د.عقا أمهاوش
(باحث وناقد من المغرب)
يحمل الإنسان حبا غريزيا للتمثيل منذ تواجده على سطح الأرض، فهو يسعى بكل حاجياته النفسية والاجتماعية إلى التعبير عن قدراته في سبيل البحث عن قوته وفرض وجوده في الحياة. وهذا ما يؤكد أن النزعة التمثيلية جعلت من الإنسان عنصرا فاعلا في الحياة ومنفعلا معها. لهذا، عندما نتحدث عن البدايات الأولى للفن المسرحي ، فإننا نتحدث عن ظاهرة التمثيل التي رافقت الإنسان منذ نشأته باعتبارها تخلق تمسرحها الخاص بها من جهة، وعن المسرح، كفن قائم بذاته له أسسه وقواعده وخصائصه من جهة أخرى، وبما أن الظواهر التي سبقت ظهور المسرح عند "اليونان"، لم تعزز وجودها الفعلي بنصوص مسرحية، أو بالأحرى بنص مسرحي واحد، فإننا نؤرخ لهذا المسرح انطلاقا من مسرحية "الضارعات" لأسخيلوس (Eschyle) (ولد حوالي عام 525 ق م)، هذا الشاعر اليوناني الذي «رفع عدد الممثلين من ممثل واحد إلى اثنين، وقلل من أهمية الكورس (الجوقة) وجعل المكانة الأولى للحوار» خلال القرن الخامس قبل الميلاد. غير أن المسرحية المحكمة من حيث التنظيم لم تنل مكانتها إلا مع "سوفوكلس" (Sophocle) (496 – 406 ق م ) الذي تميز بنظراته الفلسفية تجاه الدين، ومعالجة مواضيعه معالجة مسرحية. وقد «رفع عدد الممثلين إلى ثلاثة وأمر برسم المناظر، واستفحل أمر المأساة واتسع مجالها». ولعل مسرحية "أوديبوس" كافية لاكتشاف هذه النظرة، وكذا أوجه الصراع الذي نشأ بين الإنسان والآلهة. وبهذا اعتبرت هذه المسرحية «رائعة سوفلوكس (496 – 406 ق م) الكبرى وموضوعها مستخلص من قصة أوديبوس حينما كان ملكا على "ثيبة" وزوجا ليوكاستا فاكتشف أنه ابن لايوس وقاتله، وأنه ابن يوكاستا زوجته، مما أدى بأوديبوس أن سمل عينيه فأصبح أعمى، وبيوكاستا أن تنتحر» ويرجع الفضل ليوربيدس، (Euripide) وهو «أبلغ الشعراء اليونانيين (431 ق م) في تأليف المآسي» الذي أضاف المقدمة (prologue) إلى المسرحية من أجل فصل كلام المؤلف عن الجوقة كما ربط المأساة بالواقع. و"البرولوج" تمهيد يتكلم فيه الممثل على لسان المؤلف ليشير فيه إلى الشخصيات أو الأحداث المسرحية وكذلك إلى الفضاء المسرحي.
وما دمنا سنتحدث فيما بعد عن المسرح الغربي، فيمكن القول بأن التجريب المسرحي في المسرح اليوناني ظهر مع "ثيسبس" (Thespis) من خلال ابتكاره للحوار، وفصله الممثل عن الجوقة، وإليه تنسب العربة الجوالة التي كان يستخدمها بمثابة خشبة.
إن الموضوع الرئيسي الذي تدور حوله العروض المسرحية اليونانية عبارة عن صراع بين الخير والشر ينتهي عادة بعودة الخصب والنماء بعد أن عم القحط والطاعون طيبة، وبهذا يقام الاحتفال من أجل إرضاء إله الخير والخصب "ديونيزوس" (Dionysus) تارة، ومن أجل أن يكف إله الشر "زيوس" (Zeyus) عن شره تارة أخرى. وإذا حاولنا تسليط الأضواء على بعض العصور التي أعقبت العصر اليوناني، فإننا نجد أن العروض المسرحية الرومانية مثلا كانت عبارة عن نوع من الإمتاع الحسي رغم أن هذا المسرح حاول تقليد المسرح اليوناني المتميز بفضائه الطبيعي إلا أنه أصبح محاطا بالجدران، وفي القرون الوسطى حاول النص المسرحي تصوير عذاب المسيح وحكايات القديسين وذلك لخدمة أغرض الكنيسة.
وبهذا ظهرت ملامح العلاقة بين أعمال المسرحيين منذ عصر النهضة وما بعدها وبين المسرح اليوناني الذي كان بمثابة مرجع بالنسبة للغربيين الذي استطاعوا أن يشقوا للمسرح مسالك جديدة في إنجلترا وإيطاليا وفرنسا وألمانيا وروسيا وغيرها من الدول.
ظهرت عروض جديدة في هذه الفترة كما هو الشأن بالنسبة "للكوميديا ديلارتي" (Comédia dell’Arte) في إيطاليا التي كانت تقدم عروضا تهريجية من أجل التسلية والترفيه. كانت هذه العروض ارتجالية في معظمها بحيث يتكيف الممثلون مع الفكرة العامة للمسرحية دون أن يكون هناك نص.
وتميزت المرحلة في إنجلترا بظهور شكسبير (Shakespeare) (1564 – 1616) الذي أظهر كفاءاته الإبداعية خاصة على مستوى التأليف، إذ نجد أن مسرحياته تملك قوة درامية هائلة، فمعظم هذه المسرحيات يدور موضوعها حول الصراع على التاج الإنجليزي منذ أواخر القرن الرابع عشر إلى نهاية القرن الخامس عشر، والمسرحية تبدأ لتنتهي عند النقطة التي بدأت منها. غير أن ما جعل كتابات شكسبير تصمد إلى عصرنا هذا وجعلنا ندرسها على شكل أسطورة ونجد في كل فترة تاريخية ما نبحث عنه، هو تصويرها للحياة من خلال تناقضاتها ونظراتها إلى الصراع من زاوية السلطة.
استمرت التجربة الإبداعية المسرحية خلال القرون التي تلت عصر النهضة، مما زاد من تكاثر جمهور المسرح ومن نضج ملكته التي سارت تميز الجيد من الرديء من العروض. ويكفي أن نشير إلى الثورة الفنية في القرن التاسع عشر والتي دعا من خلالها المنظرون والدارسون إلى مجتمع جديد، وبهذا قدم أندريه أنطوان (A. Antoine) (1858 – 1943) عروضا جديدة أعطت الوجود المسرحي طابعا عالميا من خلال تأسيسه (للمسرح الحر) في فرنسا سنة 1887، كما بحث ستانسلافسكي (Stanislavski) أساليب التمثيل وأسس "مسرح الفن" في موسكو سنة 1898.
إننا عندما نتحدث عن المسرح في القرن العشرين، فإننا نتحدث عن تراكم تجارب مسرحية ذات جذور ماضية تصل روافدها إلى العصر اليوناني، ليصبح المسرح مقترنا بما هو حداثي، ومظهرا من مظاهر الحضارة المعاصرة من خلال التحولات الاجتماعية والفنية التي شهدتها المجتمعات العالمية، وبهذا يمكننا الحديث عن مرحلتين متعاقبتين على المسرح الغربي.
أ ـ مرحلة تقديس النص المسرحي التي ابتدأت منذ أسخيلوس، حيث بدأ طغيان النصوص في العروض المسرحية واضحا وتقلصت مشاركة المتفرج في العرض المسرحي.
ب ـ مرحلة الانسلاخ مما هو كلاسيكي وإعلان الثورة المسرحية مع "برشت" (Brecht) وبهذا نبذت طريقة العرض الإيطالية وتعددت النظريات المسرحية خلال القرن العشرين اهتمت معظمها بالإخراج المسرحي بصفة عامة وبعضها الآخر بتقنيات التمثيل، واستطاعت أن تبلور وتطور الفعل المسرحي شكلا ومضمونا كما تجاوزت هذه المدارس المسرحيات الكلاسيكية الساندة، الشيء الذي أدى لظهور مناهج متعددة وأساليب وتقنيات مختلفة. وهكذا حلقت أسماء مجموعة من الفنانين والمخرجين والمؤلفين في سماء المسرح العالمي وقد انصبت جهودهم التجريبية على عناصر التركيب المسرحي، سواء تعلق الأمر بالتأليف أو بالإخراج كل حسب منهجه ووسائله الخاصة.
ومن هؤلاء الأعلام المسرحيين الذين طبعوا إبداعاتهم بطابع التجريب والدراسة نذكر علما من أعلام روسيا وهو المخرج المسرحي قسطنطين ستانسلافسكي المؤسس لمسرح الفن حيث درس الأسس التي تجعل من الممثل ممثلا موهوبا، ومن المسرحيين كذلك من أعطى الأولوية والسبق للإخراج المسرحي معيدا له الاعتبار، ونذكر في هذا الصدد "ميرهولد" Meyerhold (1874 – 1940) الذي التحق في المرحلة الأولى بالمسرح الذي كان يشرف عليه ستانسلافسكي لكنه سرعان ما اضطر إلى مواصلة تجاربه الجديدة في أماكن أخرى بعد أن رفض ستانسلافسكي تقديم عروضه في حفلات عامة، وقد أثمرت جهوده المتواصلة عن نظرية فنية سماها "البيوميكانيكا" ترى أن على الممثل أن يدرس آلية الحركة لأن نجاح أدائه متوقف على تحكمه في أطرافه وعضلاته. أما "أدولف أبيا" (Adolphe Appia) (1862- 1928)، فركز على "الحركة" باعتبارها أكثر تأثيرا وفاعلية من "الكلمة"، ذلك أن عين المتفرج أكثر حساسية وأسرع التقاطا لما تراه، وتأتي الأذن في المرتبة الثانية. ومن هذا المنطلق، يرى "أبيا" أن المؤلفين المسرحيين (كتاب الكلمات) لا يعنون برسم حركة الفعل المسرحي، بل يسطرون كلمات يطالبون التقيد بها وكأنها الهدف النهائي الذي يوصل إلى فكرة المسرحية ويغطي مراحل العرض كلها، كما ألح على تقنية الموسيقى في الإخراج المسرحي باعتبارها تتشكل في الزمن. أما وظيفة المسرح عند برشت" (Brecht) فتنويرية وتعليمية، وسنقف في الفصل الأول من هذا البحث لاستنباط مكونات نظريته الملحمية (Théorie Epique). أما بالنسبة لأنتونان أرطو (A. Artaud) في مسرح القسوة (Théâtre de Cruauté)، فاستفاد من مسرح الشرق ومن الأساطير والتراجيديات الإغريقية، ومنح مكانة كبيرة للحركة وأعلن ثورته على المسرح الغربي الكلاسيكي الذي يقدس الكلمة. وقد تأثر به كل من بيتر بروك (Peter Brook) في أنجلترا الذي يعتبر من أهم فناني مسرح الغرب المعاصر، وغروتفسكي (Grotowski) صاحب "المسرح الفقير" في بولندا. ويرى فاروق عبد القادر بأن «الفنانين المجربين والخلاقين مثل بريخت وجروتفسكي، لا ينكرون صلتهم بالماضي، لأن معرفة ما تحقق في أماكن مختلفة وأوقات مختلفة يعطي إحساسا راسخا بمعنى التراث واستمراره».
وبالإضافة إلى هؤلاء الأعلام المسرحيين الذين ذكرنا، هناك جماعات مسرحية سجلت أسماءها في تاريخ المسرح الغربي الحديث وسنتطرق إليها في فصول لاحقة، كما يرجع الفضل أيضا لبعض الفنانين والراقصين في تطوير أساليب وتقنيات الرقص الحديث والبحث عما يخفيه الجسد من أسرار حيث تم ابتكار تكنيك خاص لفن الرقص من أجل التعبير عن موضوعات جديدة، ويبدو أن الفعل المسرحي الغربي أخذ أشكالا متعددة لتبليغ رسالة المسرح إلى الجمهور، ولا زال الإبداع مستمرا إلى يومنا هذا. وقد تظهر نظرية جديدة في فضاء معين وتختفي لتظهر مرة أخرى على شكل أسطورة في مكان وزمن معينين ثم تبزغ أخرى وهكذا... كل هذا من أجل التأكيد على أن المسرح فن لا حدود له،يخاطب الإنسان في كل مكان، ويشتغل على مستويات متباينة كالنص المسرحي والمخرج والممثل وتقنيات العرض والنقد والجمهور... إلخ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق