مجلة الفنون المسرحية
امتدادا وتطوير لما تحدثت عنه البارحة مساء، أثناء تواجدي في مسرح الكولين الفرنسي قبل أن أشاهد عرض مسرحي "الأم" للمؤلف والمخرج وجدي معوض، أكتب اليوم هذه الانطباعات وليس القراءة النقدية حول "مسرح السيرة الذاتية" من خلال العرض، ونقول ليس القراءة النقدية، لعدم اتساع الوقت فقط، لأنني مشغول بشيء آخر، وكل المحبة والاحترام لعائلتي الفنية من الصديقات والأصدقاء.
إن التعبير عن "مسرح السيرة الذاتية" بحد ذاته إشكالي، بقدر ما تفترض السيرة الذاتية نفسها علاقة بالوقت لا يستطيع المسرح تقديمها بكل تفاصيها. ومع ذلك، حاول "وجدي معوض" بتقديمه لمسرحية "الأم" أن يتعرض إلى طفولته من خلال حياة شخصيات عائلته وبالذات امه التي على الرغم من تأنيبها المستمر له، والعصبية التي كانت تلازمها طيلة العرض، كانت بالنسبة له، مصدر الهام لا يمكن الاستغناء عنه، ربما لأنها كانت تجمع في طياتها آلام، وانكسارات ومعاناة مجتمع بأكمله، فهي الأرض، والوطن، اللذان تعرضا للحرب، في آن واحد، وهي الحياة الشخصية الحميمة بالنسية له، وهي أيضاً الجرح الذي لا يريد أن يندمل، لأنه من العمق بحيث يصعب على الأيام أن تغطيه رغم تراكماتها ومتغيراتها المستمرة. وقد تمثل الحل الأكثر فاعلية، على ما يبدو، بالنسبة للمخرج والمؤلف "وجدي معوض"، في الاقتراض من جماليات بريخت في تقسيمه للعمل إلى "لوحات"، كل منها يمثل لحظة فريدة ومهمة من حياة الشخصيات، مع خطر إغفال تعقيد الوجود، خاصة تلك الرابطة الوثيقة التي تجعل العمل يغذي الحياة، والعكس صحيح،
لكن المسرح غالبا ما يخترع ما ينقصه ليقدم جوهره، أي الحوار، والكلمة الحية، التي يتم تبادلها بين شخصين يصبحان فيما بعد شخصياته. ولقد أعاد "وجدي معوض" في هذا العمل اختراع التسلسل الزمني، أو المساحة المرجعية التي يتم تحريكها باستمرار، لأسباب واضحة تتعلق بالقيود المسرحية، لتتحول بالتالي بشكل متناقض إلى مصادر من مصادر الحرية، التي تجعل في امكانية المسرح، على سبيل المثال، أن يجمع بين كائنات خيالية وكائنات حقيقية، وفي بعض الأحيان، كائنات خارقة للطبيعة على نفس المستوى، أو حتى تقديم نفس الشخصية في عمرين مختلفين أو أكثر في وقت واحد. وفي هذه الحرية الهائلة في التمثيل يكمن كل سحر "مسرح السيرة الذاتية".
مع ذلك، يمكننا أن نرى في هذا العرض حدود وحرية ما هو ممكن في "مسرح السيرة الذاتية"، لا سيما أن المسرح هو الفن الحي وليس فن الحياة فحسب. يؤدي تقييد الحوار الذي يقوم عليه المسرح بالضرورة إلى انتهاك الحقيقة التاريخية الصارمة، لكن تقييد الحقيقة التي تكمن وراء السيرة الذاتية يدفع الكاتب المسرحي إلى اللجوء إلى الاقتباس، المأخوذ من عمل السيرة الذاتية. إن سهولة الاختراق هذه بين المستويات الوجودية الناجمة عن أزمة التمثيل، تلفت انتباهنا إلى أن "مسرح السيرة الذاتية" هو دائمًا، بطريقة ما، مسرح سيرة ذاتية، إنه يخدم السيرة الذاتية قبل كل شيء لتأكيد المكانة الفنية الفريدة للكاتب المسرحي، وخاصة إذا كان هو المخرج نفسه المؤلف. وهذ ما ينطبق بشكل مباشر على "وجدي معوض" في هذا العمل، أو غيره من الاعمال التي شكلت بمجموعها خماسية يدور موضوعها عن الأسرة،
(مسرحية وحيدين، و"أخوات" مع عملين قادمين "أب" و"أخوة" بعد عمل "الأم" هذا، الذي يروي من خلاله بعض تفاصيل حياة عائلته وهجرتها من لبنان، إلى فرنسا وبقائها فيها مدة خمس سنوات، ثم كندا، ثم عودته إلى فرنسا ليصبح مديرا لمسرح الكولين الوطني الفرنسي.
في اعماله الأولى لهذه السيرة الذاتية، كنا نلاحظ بشكل كبير تأثره بالميثولوجيا الاغريقية، ولكنه في هذا الأخير كان أقل تأثراً أو بالأحرى كان أقل مباشرة، ولكنه مع ذلك، لم يبتعد كثيراً عن الميثولوجيا، ربما لأنه فضل أن يكون قريبا أكثر من لبنانيته هذه المرة، بالتجائه مثلاً، إلى
اللهجة اللبنانية المترجمة من غير شك، وإلى المطبخ اللبناني ورائحته الشهية التي كانت ترافق العرض من أوله حتى آخره، من خلال اعداد "الام" مع أبنائها للطعام بشكل مستمر، لكي يلقي، بالتالي، المتفرج في أحضان الذاكرة، الهوية، الماضي، وخاصة بعلاقته بأمه التي لم يراها تبتسم يوماً، بسبب الحرب وقسوتها التي لم تنته حتى اليوم، وخوفها وقلقها الوجودي من أن تبتلع أولادها ثقافة أخرى مغايرة للتقاليد اللبنانية المسيحية التي نشأة عليها. في هذا المعرض الملحمي للعائلة، يجمع المؤلف المخرج "وجدي معوض" الأجزاء المتناثرة من لغز وأحجية الذاكرة، لكي يثير مسألة الهوية، والعلاقة بالأصول. ويصبح الأمر أكثر صعوبة وتعقيداً عندما نستدعي الذكريات المقطوعة بمرور الوقت. لأن " الشيء المزعج والممل في الذاكرة، مثلما يقول العمل، إنها تعتقد دائمًا تعرف متى تقوم بسرد القصص فقط ". والذاكرة هي المادة التي يستخدمها المؤلف لخلق، ليس عملًا في السيرة الذاتية، بل عملًا خياليًا. فمن خلال استدعاء والدته، يوقظ "التجربة المؤلمة للحرب الأهلية" وقبل كل شيء هذا الحب الذي لا يتعافى منه المرء أبدًا.
لقد اعتمد وجدي معوض على ممثلات لبنانيات (عايدة صبرا، في دور الأم، وأوديت معلوف، بدور الأخت، و" تيو عفيفي" بدور و"جدي معوض" في عمر السنوات العشر، بالإضافة إليه كوجدي في هذا العمر، وهو يقود خيوط اللعبة المسرحية مباشرة على خشبة المسرح، ليس ككانتور المخرج البولوني، وإنما كممثل في العرض أيضاُ، لكي يقدم من خلال ذلك الأزمة الوجودية للفنان نفسه، كراو ومشارك، وصانع للأحداث الواقعية والمتخيلة التي يسمح بها المسرح ولغته السحرية. مع الحضور المفاجئ للصحفية البلجيكية "كريستين أوكرينت" بدور مذيعة الأخبار، التي كانت ترافق احداث الحرب اللبنانية، بشكل مباشر آنذاك من على شاشة التلفزيون الفرنسي. يخاطب مسرح "وجدي معوض" ذاكرتنا ومشاعرنا وخيالنا للحديث عن الإنسان. عروضه هذا بقدر ما يمسنا ويزعجنا ينقلنا إلى عالم المسرح السحري، من خلال حديثه مثلا عن لوحة بول سيزان "المزهرية الزرقاء"، التي كانت الوحيدة في البيت، التي لم يشملها صراخ وعصبية الأم. من خلال كلمات وجدي معوض، وليس شخصيه فقط، يظهر الآخر على خشبة المسرح. وفي الحوار بين "الانا" وكلمات الآخر، تظهر العلاقة المحاكاتية التي تميز كل سيرة ذاتية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق