د. شاهيناز أبو ضيف ـ مصر
أتحدث في البدء للإشارة الصريحة في إستهلال النص بمساحة من الوصف إذ صهرتنا مرائر الرحلة، بدأ من السنوات الشحيحات حيث استخلصنا أن سلال الهم أوشكت على الإمتلاء، افتقدت صورة النص حضور الإستقرار النفسي وإنما احتلت طائفة من الأكدار منذ اعتلت صورة الأب جدران المنزل وخيَّمت بشبورة من الأحزان علي نفسية البطلة وخاصة بعد مرض الأم، وتعطل كامل للحياة والعيش وسط خواء وموات التوقف والفراغ ومغادرة الإمتلاء العائلي، وظلال الحياة الوحيدة تطل برأسها ، وهنا يكون الفشل والإحباط متعاركين في مخيلة البطلة، ففي النص المونودرامي (زيزف) كما لو أننا في نفس الاحداث نعيش المرض المفرق ونكتوي بالمغادرة القاسية، البطلة عانت وحيدة ألم (الزيزف) فارقتها الروح الداخلية العميقة، الساكنة في دقائق خلايا جسدها، وتلك حكمة الأمومة والبنوة، التي كرسها كل منهما عبر سنوات، إكتظت بفقدان الأب واجترارالأم للألم والمرارات، لا واحدة منهما تمتلك طاقة احتمال الغياب المفاجئ. الأم والبطلة وكيف كان الفقد مشروطا من الأم بلا صراخ ولا كرنفالات توشح بسواد الثياب، الشعائر الجنائزية مجرد استعادة تاريخ ومزاولة الناسكة العابدة (زيزف) بل ترديد مزيد من الدعوات واستجداء الرحمات فيقول الكاتب :
تلكَ مَلابسُ أمِّي السَودَاءْ
وَلَقَدْ أوْصَتنِي قبلَ صُعُودِ الرُوحِ بكُلِّ حبُورٍ وبَهَاءْ
قَالَتْ لِي (تتقمَّصُ شَخصِيَّةَ أُمِّهَا)
لا تتشِحِي يَا بنتِي بثيَابِ حِدَادٍ بلْ بثيَابٍ بَيضَاءْ
وَلْتَبْتَهلِي يَا دُرَّة قلبِي
في الصَلوَاتِ إلى رَبِّي
أنْ يَرحَمنِي .. أرجُوكِ ابتَهلِي فِي كُلِّ صَلاةْ
حب مستعاد مثل الحلم ممزوجا بآنات حارة كما أجاد المبدع عادل البطوسي في تطويق مشاعرنا بسور من الأحداث حتي لا نستطيع أن نفلت من خضم الأحزان وبالفعل لم نستطع الهرب من معايشة الأحداث والتي مرت بها الناسكة (زيزف) ومعني العنوان والأسم الناقة السريعة الخفيفة. وهي التي كانت بخفتها تشغل حيز من الحياة بحكم وظيفتها معالجة المرضي وتخفيف آلامهم وشجر حرجيّ أبيض الخشب طريُّه، له زهر أبيض لا يعقد ثمراً، يتخذ من زهره شراب معرِّق. وهي نفسها الأم وهي نفسها (رحيل السيدة الورد) (1) وهي (موناليزا الشرق) (2) نصوص مستقاة من الحقيقة ترجمها لنا الأديب عادل البطوسي بكلمات غامقة ناحبة تحمل لنا الكثير من الآهات المعطاءة في عفوية صادقة وحزينة، قد فاض وغمر أعماقنا، بوفاء البطلة لأمها، أحببناها وعشنا معها معاناتها المرضية، وتقطع قلبنا حين أمسكت البطلة بثدي أمها وهي تخاطبه في حوارابتلعنا فيه دموعنا :
ـ سَلَّمنِي الجَرَّاحُ الثديَ لأدفنهُ بَعدَ اسْتئصَالِهِ ..
(تَتقمَّصُ شَخْصِيَّةَ الطَبِيبِ)
ـ هَذَا هوَ الثديُ المُستأصَلُ يَا بِنتِي فَخُذِيهِ إلى الدَفنِ بمَعرِفتكِ
بَدَلاً مِنْ أنْ يُلقَى لكِلابِ الشَارِعِ أَوْ يُحْرَقَ فِي مَحْرِقةِ المَشفَى
ـ من أين أتته القوة ليسجل لنا هذا التعبير القاسي وقوله :
"والشريان تخثر يا بنتي .. ودمائي ما عادت تتدفق يا درة قلبي
لقد أجهد قلبنا بمزيد من وخزات الألم كلما مررنا ببيت يحمل لنا وصف من الآلام، بعد ان (إحتلت الأورام كل قلاع الكبد) وانتشر الورم (الوطواط والتنين والوحش) نلاحظ في دقة متناهية وصراحة واقعية كيف تثني للكاتب مخالفة الواقع الشعري والذي نعهده أنه يلمع مع الخيال والخروج عن الواقع الملموس ولكن إننا نري البطوسي يخلق نصه الشعري بالايقونولوجيات علي هيئة ترَاجِيدِيَا، تجسّد الصراع المشتبِك مع ذات ومع الآخَر، بلغةٍ بسيطة لا غموض فيها، ولا تعقيد، وهذا الملمح أحد سِمات هذا النص الإبداعي الذي تجلّت فيه ملامح أخرى مثل : توظيف تقنية المناجاة والحوار الخاص بالمونودراما بتموجات صوتية ولقطات قصيرة تنتمي إلى مشهدٍ واحد ولبطلَة واحدة في حالة درامية شعرية تَمَحْوَر محتواها على تماهٍ وتبنٍّ من المُتَكلِّم إلى المتُكلَّم عنها، كلام سِمَاته المراسيميّةُ والشّعائريّةُ من خلال عوالم حية متواجدة ملموسة، هذه العوالم تستظل بالكائنات الحية وتعانقها في عمومها ..
إن هذا النص الحي (زيزف) مرتكز على شعرية الأساطير الكونية التي كانت تلتحم بروح النص والذات الشاعرة في ماء نصي واحد هذا الماء الشعري الذي يكمن في خلايا وأنسجة الوحدات اللغوية الصرفية الصغيرة في أبدان المفردات العابرة من تفعيلة إلي تفعيلة، ومن ثمَّ فإن نصوص الأديب عادل البطوسي لها طابع شعري مائز، تتخذ من الواقعية محاكاة للحياة الكونية الشعرية طريقا للولوج إلي قلوب القارئين والسيطرة بعفوية مقننة علي عقولهم إلي حد التعلق بأبطال النصوص الخاصة به، هذه العوالم الشعرية تعتمد علي القراءة البصرية مدعومة بقراءة سيمائية تأويلية مغايرة، وقد تجلت هذه المغايرة في قوله وهو يسهب في شرح معنى الإسم زيزف :
زَيْزَفُ إسمٌ عذبٌ بمَعانيهِ
معناهُ الناسكةُ العابدةُ الأرضُ الطيِّبةُ
الجوهرةُ المطليةُ بالزئيق
الجوهرة المسبوكة بالياقوتِ النادرِ
ويستطرد : والزَيْزَفُ هنَّ النُوق، وَكم يتحمَّلنَ مَشاقَ الصَحراءْ
وَمِنْ مُشتقَّاتِ الإسمِ المحبُوبة عندَ اللهْ ..
ثم التطرق للتغلغل في النفس، وقدرته علي تسليط ومضات إبداعية من خلال صراع الأم مع المرض، والقدرة علي خلق الكلمات وتصوير حالة الوجع والغوص في عمق الظرف الموجع والعرق المتوقف عن النبض ،والثدي الحي، اليقظ، البض، رغم قنوط سكين الجراح، بث المؤلف خارق الابداع برسالة شعرية، إشتعلت فينا الأحزان بالكوامن باتصال تراجيدي يبكي الجوامد، فهو المتحدث عن لحظات حضور الموت ورائحة الماضي الأم الصامدة فيقول :
صَارَ الشَعرُ الفِضِّيُّ اللَّامِعُ وَالمُسترسِلُ
يَسَّاقطُ مِن رأسكِ يا أمِّي كَالبلُّلورْ
كَنَدَى الصُّبحِ ..كَنِدَفِ الثَّلجِ ..
أو الوَرقِ السَّاقِطِ مِن شَجرِ الكَافُورْ
ثم يتحول الشاعر عادل البطوسي ذو الحس المرهف، والمعقود علي حب أمه لدرجة أنه أرغم متابعيه وقرَّاءه علي محبتها بل وعشقها؛ دوام في رفق وبر علي التعبد بمحرابها، ويستدعيها دائما فهي الغائب الموجود وهو الإبن الحالم بالمفقود، في كل غياب وحضور:
يا أمي : إرحمي إبنك .. وارجعي ..!!
هو يريد أن تكون علي قيد الحياة مثلما يعرفها، وغالبا ما تطاردة ذكري الموت، فيعطل فكرته أنها علي قيد الحياة، في إقرار بالايمان بالله وحضور تام للنزعة الإيمانية حين يقدم لنا في إجلال وانقياد تام لإرادة الرب في قوله :
كَانَ بِودِّي أنْ أَحملهَا فَوقَ الجَبلِ السَامقِ
لِتُصلِّي للرَبِّ فتحيَا عُمرًا آخَرَ
لكِنَّ اللهَ هوَ القُدُوسُ الخَالِقُ وَبيَدهِ وَحدَهُ أزمِنَة الأعمَارْ
حيث هاجرت روحها الطاهرة تاركة بقايا طين وجسد يبحث عن سمو الخلود في عالم يشكل خيوطا ذهبية تتراقص وتتناغم مع كل فجر لذكراها إذ أن قرص الشمس يبدو خجلا مستحيا من ذلك الجسد الناسك الخامد،، ولعمري أن الكاتب قد استثمر قضية الحزن (الزيزفي) - وإن كان عن غير عمد - في تطويع كافة إمكاناته الأدبية والقابلة للتطور وابداعاته اللامتناهية إذ أنه تناول موضوع (الزيزف) بطرق شتي ، وتحت مسميات مختلفة ؛ولكن بمحاور لا تشبه بعضها، ولا سيما أن (زيزف) يندرج تحت نصوص المونودراما الشعرية بلغة تراجيدية مبكية بالإضافة إلي نجاح الحوار بالايفاء بغرض النص والحبكة الدرامية كما أنه أجاد نقل الشعور بالأحاسيس المختلفة للمتلقي بحركة ديناميكية غير راكدة في ذروة الصراع بين الإبنة البطلة مفتولة القلب والأم مقتولة الثدي وخاصة حركة الحوار حين تناجي ثدي أمها بكونه ذاك البض الحي، كيف جسره الجراح، إنها دراما الفعل المؤثر ويبرز في عمق مبكٍ قوة العلاقة بين الكاتب (والزيزف) ساعد علي خلو النص من الإبهام والإغتراب والإرهاصات متجاوزا كل ذلك إلي الحالة النمطية والتي اعتلتنا جميعا ...
كل التحية والتقدير للمبدع عادل البطوسى ولنصه المونودرامي الذي أجهدنا وأبكانا علي قدر الحروف المكتوب بها ورحم الله الأم "زيزف" وطيب ثراها ..
(1) عنوان ديوان الشاعر عادل البطوسى في رثاء أمه، والذي ربما يعد أول ديوان شعري كامل في رثاء الأم في تاريخ الشعرالعربي، بجانب ديوانه الآخر (وقالت لي) كنصوص نثرية على لسان امه الراحلة ..
(2) كتاب للكاتب عادل البطوسى عن أمه والأمهات جميعا في طبعة فاخرة بالألوان بأقلام كوكبة من المبدعين والمبدعات من 14 دولة عربية ومن بريطانيا وألمانيا وأستراليا وأقليم كردستان مع لوحات لوجه أمه لفنانين وفنانات من مختلف أقطار الوطن العربي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق