مجلة الفنون المسرحية
بمنتصف شهر شباط من عام 1978 ، عُرضت مسرحية كلكامش على المسرح القومي بكرادة مريم وكان المسرح يقبع ببداية القصر الجمهوري خلف مبنى وزارة التخطيط ، وبمحاذاة مستشفى الطفل ، والدخول اليه يبدأ بشارع فرعي ينتهي باستدارة بسيطة تصلك به ، وهو مسرح صغير قياسا بالمسارح التي افتتحت لاحقا
ولأن المكان يوحي بشيء من الريبة ، والتوجس ! تتسلل تلك الهواجس لمن يروم الذهاب للمسرح القومي تحديدا ، وتحاصره الكثير من الشكوك التي تؤدي للكثير من الٱلتفات بما يحيط المكان من الأمن المتوجسين من حضورنا ! وهذا المكان الآن هو قلب وقلعة المنطقة الخضراء !؟
كنا حضرنا نحن مجموعة من عشاق المسرح وحرصنا على متابعة العروض الاستثنائية خاصة ، لمشاهدة مسرحية گلكامش المأخوذة من اصل الملحمة التي ترجمها الآثاري العظيم د.طه باقر ، والتي كتب الأغاني لها الشاعر د.علي جعفر العلاق وقام بتلحين الموسيقى والأغاني لها الملحن الشاب حينها جعفر الخفاف ، ووضع لها الديكور واختيار الازياء الرسام الكبير والاستثنائي كاظم حيدر ، وكان المخرج لتلك الملحمة هو الفنان الكبير الاستاذ سامي عبد الحميد " يلاحظ هنا فخامة ممن اشتركوا في رسم معالم تلك المسرحية من كلمات والحان وديكور واخراج وايضا الممثلين " .
( اميرة جواد وطعمة التميمي ومشهد من المسرحية ) |
حينها " وبعد تجاوز كل تلك العقبات النفسية الضاغطة بفعل هيمنة مكان المسرح في هذه البقعة " " طبعا بعد تلك المسرحية تم إلغاء المسرح والحاقة بمساحة القصر الجمهوري وتسييج المدخل المؤدي له بمصدات وعوارض حديدية " كنا مجموعة قليلة جدا ممن حضروا للمسرح ، لم نتجاوز الثلاثين ! وساد شك بيننا بأن العرض سيلغى ، او يتأجل ليوم آخر بسبب العدد الضئيل لمن حضر ؟ وقتها كان مدير المسرح الفنان الكبير محسن العزاوي ، والذي قام بالنظر من زاوية المسرح اليسرى وكأنه يعد الحاضرين ، وسط قلقنا من عدم قناعته بتقديم المسرحية " ومؤكد ان عمل مسرحي وملحمي بهذه الضخامة والجهد المبذول قد يدفع بتأجيله للاسباب التي ذْكرت " ! لكننا سمعنا صوت المخرج سامي عبد الحميد المهول وهو يقول للعزاوي : بلش عيني ابو سنان . وكان إن بدأ العرض امام ذهولنا وعدم تصديقنا بما حدث .
واكتظت خشبة المسرح القومي " الصغيرة نوعا ما " بعرض مهيب تخللته اسماء من اعماق تاريخ العراق القديم مثل عشتار التي اعلنت قبولها بالزواج من كلكامش وتمنعه عن ذلك ! وصاحبة الحانة التي تنبأت بعدم جدوى بحث كلكامش عن الخلود ، وشامات العاهرة التي أغرت انكيدو للخروج من الغابة ، واتونابشتم والملك كلكامش النص إله ونصف بشر ! وصاحبه المتوحش انكيدو ، وأنليل وسيدوري ونينسون وشخصيات اضافت لوجود كلكامش الكثير من البهرجة والسحر ، وحضور ملفت وجريء من جانب الممثلات سعاد عبد الله وهناء محمد ومي جمال واميرة جواد بظهورهن بأزياء جريئة ولم تك سائدة في عروض المسرح وقتذاك . وايضا ما تركه فينا الاداء التمثيلي للكبيرين طعمة التميمي وعبد الجبار كاظم وهما يجسدان ابرز شخصيتين بالمسرحية .
( طعمه التميمي بدور كلكامش وعبد الجبار كاظم بدور انكيدو في مشهد من المسرحية ) |
إنها ندرة ، ووقت استثنائي ، وفرصة لن تتكرر بمكانها وزمنها ، ان تحظى بعرض مهيب ومتكامل لعمل مسرحي يُعد من عيون العروض المسرحية في البلاد آنذاك . وهو امر تحفل به الذاكرة وتحفظه بتلابيب حصنها ، وهو مدعاة للفخر وللتباهي بأننا شاهدنا مسرحية گلكامش بوقت نادر وتحولات تشي بالمغايرة لزمنِ أفول محتمل .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق