فاتحة الكلام
النسبية في الاحتفالية هي مقياس كل شيء، وكل شيء في عرف الاحتفالي نسبي ومؤقت، حتى تثبت الوقائع في الواقع العكس، وبهذا تكون النسبية السيكولوجية هي مقياس كل الأحكام، وهي مقياس كل التفسيرات والتقديرات، ولهذه النسبية حضور رمزي، في النفوس التي تحس، وفي العيون التي ترى، وفي العقول التي تعي، تماما كما هي موجودة في الفيزياء المادية، وفي عالم الأشياء التي لها طول وعرض ولها عمق وشكل ولها لون وطعم
في مرة، من المرات، وفي مناسبة من المناسبات سئل عمنا جحا السؤال التالي:
ــ أين يوجد مركز الأرض يا جحا؟
ومن غير أن يفكر طويلا، أجاب بسرعة:
مركز الأرض ـ يا سادة يا كرام ــ يوجد دائما حيث أقف الآن أنا.. يوجد هنا.. وغدا، عندما سأكون هناك، سيكون مركز الأرض هناك
ولما كان هذا (الجحا) كائنا متحركا، وكان لا يقف في مكان واحد، بعكس المواقع الجغرافية الثابتة، فقد كان من الضروري أن نفهم بأن مركز الأرض غير ثابت أيضا، وهو غير مستقر في جهة من الجهات، أو في أي مكان محدد ومحدود من الأمكنة، وهو بهذا متعدد بتعدد الذوات، وبتعدد الجماعات، وبتعدد المجتمعات وبتعدد الحالات، وهو أيضا، متنوع ومتجدد، وذلك بتنوع الأرواح وباختلاف الثقافات والحضارات فيه، هذا الفهم (الجحوي) البسيط كان قديما، في سالف العصر والأوان، أما اليوم، وقد تغيرت الدنيا، أو خيل لنا ذلك، فإن هذه المقولة الجحوية مازالت حية، وهي تمارس وجودها تحت أسماء ومصطلحات جديدة مغايرة.
إن هذه (الفلسفة) الجحوية، والتي تختزل الوجود في الأنا، وتجعل لهذه الدنيا مركزا وحواشي، وتميز في الأحياء بين النحن والآخر، وتقسم الشعوب إلى قسمين لا ثالث لهما، قسم الشعوب المتقدمة وقسم الشعوب البدائية، هذه الفلسفة هي التي ( تطورت) مع النازية والفاشية والصهيونية، ووصلت إلى أعلى درجات العبث واللامعقول، ونادت بالجنس النقي، أو بالشعب المختار، ورغم سقوط النازية والفاشية، فإن ظلالهما مازالت ممتدة، ومازال الغرب الأوربي يؤمن بأنه مركز الأرض، ويؤمن بأنه مركز الوجود، وهو بهذا يشبه جحا، ولكن جحا لا يشبهه، لأنه لا يصادر المركزيات الأخرى، والتي يمكن أن تجسدها الأجساد والأرواح الأخرى، وذلك في الأمكنة الأخرى، وفي الأزمنة الأخرى، وفي الثقافات الأخرى، وفي اللغات الأخرى، فالغرب يعتبر نفسه مركز الأرض، ومركز الصناعة ومركز الثقافة ومركز العلم ومركز الفن ومركز السياسة، ويعلن نفسه، من جانب واحد، مركزا للمدنية والحضارة والحرية والعدالة والديمقراطية، ومركزا للإنسانية السعيدة، وقد يكون هذا هو الواقع، ولكن ليس هو الحق والحقيقية
ولكن، أليس من حق كل واحد منا وفينا، سواء أكان شخصا حقيقيا، أو كان شخصا معنويا، أو كان فردا أو كان جماعة، أن يقول نفس هذا القول ـ الادعاء، وأن يزعم نفس هذا الزعم الغربي والأوربي، وأن يجعل من ذاته المحور والمركز، وأن يجعل من الآخرين الهامش؟
وبالنسبة للاحتفالي والاحتفالية، فإن كل واحد منا، يمكن أن يكون هذا (الجحا) الحكيم، وأن يقول نفس قوله، وبهذا يكون لهذا لعالم الواحد ملايير المراكز المتنوعة، وتكون هذه الأرض الواسعة والعريضة مؤثثة كلها بالمراكز الثقافية والحضارية واللغوية والجمالية المختلفة والمتنوعة والمتقاطعة والمتحاورة والمتجاورة والمتساكنة والمتعايشة والمتناغمة والمتكاملة، وأن يكون لذلك التعدد معنى الغنى، وأن يكون تجديدا وتنويعا لما هو موجود، وأن يكون ذلك التعدد في المراكز المفكرة والمبدعة مدخلا أساسيا وحيويا لتحقيق الاختلاف المشروع، وأن يكون لهذا الاختلاف معنى الكثرة والوفرة، وأن يكون فعل الحوار هو وحده المركز، وأن يكون الملتقى الذي تلتقي عنده وتفترق كل الذوات المختلفة، وأن يكون ذلك باللغة الإنسانية والمدنية، وبالاختلاف العلمي والفكري التي لا تفسد للود قضية.
الاحتفالية والنسبية السيكولوجية
وهذا الجحا الاحتفالي، والذي يرى نفسه محور الوجود والمجودات ومحور الحياة ومحور الأحياء، وأنه يقف في مركز الأرض وفي مركز التاريخ، هذا الجحا يسمي نفسه جحا فاس، وذلك في المسلسل الإذاعي الذي يحمل عنوان ( جحا فاس) مما يدل على أنه المفرد المتعدد، وأنه الواحد المتجدد، وأنه الوجود المتمدد، وأنه مجرد وجه واحد من هذا الةحا المتعدد الوجوه الاقنعة، وهو يوكد الحقيقة البسيطة التالية، وهي ان لكل مدينة جحاها الخاص، وأن لكل زمن في التاريخ جحاه لخاص، وأن لكل مجتمع إنساني جحاه الخاص، وهذا المعنى هو الذي يجعل الاحتفالية لا تختزل ما لا يقبل الاختزال، ولا تمركز ما لا يقبل التمركز
ومرة أخرى، نعود إلى عمنا جحا، والذي هو عندنا صوت واحد فقط، من ضمن مئات أو آلاف أو ملايين الأصوات الجحوية المتعددة في الجغرافيا المتعددة وفي التاريخ المتعدد والمتجدد، نعود إليه لنسأله:
ــ وأين يوجد مركز العالم يا جحا؟
ونحن نفترض، في الاحتفالية، ان يأتينا جوابه على الشكل التالي:
مركز العالم يا سادة يا كرام يكون هنا.. حيث أقف أنا الآن هنا، وحيث أكون دائما، وبما أن عمكم جحا يمكن أن يكون في كل أرض، وأن يكون في كل زمان وفي كل مكان، فإن مركز هذا العالم، أو مركزه لابد أن تكون متعددة ومتغيرة ومتحركة ومسافرة أيضا، وأن تكون في كل بلدان هذا الكوكب الذي يسمى الأرض.. وعندما نقول مع جحا ( نحن ـ الآن ـ هنا) فمعنى ذلك انه لا يلغي وجود الآخرين هناك، في الأمكنة الأخرى وفي الأزمنة الأخرى وفي الثقافات الأخرى وفي الجماليات الفنية الأخرى وفي الاجتهادات الفكرية والعلمية الأخرى
عجبا.. كيف أن كلمة صغيرة جدا، كلمة في حجم ( أنا) أو( نحن) يمكن أن تختزل نرجسيتنا الواسعة والعريضة والعميقة واللامحدودة؟
وكيف تكون هذه الكلمة مخيفة مرعبة، وأن تجعلنا نردد (أعوذ بالله) بعد ذكرها؟
وقد تكون هذه الكلمة، في حالات كثيرة،، ملعونة وشيطانية، وقد نسمع في الناس من يستعيذ بالله منها، ونجد من لا ينطقها إلا مشفوعة بكلمة أعوذ بالله من كلمة أنا.
فيزيائيا، فإن كل شيء نراه عن بعد، فإنه لا يمكن أن نراه إلا صغيرا، وكلما ابتعدنا عنه أكثر، نجد حجمه يتضاءل أكثر، وكلما اقتربنا منه إلا وتغير حجمه، وأصبح أكبر وأوضح في العين المبصرة، ولأن ذلك الآخر الأوربي والغربي قريب جدا من ذاته، ولأنه بعيد جدا عنا نحن، وجدانيا وفكريا وسياسيا، فإنه لا يرى في هذا الوجود إلا ذاته المتضخمة والمتورمة، يراها وحدها ولا يرانا نحن الذين نقتسم معه الأرض والسماء والهواء والماء، وإذا حدث ورآنا، فإنه لا يمكن أن يرى من عليائه البعيدة غير كائنات صغيرة ودقيقة جدا.
من الأنانية البغيضة إلى الأنانية السعيدة
ونتساءل، مثل هذا التمحور حول الذات المتضخمة هل هو أنانية؟
لكم أن تسموه ما شئتم من الأسماء، ولقد سبق وكتبت في كتاب (المؤذنون في مالطة) عن الأنانية السعيدة، وميزتها عن الأنانية الشقية أو الأنانية المريضة.
وإنني، أنا الاحتفالي، أومن بأن الأنانية حق لا نقاش حوله.. حق هو من حقوق الإنسان الطبيعية والثقافية، وأعتقد أن من حق كل واحد أن يقول (أنا) وأن يحس بوجود هذه الأنا، وأن يعشقها، وأن يراها في مراياه الداخلية بالشكل الذي يريد، وأن يتغنى بها، وذلك بالقدر الذي لا يضر بأنانية الآخرين، ولا يشكل اعتداء عليهم
حقا، إن ذلك الآخر ليس أنا، ولكنه من الممكن أن يكون ( أنا) أخرى، وأن يكون إضافة أخرى، وأن يكون تعددا لهذه الذات الواحدة، وأن يكون تمددا لها في الزمان وفي المكان، ولقد أوجد آدم (أناه) الأخرى في شخص حواء، فاكتشف الحب أو ( اخترعه)، وأدرك أن هذا الحب شكل من أشكال التعدد والتوحد والتجدد والتمدد، وأنه أنانية أكبر وأوسع وأسعد، وأنها انتقال من درجة الأنا إلى درجة النحن، وانتقال من الإحساس الفردي إلى الإحساس الجماعي، وأوجد الآباء (أنواتهم) الأخرى في شخص أبنائهم وبناتهم، وأوجد غلغامش مضاعفه في شخص أنكيدو، وهو لم يكتشف الموت إلا بموت أناه الأخرى، ولا أحد يمكن أن يبكي حياته إلا من خلال موت الذين يحبهم، وهذا ما يفسر رحلة غلغامش بحثا عن إكسير الخلود.
بمدينة صفاقس التونسية، وفي ندوة دولية عقدت على هامش دورة من دورات أيام قرطاج المسرحية، طرح د. مجدي يوسف من مصر السؤال التالي:
هل من مخرج ينقذ البشرية من محاولة هيمنة نموذج على نموذج آخر؟ وكيف يكون ذلك ممكنا في المسرح؟
إن كلمة المركز تجر معها دائما كلمة الهامش، وأعتقد أن هذه الكلمة الأخيرة هي كلمة شبحية ووهمية، وأنها دخيلة على كل قواميس اللغات المختلفة في العالم، الحية والميتة معا، إنها في العمق بلا معنى، تماما مثل كلمة الآخر، والتي يمكن أن يقولها أحد من الناس، وأن تكون بذلك عنوانا غامضا ومبهما على الناس جميعا، من غير أن تخص شخصا واحدا منهم، فالأصل في الكلمات، والأساسي فيها هو ( أنا) وهو ( نحن) والقاعدة هي هذه الأنا ـ النحن ، أما الاستثناء الذي لا يقاس عليه، ولا يعول عليه، فهو كلمة الآخر، وكلنا يمكن أن نكون الآخر، بالنسبة لأي شخص أخر، وأن يكون وطننا هو الوطن الآخر، بالنسبة لذلك الوطن الآخر، وأن يكون عالمنا هو العالم الآخر، وذلك بالنسبة لذلك العالم الآخر، وأن يكون مسرحنا هو المسرح الآخر، بالنسبة لذلك المسرح الآخر
هناك إذن مركزية غربية ـ اوربية، وهناك عدوان ثقافي يمارس ضد بقية العالم، ويمارس ضد شعوب كاملة، ويصادر ثقافاتها وإبداعاتها ومعتقداتها وجمالياتها وأخلاقياتها الخاصة، ولقد طرحت الاحتفالية، وهي تؤسس فكرها المختلف، وتبدع فنها المختلف، السؤال الأساسي والجوهري التالي:
ــ هل من حق الثقافات الأخرى؛ في الأوطان الأخرى، وفي الأزمنة الأخرى أن تحيا حياتها الثقافية الطبيعية الأخرى؟
ــ وهل يمكن أن تعبر عن نفسها، وأن تشير إلى هويتها، وأن تشير إلى نفسها بدون خجلـ بدون مركب نقص؟
عن هذا التساؤل يجيب د. مجدي يوسف بقوله:
( أعتقد أن ذلك ممكن إذا ما كف الأكثر بأسا وبطشا عن فرض وتعميم الثقافة الخاصة به ) وفي المسرح، فإن هذه الهيمنة؛ المتوحشة والمفترسة، ي التي جعلت الاحتفالي، عبر كل مسيرته الفكرية والجمالية والأخلاقية يتساءل:
ـ هل هناك حقا مسرح واحد أوحد، في كل هذا العالم المتعدد؛ مسرح لا شريك له، ولا مضاعف لهه، ولا مخالف له، ولا بديل له، ولا مشابه له، ولا محاور له؟
ــ وهل يمكن القول ـ وقد قيل ذلك فعلا ـ بأن هذا المسرح هو وحده المسرح العالمي، الكائن والممكن والنهائي، وأن من يبتغي غيره لا يقبل منه، وأن كل شيء خارج بنياته وتعريفاته وتقنياته وآلياته ومنهجياته ما هو إلا ظواهر فلكلوية بدائية؟ ظواهر تنتمي إلى ما قبل المسرح، والذي تمثله ـ بالضرورة ـ شعوب وأمم كثيرة تمثل ما قبل الإنسان؟
شيء مؤكد أن مقولة المسرح العالمي هي مقولة خاطئة ومغلوطة، وأنها غير بريئة أيضا، وأن الصواب هو أن نقول مسارح العالم، أو أن نقول المسارح في العالم، وبين هذه المسارح المتعددة المواقع والمتنوعة المرجعيات والخلفيات، هناك بالتأكيد خلافات واختلافات مشروعة بينها، وهناك تقاطعات فكرية وفنية وتقنية عند أكثر من نقطة، وعند أكثر من محطة، وكل هذا، لا يمكن أن يزيد مسارح العالم إلا غنى في رصيدها الفلسفي والإبداعي، ومن هذه المسارح، يمكن أن نجد مسرحا مختلفا ومخالفا أعطيناه اسم .. المسرح الاحتفالي.
وفي السياسة، يطرح شكيب أرسلان سؤاله التاريخي المعروف ( لماذا تقدم الآخرون وتخلفنا نحن؟)
وما معنى أن نتخلف؟
ونفس هذا السؤال (الأرسلاني) يمكن أن نطرحه اليوم في المجال المسرحي بشكل خاص، وأن نتساءل، أمام أنفسنا وأمام كل العالم وأن نقول:
ــ هل يكفي أن ننقل مسرح الآخر، وأن نترجمه، وأن نقتبسه، وأن نهربه، من غير أن نكون نحن، وأن نعيش عصرنا، وأن تكون لنا رؤيتنا إلى الوجود وإلى الحياة، وأن نقول ونكتب كلمتنا، وأن نضيف فبي كتاب الوجود كلمة أخرى جديدة،
وفي كتاب ( المؤذنون في مالطة) يقول الاحتفالي ما يلي
( اظن انه قد جاء الوقت لنخرج جميعا من (دائرة الجكود على الموجود) على حد تعبير الشيخ محمد عبده، وأن ندخل الزمن الجديد .. ندخله أو نؤسسهن وأ نعيش الساعات الأخرى بوعي جديد ومتجدد|||. ||إن من طبيعة الانتظار ، |إذا طال واستطال أكثر مما يلزم\\\م أن يحطم ا\لرواح\ن و\\\\\ان يدمر النفوس\ن و\ان يعمي ا\لبصار
\نني أخاف أن تمضي السنوات بعد السنوات والأيام بعد \لأيام والساعات بعد الساعات، وأن يتغير كل شيء من حولنا، وأن نبقي ـ وحدنا \ـ مخلصين للثبات والجمود والموت المقنع)
وهذا هو جوهر الاحتفالية بكل تأكيد، فهي أساسا صوت الإنسان المقهور والممنوع والمقموع، وهذا هو روحها العاشق للحرية والتحرر، فهي ليست نرجيسية ذوات تعشق ذاتها في مرآتها، وتبحث في ظلام هذا الوجود عن الضوء وحده لترى جمالها، وهي أساسا وجود مختلف ومخالف، وهي حضور يتحدى الغياب والتغييب، وبهذا فهي لا ببحث في هذه الأرض موقع قدم، وهي بهذا مجرد صرخة في عالم يتجدد في كل يوم، وهي بهذا تعبير صادق عن أحلام وأمال وآلام أمم وشعوب كثيرة جد، وذلك من أجل أن تقول كلمتها، وأن يسمع كل العالم هذه الكلمة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق