------------------------------
المصدر : القدس العربي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق