تصنيفات مسرحية

الخميس، 18 مايو 2023

يلزارع البزرنكوش .. من هؤلاء ؟/ د. سعد عزيز عبد الصاحب

مجلة الفنون المسرحية 


يلزارع البزرنكوش .. من هؤلاء ؟

يعمل المخرج / المؤلف (علي الشيباني )مع فرقة السراج للمكفوفين في كربلاء على اذكاء المضمر والغائر والمسكوت عنه في ما هو اجتماعي وسياسي وعكسه خطابا مسرحيا بعدة تجارب مؤثرة اقامها مع فرقته صعبة المراس في تطويعها للعمل على خشبة المسرح  تلك الشريحة المقصية والمهملة في مجتمعنا التي تحولت فواعلها مع الشيباني الى منبر فكري وجمالي قل نظيره ..في نصه الجديد (يلزارع البزرنكوش .. من هؤلاء) الذي دونه مع الكاتب والممثل (شاكر عبد العظيم) يكمل الشيباني مشروعه الجمالي في الاشتغال على النسق الوقائعي اليومي ولكن هذه المرة من منظور (ناستالوجي) باستعراض لحياة ام وأب ومخرجاتهم من ابناء جابوا الارض والافاق وعادوا لحضن ابيهم وامهم ليحتفلوا بعيد ميلاد ابيهم في كناية رمزية للوطن والارض واصبح الممثل /الكفيف ضمن المعادلة الجديدة للعرض هو جزء من الشخصية الدرامية ليس بوصفه ممثلا بصيرا يعمل مع المخرج انما اصبح العمى جزء من اللعبة والتكنيك المسرحي وتاريخ الشخصية وبعدا من ابعادها وبذلك وظف (الشيباني) الضرر البايولوجي لصالح العملية المسرحية مستثمرا الخزين الدرامي للعمى و(شعريته) المسرحية فيستحضر العمى الاوديبي ـ من اوديب ـ لكي لا ترى الشخصيات واقعها المأساوي وتهرب منه نحو ذاتها وضميرها المستتر فتبوح ما شاء لها البوح والاعتراف ، تتجه المسرحية بحبكتها على وفق نظام المسرحية التعبيرية وسياقها الذي يحتكم لنسق المحطات الزمني والغور في اتون رحلة طويلة شاقة (رحلة الميلاد والممات ) التي ادت بدورها الى عودة الابناء لمكانهم الاصلي الاول ، مكان الطفولة واللعب ـ المكان الاليف ـ حسب باشلار ، لكن الام لا تريد ابناءها ترفضهم كشخصية (ميديا) في المسرحية الاغريقية المعروفة التي تحاول قتل ابناءها وطردهم .. الوطن ينبذ ابناءه في اشارة بليغة للوقائع العراقية ولكن لا مناص من العودة .. ملعون البلد الذي ليس لديه ابطال ، الاب عنين لا يستطيع ان يعطي الام بذارا جديدة كي تلد .. انه الجدب .. النضوب .. السؤال الوجودي المر .. لم ننجب الابناء؟!.. البزرنكوش ذلك النبات زكي الرائحة .. رائحة مقتبل العمر .. اصبح لا يفيد .. انما اخذ يطالب الابناء / الكهول بالحناء لانهم كبروا وشابوا سريعا .. المغني يوقف الزمن بالغناء كاسرا يقين السرد والبوح لدى الابناء الذين تحولوا فجاة لدى الام الى كرات من خيوط الحياكة وتارة هي الرؤوس تتطاير اثر تفجير ارهابي جبان ، وتارة اخرى هي اداة للاحتجاج والرفض على الاقصاء والتهميش الذي حاق الابناء عبر دلالات سيميائية عديدة ومعان جزلة اعطتها المفردات المسرحية بتكورها ودائريتها في انشاء المبنى الفلسفي للعرض فمن خلال الاشكال الدائرية اخرج الابناء رؤوسهم  منها واطلوا وكأنها مقاصل الموت الابدي الذي يحيق بهم وكوميديا الخوف التي تسرد سخرية الابناء من زمنهم حاضرهم وماضيهم زمنهم المهدور في دير العاقول كما يعبر الراحل (عادل كاظم ) في احدى عنوانات مسرحياته ، جاء الاستدعاء الدرامي للابناء من خلال احتفال الاب بعيد ميلاده السابع بعد الالف ذلك الاحتفال الفنتازي الاسود الذي يتحول وسيلة لبوح الالام والمرارات ذكريات الحروب والتعذيب والظلمة الحالكة برمزية الحوار الفائقة :
الام ـ نسيت ان اخبركم اننا اليوم نحتفل بعيد ميلاد زوجي وهو يحتفل بالفيته السابعة ..
الابن ـ حيل .. سبعة الاف عام مضت ونحن مازلنا نعيش في هذا الظلام !
الاب لا يريد ايضا ولادات وابناء جدد كي لا يقضوا في الحروب والتظاهرات والمصائر المواربة الحائرة .. ويا لهم من ابناء ابن يعمل في بيع الدموع والضحكات واخر يهدي حكايات الخوف والجنون والسعادات لمن يهواها ، يُكسر الوهم بين الفينة والاخرى بموسيقى تصويرية تؤذن ببداية الاحتفال وحتى اختيار الميلودي الموسيقي الغنائي يحمل دلالات لعبة الزمن فمقطع اغنية المطربة (فيروز) (حنا السكران) هي استعارة بليغة لدائرية الزمن وشيخوخته في المسرحية وثيمتها الاساس برحلة الميلاد والممات ، وكانت اللوحة الختامية للعرض حين وقفت مجموعة الممثلين اعلى خشبة المسرح ونزل عليهم اطار الصورة فاصبحوا دلالة لمأتم كبير بسيمياء الاطار المعلم بالخط الاسود تلك اللوحة النهائية التي مزقها المخرج بسكينه الحاد ليعلن بدء الحياة واستمرارها ولعن الظلام ومريديه ، كانت لوحة مسرحية مؤثرة تشي عن تقنية برشتية خالصة استطاع من خلالها المخرج ان يقيم علاقة تواصلية تحمل رسائل (تنويرية) من والى المتلقي في ان علينا ان نكسر ونحطم صورة الموت لنبدأ جميعنا حياة جديدة  ، استطاع المخرج ان يستنطق ادوات ممثليه الصوتية والجسدية في بناء اشكال نحتية مجسمة اشبه بالنحت البارز في الصورة المسرحية بتكوينات وتشكيلات مركزة ومتبأرة لم تدعنا نشك لحظة واحدة بأننا امام ممثلين كفيفي البصر في سلاسة الحركة وسهولتها وابراز مكنونات طاقاتهم الصوتية الغنائية لدى كل من ( كرار الغالبي    )و(جنان الربيعي) بميلوديات مباشرة للاغنية التراثية يلزارع البزرنكوش ووضوح النبر الصوتي في الحوار بلغة عربية سليمة خالية من اللحن والعي الذي لازم للاسف اغلب ممثلينا الاصحاء في عروضنا القليلة الماضية ، وبنبر مسموع واداء ذي تصاعد ايقاعي وحسي ملموس ، وقدرة عجيبة من الممثلين على التشبث بمضامين الحوار ومعانيه وفهم دلالاته العميقة  وخصوصا (عثمان الكناني ) الذي اضطلع بدور الاب والممثل (علي البصير ) بدور البائع والمشتري و(احمد الرماحي )بدور السياسي و(فاطمة حيدر ) بدور الام و(عمار رميض ) بدور الابن الساعي الباحث عن السعادة والشخصية الرمزية الضوء والتي اداها (صادق مكي) وتوقيت سليم ومؤثر للفنان (وسام السلام ) في المؤثرات الصوتية .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق