تصنيفات مسرحية

الاثنين، 27 مارس 2023

متى ينتهي الكلام ومتى تنتهي الكتابة؟ ( 15) / د.عبد الكريم برشيد

مجلة الفنون المسرحية 
متى ينتهي الكلام ومتى تنتهي الكتابة؟ ( 15) 

         الكلام المباح لا يسكته الصباح

شهرزاد كانت تسكت عن الكلام المباح، عندما يدركها الصباح، وبعد أن يصيح الديك في آخر الليل
واليوم، يريدون من الاحتفالي الذي يسكننا ان يصمت أيضا، وأن يكف عن الكلام المباح، وأن يهجر هذه الكتابة المشاغبة، والتي هي عنوانه في الوجود، وهي عنوان هويته في الحياة، وما في هذا الوجود كله الا الكتابة، وما في حياة الأحياء شيء اصدق ولا ابلغ من الكتابة، وفي هذا المعنى يقول الاحتفالي في (درجة الصمت ودرجة الكتابة) من كتاب (اعترافات الحكواتي الجديد) يقول:
(يقول النفري في المخاطبات
يا عبد لا تنطق، فمن وصل لا ينطق) 
الصمت إذن درجة عليا بعيدة جدا، درجة لا يصلها إلا الواصلون من اهل المعرفة والحكمة، ولا اظنني يمكن ان اكون منهم، الآن على الأقل، اما بعد الآن، فإنني لا ادري، ولا أريد أن ادري، ولا يهمني ابدا ان ادري)
وبعد كل هذه الكتابات التي ملأت الصفحات في الكتب الاحتفالية، يبقى من حق السائلين ان يسالوا :
- لماذا يواصل الاحتفالي فعل الكتابة ولا يتوقف عنها؟
-ألم يتعب بعد من هذه الكتابة المتعبة والمرهقة والمؤثثة بالأفكار المشاكسة والمستفزة؟ 
- وهل معنى هذا ان الاحتفالي يشعر بأن احتفاليته غير كاملة ولا تامة ولا نهائية، وانها في حاجة دائما إلى الإضافات والى المحسنات والى المراجعات والى التعديلات؟ 
وفي ( الاحتفالية موأقف ومواقف مضادة) الكتاب الأول يقول الاحتفالي في ختام الكتاب ما يلي :
(لاحتفالية اغلب ما يقال فيها مضاف إليها وليس منها
والاحتفالية اغلب السهام المسموَمة  - التي توجه إليها - تعود إلى اصحابها ولا تصل إليها
والاحتفالية اغلب ما كتب(كتب) حولها وليس فيها وعنها
وان هذه الاحتفالية - رغم الكتابات التي تزن جبلا - تظل مغلقة ومجهولة.. تظل محتفظة بأسرارها فيها) 
 َوانا الكاتب الاحتفالي، في هذا العالم الاحتفالي، وفي هذا الزمن الاحتفالي من اكون؟
وما اكتبه اليوم وابدعه، في هذا الزمن المتحرك، من مسرحيات ومن تأملات فكرية حرة، هل حقا ينتمي إلي أنا، دون غيري من الكتاب ؟ 
هل ينتمي فعلا إلى هذا الكاتب العابر في التاريخ وفي الجغرافيا، ام انه ينتمي إلى التاريخ الإنساني والى التراث الإنساني والكوني العام؟
شيء مؤكد بانه لست أنا من أوجد هذه اللغة العربية، والتي بها كتبت من قبل، وبها اكتب دائما وابدا، والتي وسعت أحلامي واوهامي وأفكاري الغريبة والعجيبة، والتي اسعفني في رسم شخصيات المسرحية، وذلك على امتداد اكثر من نصف قرن والتي ساعدتني في انسنة وحشيتي، وفي تركيب شطحاتي الغريبة تركيبا معقولا ومقبولا، وفي تدوين رحلاتي  وفتوحاتي ومغامرات في علم وفنون الكتابة العالمة

               كاتب عمومي بحقيبة ساعي بريد

انا كاتب عمومي، هكذا قلت يوما، وهكذا سوف اقول في كل يوم، ومهمتي في هذه الكتابة هو ان اكتب للناس، وأن كتب عن الناس بلغات الناي، وان أشرك كل الناس في كل قضايا الناس الحقيقية، وان اكون في نفس الوقت، ساعي البريد الصادق والأمين، وأن تكون مهمتي هي ان  اضع ما اكتبه في رسائل، وأن انقلها واوصلها لكل من يهمه الأمر
وهذه الكتابة، والتي هي اساسا كتابتي، وهي كتابة الناس أيضا، وهي كتابة هذا العصر كذلك، والذي هو عصر الناس، وهذه الكتابة، هل هي كتابة ناطقة ومتكلمة ام انها كتابة خرساء؟
وهل هي كتابة عالمة، في عصر العلم، ام إنها كتابة جاهلة وامية وتافهة وبلا معنى؟
ان هذه الكتابة الاحتفالية، وكما اقول وأكتب دائما، هي اساسا كتابة حيوية، هي كتابة جديدة ومتجددة بشكل مستمر، كتابة فيها حركة، وبها طاقة محركة، وبها اجساد رمزية معنوية متحركة، ولهذه الكتابة الاحتفالية علاقة عضوية بالإنسان وبلحظته التاريخية الحية
هو عمر كامل قضيته وعشته بصحبة ورفقة مولاتنا الكتابة. فلا انا قلت يوما تعبت من الكتابة، ولا هي قالت اتعبتني ايها الكاتب المسرحي المشاغب والمشاكس 
والحقيقة والتاريخ اقول ما يلي، ان هذه الكتابة قد اسعفتنا في ان نضع هذه الاحتفالية في إطار ها الحقيقي، والذي هو إطار الكتابة العاقلة والمفكرة والشاعرة، وهي اليوم موجودة في عالم المسرح، تماما كما هي موجودة في البيانات وفي الأدبيات وفي التنظيرات الاحتفالية، والتي ترجمتها الكتابة ترجمة أمينة واوصلها للناس في كل مكان وزمان
ولعل هذا هو ما يجعلنا نقول اليوم، تماما كما قلنا بالأمس، بأن الاحتفالية هي اساسا كتابة حية، وقبل هذا هي ظلال الوجود وطلال الموجودات وظلال الحياة وظلال الاحياء وظلال الحالات وظلال المقامات وظلال الأفكار وظلال المعاني والاختيارات، وهذا ما يجعل الاحتفاليين يقولون ويكتبون بأن هذه الاحتفالية هي اساسا فيض ارواحهم، وهي فيض عقولنهم، وهي فيص نفوسهم، وهي ظلال حياتهم اليومية، بكل ما فيها من حركات ومن سكنات ومن خربشات على جدران  الأيام والليالي وعلى جدران التاريخ، وهي بهذا صدى ارواحهم الناطقة بالحق والعاشقة للحقيقة، ونحن كلنا، في هذه الاحتفالية الحية، نعيش ونحيا، ونمارس الوجود الحق، ونحاول ان نقبض على اللحظة الاحتفالية الهاربة في الزمن الهارب، ونحن لا نريد في هذه الكتابة أن نخبر الناس عن شيء وقع، او يمكن ان يقع، لأننا لسنا اخباريين، ولسنا اعلامبين، ولسنا مورخين، وما نقوله هو فقط وجهة نظرنا، وقد تكون به نسبة معينة من الحقيقة، ولكنه ابدا لا يمكن ان يكون هو وحده الحقيقة، وما يهمنا في هذه الكتابة ليست هي الوقائع المادية الظاهرة، ولكنها الأفكار والتاملات والحالات الباطنية الرمزية، والعالم الاحتفالي هو عالم الرمزيات اكثر منه عالم الماديات والحسيات والمشهديات، والتاريخ الصادق والحقيقي، بالنسبة للاحتفالي، ليس هو ما نراه ونسمعه، ولكن هو ما نحسه وما نتخيله وما نتصوره، 
وهو و تاريخ عالمنا الداخلي، والذي لا نراه كل اليوم، والذي يحتاج إلى عيني عراف والى قلب عاشق والى روح صوفي، وبهذا فمن الممكن أن تكون هذه الكتابة الاحتفالية تاريخا، او فعلا للتاريخ للوجدان وللنفوس الفاعلة والمنفعلة وللعقول المفكرة المبدعة وللأرواح الحية الصادقة، وفي هذه الكتابة يحضر فعل التحدي دائمآ، اي تحدي الكائن بحثا عن الممكن، وتحدي الحاضر بحثا عن الغائب والمغيب، وتحدي المغلق بحثا عن المنفتح، وتحدي المحسوس للقبض على المتخيل، وتحدي الواضح لإدراك اسراره الغامضة 
 وهذا الاحتفالي هو الذي قال في كتاب (غابة الإشارات) والذي هو سيرة ذاتية، تؤرخ افكار الاحتفالي من النشاة إلى الارتقاء، لقد قال:
(في هذه الكتابة لا اريد ان امرر افكارا، لأن الأساس عندي هو أن أحيا أفكاري، وأن البسها جلدا آخر، وأن اعيش فكري، وأن أفكر في عيشي، وأن اكون ذاتا وموضوعا، وسائلا ومسؤولا، وحزمة لا متناهية من الأفكار)

           الثوابت والمتغبرات في الديوان الاحتفالي 
 َ
وهذه الاحتفالية   الكاتبة والمنكتبة  فيها ثوابت ثابتة ومستقرة، وفيها متغيرات عابرة  ومتحولة ومتجددة بشكل دائم. ونحن في ديوان هذه الاحتفالية ثابتون على الثوابت المبدئية، ونحن مجددون دائما في المتغيرات، والثوابت فيها، وكما يعرف الجميع  هي (انسانية الإنسان وحيوية الحياة ومدنية المدبنة)
والاحتفالي من طبعه الوفاء، وهو وفي دائما، في فكره وفنه لخطه الفكري والجمالي، وهو وفي أيضا لمساره الإبداعي والجمالي والاخلاقي، وهو وفي لمسيرته الوجودية، وهو بهذا  لا يمكن ان يكون منحرفا عن قيمها الأساسية والجوهرية، كما أنه لا يمكن ان يكون محرفا لمبادئها المبدئيةالعامة، والتي لا يمكن ان تغيرها الأيام والليالي
ويقولون للاحتفاليين، أليست لديكم، في هذه الاحتفالية المعروفة والمااوفة شيئ آخر غير الاحتفالية؟
ونقول لهم: 
غير الاحتفالية موجود فعلا، ولكن عند غير الاحتفاليبن، اما الاحتفالي الحقيقي، فهو لا يمكن ان يكون غيره، وهو ذات واحدة لا يمكن ان تتكرر مرتين بهوبتبن مختلفين، وبهذا فقد كانت الاحتفالية روح الاحتفالي. قبل ان تكون جسده، وكانت تاريخه الثابت قبل ان تكون واقعه العابر والمتغبر
وهذه الاحتفالية محكومة بقانون الوجود. وعليه فإنه لا يمكن ان تخرج من روحها ومن جسدها ومن جلدها ومن هويتها ومن عنوانها الوجودي في الوجود، كما أنه لا يمكن ان تخون انسانيتها ومدنيتها وحياتها وحيويتها، وذلك حتى يرضى عنها دعاة التجديد الشكلاني، وحتى يمكن أن تكون بذلك جديدة ومتجددة، وذلك مع الذين يعتبرون التجديد، في ذاته وحده، قيمة فكرية وجمالية تغني عن كل القيم الحقيقية الأخرى، وفي هذا المعنى يقول الاحتفالي:
(ان انسانية الإنسان - وهي مبدا احتفالي - هل يمكن أن نجد غدا أو بعد غد - من يشكك فيها، وهل يعقل ان نسمع من يطالب بحيوانية هذا الإنسان او تاليهه كما يقول الحاج في مسرحية (سالف لونجة)
-انا لست الله ولست الحق.. لست الحق.. لست الحق..
لأنني اتألم.. اتألم.. اتألم..
وإذا يا أهل هذا المكان
فأنا مثلكم
مجرد إنسان.. مجرد إنسان.. مجرد إنسان)
الاحتفالية تؤكد على الإنسان الحي في المدينة المدنية، وترفض ان يصبح هذا الكائن الحي والعاقل والحر وحشا في غاب، او ان يكون مجرد شيء من الأشياء، ان يكون مجرد سلعة وبضاعة في سوق من الأسواق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق