لكل كاتب وفنان فى مجالات الآداب والفنون المختلفة مخطوطات وإسكتشات لم تنشر، كان يمكن لو لم تفقد ويصعب العثور عليها، الرجوع إليها والانتفاع بها فى إثراء الحياة الثقافية.
............
وذلك تضيع وثائق لا تقدر بثمن، ولا تجد من يبحث عنها، أو يلتفت إليها، ويحفظ للأجيال التالية حقها فى قراءتها، خاصة إذا كانت لأسماء رفيعة المقام تفرض صيانتها بالتحقيق والنشر، وإتاحتها لكل من يشاء، بمنأى عن التعامل معها كأوراق مهملة، من الأفضل التخلص منها لما يمكن أن تثيره من متاعب إزاء مخاوف السلطة من كل جديد.
ومثل هذ الأوراق قد تفوق فى القيمة ما وضع بالجهد الخلاق من أعمال تفصح عن وجدان ورؤى وملكات أصحابها، وتشكل عادة ثقافة الوطن، وترسخ هويته.
وكلما كانت هذه الأوراق من زمن أقدم وأحفل بالوقائع والأحداث، وأيا كان مؤلفها، فإنها تظل بما تحمله من المعانى والدلالات، تفوق صنيع الإعلام وتظل لها قيمتها الفكرية والجمالية، حتى لو كانت لواحد من غمار أو عامة الناس.
وتوفيق الحكيم «1898 - 1987» منذ مسرحيته الأولى «الضيف الثقيل» عن الاحتلال البريطانى لمصر، فى غير انفصال عن الحضارة الإنسانية ليس كما أشيع عنه وأشاعه عن نفسه، أديب البرج العاجى الذى يهيم فى الخيال والتأملات المجردة، ولا يأبه بالواقع التاريخى منذ مصر الفرعونية وفى أحيائها الشعبية كالسيدة زينب والأرياف والمدن العالمية. لاتشغله الفلسفة والسياسة والأحزاب التى تحكم العالم.
لم يكن توفيق الحكيم أديب البرج العاجى، وإنما كان هذا الوصف ذريعة يتجنب بها فضول الفضوليين الذين كانوا يلاحقونه فى كل مكان ويعطلونه عما يستغرق فيه من تفكير عما يحدث فى معترك الحياة.
ومن علامات هذا الارتباط أنه على مستوى كتاب المسرح الذين لم يستطع أحد تجاوزه، كان إذا استحسن إنتاج أحد منهم، ورآه يظلم من قبل النقاد أو جوائز الدولة وغيرها، خرج عن صمته ولامبالاة، وهما من طباعه الأصيلة ودافع عنه بكل قواه، كأنه يدفع عنه بلاء شديدا، إلى أن يعاد له حقه.
ومع هذا فلم يكن لهذا الكاتب المشبوب العاطفة والوعى لأكثر من خمسين سنة، أوراق خاصة يتخوف من إعلانها، سوى هذه التساؤلات التى كتبها لإذاعتها فى الاحتفال الحادى عشر بيوم المسرح العالمى فى 27 مارس 1972، بصفته رئيس المركز المصرى للهيئة العالمية للمسرح التى كانت تتألف من حسين فوزى نائبا للرئيس، ونبيل الألفى سكرتيرها العام، وعضوية عدد من رواد هذا الفن، نذكر منهم: سعد أردش وكرم مطاوع وسعد الدين وهبة ولويس عوض وعلى الراعى وفؤاد دوارة..
وتعد هذه الوثيقة المجهولة لتوفيق الحكيم من الوثائق النادرة، إن لم تكن الوحيدة تقريبا التى يدعو فيها بصراحة إلى تطوير المسرح المصرى تماشيا مع نهضته فى الستينيات التى دفعت إبتكاراتها إلى مواكبة المسرح العالمى.
والانتقال به من المسرح التقليدى الذى يعتمد على الكلمة والعقل إلى تعدد مكونات فى الأداء والديكور والأزياء والموسيقى والرقص والغناء واللامعقول، وغيرها من العناصر المرئية والمسموعة التى تداخل فيها الفصول فى فصل واحد بلا استراحة، ويندمج فيها الجمهور مع الممثلين، ويحتكم إلى هذا الجمهور كقضاة حقيقيين، لا إلى من ينتسبون إليهم فيما يثور من مشاكل تكون محل خلاف ونزاع القوى المتصارعة.
والشرط الوحيد لتعدد عناصر العرض على هذا النحو ألا يطغى أحدها إلا إذا توفر له مايبرره، ليس بالإضافة إلى هذه العناصر، وإنما بالتفاعل معها.
وكان من نتائج هذا التحديث، بعد كلمة توفيق الحكيم، ارتفاع صوت المخرجين باعتبارهم ملاك هذه العروض الجذابة وليسوا مجرد منظرين لها، تنتسب أولا وأخيرا إلى المؤلفين وحدهم، على غرار ما كانت السينما الأوروبية فى هذه المرحلة نفسها تجرى فيها منتسبة إلى المخرجين بصفتهم أصحابها،
وهذه تأملات توفيق الحكيم:
المسرح الشامل، فكرة وتنفيذا، ليس بالشيء الجديد، فقد عرف فى القرن الماضى، يوم رأى فاجنر أن المسرح يجب أن يجمع كل الفنون فى صعيد واحد، الشعرأى الكلمة والدراما والموسيقى والرقص ثم التصوير والنحت والعمارة ممثلة فى الديكور، ونفذ كل ذلك فى أوبراته. ولكن القرن التاسع عشر فى جملته وعمومه كان يتفتح على ثقافة علمية ناهضة وعلى ثورات عقلية واجتماعية مبشرة، فاعتمد على قوة الكلمة، وجعل النص هو قوام المسرحية، يخاطب به جمهور المثقفين. وكان المثقف حتى ذلك العصر شأنه شأن المثقف فى زمن الإغريق والرومان والعصور الوسطى، ذا نوعية واحدة، وليدة الأعمال والكتب الكبيرة. إذ لم تكن قد وجدت أدوات اتصال جماهيرية تفتت هذه النوعية مثل السينما والإذاعة ثم التليفزيون.. فالعودة اليوم إلى فكرة المسرح الشامل تثير التساؤلات الآتية:
1 هل هى علاج لأزمة المسرح التجارية بجذب جماهير جديدة إليه، جماهير لا تهمها الكلمة أو لا تفهمها. خاصة ونحن اليوم فى عصر السياحة الكبرى بتقدم الطيران. والسياح جمهور هام للمسارح. وأكثرهم لا يفهم جيدا لغة البلد. فجعل الكلمة عنصرا ثانويا إلى جانب عناصر أخرى كثيرة وهامة مما يجعل المسرحية قابلة للإمتاع للاجنبى والمقيم على كل المستويات.
2 هل هى تأثر بالسينما التى تجعل الكلمة أى الحوار محدود الحيز ثانوى القيمة بالنسبة إلى عناصر أخرى مهمة ومثيرة تمتع العين والأذن، مما يحدو بالمسرح أن يتخلى عن فكرة الكلمة إلى فكرة العرض.
أى ترك فكرة المسرح الممتع للعقل وحده بالكلمة والأداء إلى فكرة العرض المنوع الممتع للعين والأذن ولكافة الحواس؟.
3 وأخيرا هل المسرح على حق فى اتجاهه الجديد هذا أو أن له رسالة خاصة به وحده تتصل بمستوى عقلى وثقافى معين، عليه أن يحافظ عليه مهما يتعرض لضيق نطاق جمهوره، وعليه أن يستعين فى بقائه بتدعيم الأمة أو الدولة كما تدعم هياكل ثقافتها وحضارتها العليا، وكما تقدم الإعانات للطيران أو الصناعات الضرورية التى لا تغطى مصروفاتها؟ أو أن على المسرح أن يعتمد على نفسه ويبحث عن موارده وجمهوره بالطريقة التى توصله إلى جذب المشاهدين من مختلف الطبقات والجنسيات؟.. أو أنها بالفعل رسالة المسرح فى هذا العصر الحاضر أن يغير مفهومه ونظرته، ويرى أن الكلمة لم تعد هى كل شيء، وأن العقل لم يعد هو المصدر الوحيد والأهم للمعرفة؟.
كل هذه تساؤلات تنتظر الإجابات، أو على الأقل تستحق أن تعرض للبحث والدراسات والمناقشات، حتى نعرف موضع أقدامنا من قضية المسرح فى العصر الحاضر، بالنسبة إلى العالم كله على وجه العموم، وبالنسبة إلى بلادنا نحن على وجه الخصوص. توفيق الحكيم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق