تصنيفات مسرحية

الثلاثاء، 23 مايو 2023

الاحتفالي والمعاني في مملكة المعاني (31) / د.عبد الكريم برشيد

مجلة الفنون المسرحية 

الاحتفالي والمعاني في مملكة المعاني (31) 

                           فاتحة الكلام
 
 في البدء اقول ما يلي،  بالنسبة للاحتفالي فإن السطحي لا يقول له شيئا، ووحدها الأشياء البعيدة والعميقة هي التي تكلمه ويكلمها، والبدبهيات والمسلمات لا محل لها من الإعراب في الاحتفالية  واليقين مشكوك فيه حتى إشعار آخر والشك وحده هو اليقين الموقت، حتى يثبث لي صحنته، وما يغري هذا الاحتفالي اكثر  هو الغائب والمغيب، وهو البعيد دائما، وهو العالي،  وهو الصعب،  وهو الغامض  وهو السحري، وهو الغريب والعجيب، و هو الممكن الذي يصل إلى حد المحال
وبالنسبة لهذا الاحتفالي المخاطر والمغامر، فإن كل ما يتغير لا يعول عليه، وكل ما يلحقه الضعف والفقدان، ويدركه الفقر والنسيان، لا يمكن الرهان عليه إلا..  مؤقتا.. هكذا قال ويقول ذلك الاحتفالي تسكنه الاحتفالية ويسكنها
وأعتقد أن الرمز وحده هو الأبقى دائما، وذلك بعد أن تمضي كل الأشياء المادية والمحسوسة والملموسة، وبعد أن تضيع الأشكال في عالم الأشكال، وبعد أن تخسر الأشياء اللامعة لمعانها، وبعد أن تتخلى عنها أحجامها وأوزانها، وبعد أن تغادر الأشياء الملونة والمزوقة ألوانها البراقة، وتصبح عارية وخفية مثل اللاشيء.
وفي المقابل، فإن المعنى لا يمكن أن يضيع شيئا، لأنه  ليس شيئا من الأشياء، فهو يبدأ ولا ينتهي، ولأنه أيضا، يحمل ألوان الحياة والوجود، ويحمل ظلال التاريخ والجغرافيا، وعليه، فقد كانت مملكة المعاني الرمزية هي أكبر الممالك وأخطرها وأقواها على الإطلاق، ولهذا ينتهي الأقوياء والأغنياء، وينتهي أهل الجاه والسلطان، ولا ينتهي الشعراء والعلماء، ولا ينتهي المبدعون والحكماء، لماذا؟ لأن المعاني لا يدركها فيروس الأشياء المادية القاتل..

                 المجد والخلود للمعاني الخالدة 

وفي هذه العوالم المتداخلة والملتبسة، أجد نفسي مضطرا لأن أدخل حقل الرهان، وأن أخاطر مع المخاطرين، وأن أبتعد، بالقدر الذي أستطيع، وأن أكون مغامرا مع المغامرين، أو أن أكون مقامرا من بين المقامرين، وعليه، فإنني لا أراهن إلا على المعنى الرمزي، لأنه وحده الأصدق والأحق بأن نراهن عليه. إنني أعرف أن المعنى لا يشيخ، ولا يمكن أن يدركه القدم أبدا، ونحن لا نفعل اليوم سوى أننا نجدد نفس هذه المعاني الأبدية ( القديمة) وأن نحاول أن نراها بعيون أخرى جديدة ومجددة، وأن ننظر إليها من زاويا مختلفة ومتنوعة، وقيمة هذه المعاني لا يمكن أن تتأثر بالأزمة العالمية اليوم، ولا يمكن أن يتراجع رصيدها في بورصة القيم.
نعم، كل الدول إلى زوال، ووحدها دولة المعاني خالدة وسرمدية وأبدية، لأنها دولة الحق والحقيقة، ولأنها أيضا دولة الجمال والكمال، وأنها دولة الكرامة والفضيلة، وأنها دولة المحبة والإخاء، فكل سلطة، كيفما كانت وأينما كانت، هي بالتأكيد سلطة محدودة، محدودة في الزمان وفي المكان، إلا سلطة الرمز طبعا، فهي سلطة بلا حدود وبلا قيود، لأنها سلطة الوجود والوجودية، وسلطة الحياة والحيوية، وسلطة الجمال والجمالية، وسلطة التحرر والحرية، وهذا ما يفسر أن تكون مملكة الأفكار فوق كل شي، لا يحدها الحد، ولا يعدها العد، ولا يستفرد بها أي واحد مستبد..
كل سلطة مادية محاصرة بأبعادها الزمنية الثلاثة، الماضي والحاضر والآتي، إلا هذه السلطة الرمزية التي أوجدت لها بعدا رابعا، أو زمنا رابعا مكملا، وهذا البعد ـ الزمن هو الأبدية، وذلك بامتداداتها الكائنة والممكنة، وبآفاقها الواسعة واللامحدودة، ووحدهم المبدعون والخلاقون والصوفيون والمشاءون والحكماء والشعراء يمكنهم الرهان على هذه الآفاق السحرية والبعيدة جدا.
هناك أنظمة كثيرة، أغرتها سلطتها القمعية، فأعلنت الحرب على مملكة المعاني المتسامحة، فطاردت الكتاب، وأحرقت الكتب، وصادرت الحق في التفكير وفي التصور وفي الحلم المشروع، ونكلت بالمبدعين، وحاسبتهم على عشقهم الطبيعي للأجمل والأكمل والأنبل  في الحياة والوجود، وأدخلت بعضهم إلى السجون، وبعثت ببعضهم الآخر إلى الغربة والمنافي، ونزعت الجنسية عن الآخرين، تماما كما حدث مع المهدي الجواهري في العراق أو مع السرفاتي في المغرب، ومع غيرهما كثير، ولقد توهمت هذه الأنظمة أنها انتصرت، ولكن ذلك الانتصار كان سرابا وخيالا، وكان مجرد سباحة ضد التيار، تيار الحق والحقيقة بكل تأكيد، وظهر لكل العيون أن المعاني الرمزية لا يمكن أن تعتقل، ولا يمكن أن تحاصر، ولا يمكن أن تقتل، ولقد عشت شخصيا عشر سنوات طويلة من الحصار، ووظفت الأموال العامة لمحاصرة أفكاري، وكانت النتيجة أن ذلك الحصار الظالم والغاشم، بترسانته وآلياته وزبانيته وعسسه وحرسه، لم يأخذ مني حقا ولا باطلا، وانتهت تلك السلطة، وتبخرت في الفراغ، ولكن سلطتي الرمزية باقية، لانهاتنتمي إلى دولة المعاني، وهذه الاحتفالية هي اليوم أقوى وأصدق مما كانت عليه من قبل.                  
         الاحتفالي الذي يتموقف ولايتوقف

وداخل هذه المملكة الرمزية والمعنوية، ما أنا إلا  كاتب يكتب، وما هذا الكاتب إلا مفكر يفكر، إنني أساسا مثقف، والأصل في كل مثقف أنه موقف قبل كل شيء، وإنني أصر على أن أكون مثقفا يتموقف، ولكنه لا يمكن أن يقف أبدا، في أية محطة من المحطات، لأن الأساس في هذه المواقف أنها حية ومتحركة، وأنها فاعلة ومنفعلة ومتلاعلة، وكل شيء في مملكة المعاني يتحدى العقل، ويستفز الخيال، ويشاغب الأشياء، ويدعو إلى الإعجاب والاندهاش، وإلى السؤال والتساؤل.
في هذه المملكة شيء كثير من الصمت الناطق، وفيها أشياء أخرى كثيرة من الفراغ الممتلئ بالإشارات وبالعلامات المعبرة والموحية، وفيها جمهوريات متخيلة راقية، يمكن أن نجد بها مدنا وقرى فاضلة، ويمكن أن تلقى فيها قوانين إنسانية عادلة وحكيمة.
في هذه المملكة أبحث أنا عن التعبير الحر، ويبحث هذا التعبير الحر عن الإنسان الحر، ويبحث ذلك الإنسان الحر عن الوطن الحر، وأعرف أن هذا الوطن الحر سوف يبحث عني، تماما كما أبحث عنه، إن لم يكن ذلك اليوم فغدا، أو بعد غد، وأنه سوف يعيد تربيتي بشكل جديد، وأنه سوف يعطيني دروسا حقيقيا في الحرية، وفي الكرامة، وفي العدالة، وفي الفضيلة وفي التسامح.
ولأنني اليوم مقتنع، بأن هذه الحرية الممكنة، لا يمكن أن تتحقق ـ وبشكل حقيقي ـ إلا في الأحلام الطائرة والمحلقة، فقد أعطيت نفسي الحق بأن تحلم، وأن تتحرر من جاذبية الأرض، وأن تقاوم الواقع بالحقيقة، وأن تتصدى للكائن بالممكن، وأن تعيش عند الحد الذي تلتقي فيه الأضداد المتقابلة والمتكاملة، تلتقي الحياة بالموت، ويلتقي العقل بالجنون، وتلتقي الحقيقة بالوهم، ويلتقي النسبي بالمطلق.  
وفي مملكة الناس والأشياء نحيا ونعيش، ويسعدنا أ أن تكون لنا أجساد سليمة عضويا ونفسيا وعقليا، وأن تمشي هذه الأجساد فوق الأرض، وأن تكون لها ظلال تدل عليها، فتسبقها مرة، وتلحق بها مرة أخرى، ويهمنا أن نكون بصحة وعافية دائما، وأن نكون أسوياء وأقوياء وأغنياء، وفي بعض دروب هذه المدينة نجد أسئلة كثيرة تنتظرنا وتتحدانا، وهي تقول لنا :
هل أنتم فعلا أسوياء؟ وهل أنتم أقوياء وأغنياء؟
وما معنى ن تكون جيوبنا ممتلئة بالأوراق الملونة، إذا كانت أرواحنا ونفوسنا وعقولنا فارغة؟   
وكيف نكون أغنياء ونحن نخاف الفقر والتفقير؟
وهل يمكن أن نكون أحرارا ونحن محاصرون ومعتقلون بين حدين متقابلين، حد الترغيب وحد الترهيب؟ وذلك لأننا، وفي الحالين معا، ننفعل بالعوامل الخارجية، ونستجيب لإكراهاتها الخارجية، ولا نفعل أي شيء.
في هذه الدولة إذن، دولة المعاني الرمزية، تعلمت كيف أسأل وكيف أتساءل، وفيها عرفت أن أكبر الأسئلة وأخطرها هي التي تبقى إجاباتها معلقة أو مؤجلة أو خفية أو مضمرة أو محاصرة أو مصادرة أو .. مقموعة..  ولكن، إلى متى؟ 
َوان تكون في الظلام رغم إرادتك، وأن يفرض عليك هذا الظلام، فهذا شىء قد يكون مقبولا، وقد تكون له تفسيرات وتبريراته، ولكن ان  تبقى في الظلام، وان تتعايش مع هذا الظلام، وأن تتواطأ مع صناع الظلام، والا تبحث عن الأماكن الأخرى وعن الأزمنة الأخرى وان تتجه نحو بقعة ضوء ممكنة الوجود، فذلك هو غير المقبول اطلاقا، ولعل اجمل الضوء هو الذي نوجده بشمعة او بقنديل، أو بالسعي من أجل الخروج من النفق المظلم ومن الأقبية المظلمة
ولهذا يقول الاحتفالي بان اجمل الضوء هو الذي ياتي في الليالي المظلمة، وفي هذا المعنى قال أبو فراس الحمداني
سيذكرني قومي اذا جد جدهمو
وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
وهذا البدر المنير، اذا لم يحضر في الليلة المظلمة فما دوره؟
ولقد سبق وتساءلت، اكثر من مرة، ما معنى أن تكون احتفاليا، في فضأء غير احتفالي وفي زمن غير احتفالي؟ واليوم أرى من الضروري أن اعبر إلي السؤال الذي يليه، والذي هو الأخطر بكل تاكيد، وهذا السؤال هو
--اهو سهل وبسيط ان تكون احتفاليا؟
-- واين يمكن ان يكون ذلك؟ ومتى؟
--*في فضاء غير احتفالي، وفي زمن غير احتفالي، وفي مناخ غير احتفالي، ومع مواطن يقاسمك نفس الأرض ونفس السماء، ويقاسمك نفس الماء ونفس الهواء، ولكنه لا يؤمن وبالتعدد ولا بالحق في التعدد ولا بالتسامح ؟
--*وما معنى أن تكون احتفاليا وحدك، وأن تكون باحتفاليتك ضد الجميع، وأن نجد نفسك تسبح ضد التيار وضد الساعة عقارب الساعة؟
ليس ضروريا ان اجيب على كل هذه التساؤلات، وقد يجيب عنها الآخرون، أو يتولى مولانا الزمن هذه المهمة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق