العرب – حنان مبروك
يعد المخرج العراقي مهند هادي أحد أهم المسرحيين الشباب في المهجر الذين يحاولون العودة إلى وطنهم في كل مرة محمّلين بنصوص مسرحية واشتغال مختلف يمنحهم مساحات حرة للتجربة ونقد الواقع ومواصلة التزامهم بالانتصار للفرد العراقي.
بعد غياب سبع سنوات عن بلده، عاد المخرج المسرحي مهند هادي إلى العراق محملا بنصّ ذي روح فرنسية، يعالج مسألة التطرف الفكري، كتبه هادي في العام 2020، أحلك الفترات التي عاشها الإنسان في الألفية الثانية وأشدها قسوة على روحه، فترة عزلته عن العالم فدفعته لإعادة النظر والتساؤل في كل أفكاره وقناعاته وتوجهاته.
لكن هادي بمجرد عودته للعراق، رأى أن لا مفر من إعادة النظر في نصه المسرحي وإضفاء هوية عراقية عليه، تنطلق من تأثير التطرف الفكري على البنية الاجتماعية في البلد، الذي قد يتوارث فيه الفرد أفكاره أبا عن جد دون أي نزعة للتمرد. فكتب حكاية “أمل”، امرأة يسارية الفكر يقنعها ولدها بالسفر خارج العراق، ليتركها وينضم للجماعات الإرهابية، وحينها تدخل في دوامة من الأسئلة والذكريات والأحلام والمواجهات الصعبة مع نفسها والآخرين.
وتحمل المسرحية التي ألفها وأخرجها هادي عنوان “خلاف” وهي من تمثيل هيثم عبدالرزاق، سهى سالم، مرتضى حبيب، حسين أمير، علي صباح، رسول زيد، أسامة خضر، وإضاءة محمد رحيم، وديكور محمد النقاش، وإدارة مسرحية علي عادل السعيدي. وشارك بالمسرحية في الدورة الثالثة عشرة لمهرجان المسرح العربي المقامة في المغرب، بعد أن قدمها سابقا على خشبة مسرح الرشيد في بغداد.
حمل العمل المسرحي عنوان “خلاف” فكان تعبيرا دقيقا عن محتواه، ويؤكد أن النص المسرحي سيقوم على “خلاف” لا على “اختلاف” باعتباره فعلا يراد به الحوار والنقاش والمحاججة وتقبل الرأي الآخر دون صراع أو تصادم، فهو خلاف لا يترك للآخر مجال النقاش والتحليل والحوار، جسده كل أقطاب المسرحية، بدءا من أمل بطلة العمل، وخلافها مع والدها، ثم زوجها، ثم مع ابنها كاميلو، وصولا إلى خلافها مع المحقق الذي ترفض تصديق تحرياته، ورفضها للواقع العراقي بأكمله، ورفضها تقبله بالصورة التي لا تلبي تطلعاتها وأفكارها وانتماءاتها السياسية والأيديولوجية.
ويقارب العرض المسرحي التطرف الفكري الذي يعصف بحياة أمل، التي قالت لأفكار أبيها “سمعا وطاعة” فجعل منها امرأة عراقية يسارية الفكر والانتماء، تطيح التوجهات المتطرفة لابنها الوحيد كاميلو بعوالمها التي راهنت فيها على فكرها التقدمي، غافلة عن أن جيلا كاملا من الشباب امتلك جرأة الثورة على الموروث والسلطة الأبوية، وصار بإمكانه اختيار معتقداته بعيدا عن سطوة العائلة، جيل فتحت أمامه التكنولوجيا الأبواب والأفكار المغلقة حتى وإن كانت أكثر ظلامية وتشددا وتطرفا كتلك التي تروجها التنظيمات الجهادية. التكنولوجيا التي تحضر في العمل المسرحي بصفتها قاتلة للرمز، مدمرة لكل القيم والمثل العليا التي كان ترويجها في الماضي يخضع لأنظمة مختلفة.
وتتحرك أمل في فضاء العرض، متمثلة رموز اليسار في حركاتهم وسكناتهم وحتى قبعاتهم وأناشيدهم الثورية وشخصياتهم العنيفة وسريعة الثوران، الأمر الذي سجنها فلم تعد قادرة على تبني أفكار مغايرة، وبدا التطرف من خلال تقنية السرد (الراوي) المتبعة متجذرا في حياتها التي ظلت خلالها تابعة لسلطة الأب ثم الزوج وأرادت أن تورث تبعيتها لابنها الذي كان في البداية تلميذا مطيعا ثم سرعان أن ثار بحثا عن فضاء مغاير لا يكون فيه تابعا بل “فاعلا” ينظر للواقع بمفاهيم الواقع والحياة في الحاضر، ومنطق الربح والخسارة والقوي والضعيف والجنة والنار.
والهروب من “تطرف” اليسار رمى بكاميلو في “تطرف” اليمين فصار هو الآخر تابعا للخطاب الديني المتطرف، متعصبا للحور العين والجنة الموعودة، والتكفير والجهاد، وصارت أمل نسخة عن الكثير من العراقيات اللواتي خسرن أبناءهن بفعل تطرف فكري لا يرحم.
لكن اختيار اسم أمل للشخصية المحورية قد يحيلنا إلى أن كل ما يحدث لا يمكن أن يلغي الأمل في الأفضل، فرغم كل المحن والصراعات المتعاقبة لا يزال هناك أمل في عراق يحيى فيه المرء حر الفكر والتفكير دون توريث أو سلطة أبوية خانقة.
قال المخرج هادي في لقاء صحفي نظم على هامش عرض المسرحية في المغرب “كتبت النص بفرنسا سنة 2020 عن قصة حقيقية لامرأة فرنسية، لكن بعد العودة للاشتغال في العراق بعد انقطاع سبع سنوات حاولت أن أجعل للنص تاريخا عراقيا”.
وتابع “بطلة العمل هي أمل المرأة العراقية اليسارية التي حاول كل الرجال الذين كانوا في حياتها أن تكون شبيهة لهم، الأب الذي مسخ شخصيتها ورغب أن تصبح نسخة منه، الزوج الذي خذلها.. الابن الذي خذلها أيضا. أمل المرأة اليسارية التي أطلقت على ابنها اسم كاميلو تيمنا باسم ابن الزعيم تشي غيفارا، لكنها تكتشف، في لحظة من اللحظات، أن بيتها قد انتهى بسبب التوريث الفكري”.
ولم يختر المخرج جعل فضاء العرض نمطيا كلاسيكيا وإنما راوح بين المشاهد التمثيلية وتقنية السرد المتمثلة في صوت الراوي الذي أضفى بعدا جماليا على نسق العمل المسرحي وأنقذه في مرات كثيرة من الوقوع في الرتابة.
كذلك جاء ديكور العمل متحركا، يتحرك أحيانا ليعكس اضطراب الشخصيات وتغير الأزمنة والأمكنة وكذلك بتغير الشخوص وظهور مفاجئ لبعضها، فأصبح الممثل هنا عنصرا تقنيا يثري العمل المسرحي.
وحركة القطع المستمرة لديكور العمل بتشكيله وإعادة تشكيله، أضفت على العمل المزيد من “التطرف” وعمقت الشعور بالاضطراب والاهتزاز الذي تعاني منه أغلب الشخوص، وساهم انسجامها مع المؤثرات البصرية والضوئية في أن تكون من العناصر الأكثر تعبيرا وإتقانا داخل العمل المسرحي.
ولم يرتهن نص المسرحية لزمن محدد بل ينتقل بنا بين الحاضر والماضي، مرة بأداء الشخصيات وحكاياتها وحواراتها ومرة بأدائها الجسدي الذي تصاحبه تقنية السرد المتمثلة في صوت الراوي.
كما أضفى المخرج على علاقة البطلة بعض الكوميديا اللفظية، التي كسرت رتابة المواقف الدرامية، موظفا تقنية (الداتا شو) بحرفية عالية لتصوير أمكنة “رقمية” تظفي بعدا جماليا و”تقنيا” على العمل المسرحي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق