مجلة الفنون المسرحية
الوجه المشرق للمسرح العراقي
ليس من السهل أن يتقبل متلقي العرض المسرحي المعاصر خطاباً لا يتعدى في أفضل حالاته أن يكون انعكاسا مباشراً للفعل اليومي، بعدما بقيت عناصره ومفردات صياغته مجرد أدوات استعمال نمطية، فقدت شحنتها الدلالية، وأصبحت نداءً مباشراً، بحجة تأكيد صدقية الخطاب وتناغمه مع واقع المتلقي، وهذا هو المأزق الذي وقعت فيه معظم عروض المسرح العراقي المعاصر، فالعمل الجمالي لا يستحضر عناصره البنائية بالنداء والتسمية الصريحة والمباشرة والمعلنة، ذلك لأن تسمية الشيء في العمل الفني يسلبه ثلاثة أرباع المتعة التي تكمن في السعادة التي نشعر بها ونحن نكتشف المعنى كمتلقين شيئاً فشيئاً.
بهذا المستوى التواصلي توقفنا بدهشة أمام تكنولوجيا صناعة الرؤية وشعرية الصورة ورسم الفضاء في عروض مسرح الصورة لـ(صلاح القصب)، وقرأنا بشغف ذلك التفرد في تكنولوجيا صناعة خطاب السيرة الدرامية المفترضة وجماليات اللغة الشعرية العالية في تجارب (عقيل مهدي), وتوقفنا إزاء عملية إعادة إنتاج الواقعية السحرية وتجلياتها في رؤى (فاضل خليل)، وتجلت مشاعرنا في أسمى صورها وهي تحلق في فضاءات الروح الإنسانية في رؤى (عوني كرومي)، وتفاعلنا مع ذلك البوح المتفرد والمكبوت والجريء للمرأة في تجارب (عواطف نعيم)، وجلدت أجسادنا سياط الواقع الضاغط وقسوته في تجارب (جواد الأسدي)، لتستوقفنا بقوة عالية تلك الفضاءات المغايرة التي يؤسسها البعد الإنساني الذي يسعى عبثاً أن يبرر وجوده في عالم مضطرب شكلته فرضيات (أنس عبد الصمد)..
هذه النتاجات الإبداعية الشاخصة، هي الرصيد الحي لمسرحنا العراقي، وليست تلك المفرقعات الصبيانية التي لا تغني ولا تنفع، تلك التجارب الذهبية اللامعة في خارطة المسرح العراقي هي التي منحت المشهد المسرحي العراقي بعده الجمالي المتفرد وطبعته بطابعه المميز، وشكلت منعطفا حاسما في مسيرة المسرح العراقي لما انطوت عليه من مغايرة ومغامرة، تجديد وتحديث، فهي تجارب وأعمال ومنجزات إبداعية، تقوم على خلق متواصل للمعنى، فكل مستوى من مستويات معانيها، يكون دالاً لمستوى معنوي آخر، وهكذا..
فالعرض المسرحي الذي قدمه كل مخرج، لم يكن يسعى الى رصف للعناصر أو وصف للظواهر، وإنما هو محاكاة جوهرية نابضة لأشياء حية، وليس وصفاً سردياً لها، من هنا فإن العرض أصبح بحثاً جمالياً، يجعل المعنى العميق ينفتح ليعانق الوجود، وينقل بعضاً من كثافته، فضلاً عن إن جوهر خطاب كل عرض مسرحي، كان يقيم عبر جدلية الفن والواقع مسافة توصل ما بين العالم وبين الخطاب المعبر عنه، ومثل هذه المسافة هي التي تتيح التقبل الجمالي، لانطوائها على تلك الفرادة التي تخلق روحا حميمية تؤسس لفعل التواصل مع المتلقي.
ولعل الجوهر المشترك في مجمل أعمال وتجارب ومنجزات هذه الأسماء التي شكلت خطوط وملامح وجه المسرح العرقي وخارطته الذهبية، والتي تعد علامات مميزة في تشكل هوية التجربة المسرحية العراقية المعاصرة، يتمثل في إنها أعمال لم تتخذ من عملية نسخ الواقع وتصويره هدفاً وغاية لها، بل تجاوزته الى ما هو أبعد وأعمق، فصار المعنى فيها يسلم الى معنى جديد، والمعنى الجديد الى معنى آخر، لتظل توحي بقراءات متعددة تنطوي على معان متنوعة ومتوالدة، وهي بذلك لا تستمد قيمتها الجمالية والإبداعية أو تأثيرها في متلقيها من كونها تفرض معنى وحيداً على متلقين متعددين، إنما لكونها توحي بمعان متعددة لمتلق واحد، وهي تفتح فضاءات المعنى على الأفق الجمالي وتجلياته اللامتناهية..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق