مجلة الفنون المسرحية
تمثل تجربة المسرح العراقي في المنفى تجربة حرية بالتنقيب والتحليل والدراسة لأنها جاءت اولا تجربة طويلة نسبيا من حيث الزمن لا تشبه المنافي الاخرى للفنان المسرحي في العالم ، كتجربة البولوني (سلافومير مروجيك) مثلا او الالماني(برتولد بريشت) او الفرنسي(جورج شحادة)او غيرهم حيث ان هؤلاء المسرحيين الغربيين عادوا الى اوطانهم في حين ان المسرحي العراقي المنفي ظل طيرا مهاجرا هجرة ابدية الا ماندر من المسرحيين الذين عادوا الى وطنهم الام ـ وثانيا لكونها تجربة غزيرة الانتاج والسعة تمتلك (انطولوجيا) مسرحية واسعة من حيث عدد العروض المسرحية والاسماء التي انجزتها ، وحصيلة (التثاقف ) والحوار الحضاري الذي خرجت به ، ويبقى السؤال الاشكالي يدور حائرا حال وصول المسرحي المهاجر الى منفاه : هل يقدم المسرحي المنفي موضوعات وافكارا تناغي العقلية الثقافية لجمهور الوطن الجديد ؟ كأنها بضاعتنا ردت الينا ، ام يقوم بتسويق نتاجه الثقافي (فلكلوره تراثه عاداته) بشكل درامي الى جمهور البلد الجديد ؟ ويمكن استقصاء اجابات هذه الاسئلة من لحظات التمزق والانشطار في وعي المسرحي العراقي التي عاشها في المنفى فهذا الراحل (عوني كرومي)ينتهي بعد حياة طويلة في المنافي الى النتيجة الاتية : ( كنا نعتقد ان المسرح في بلدان المهجر سيفتح ابوابه مشرعة ويرحب بنا، ولكن على الرغم من منافستنا لهم ، ان لم نقل تفوقنا في هذا الشأن ، فأن جدار القطيعة مازال عاليا ، والواقع خلاف كل التوقعات لان الاخر لا يقيمك ما دام لا يعرفك وان تنازل قليلا ، فذلك لانه في احسن الاحوال سيعرفك من خلال تجربتك معه واستنادا لقدرتك للانصهار في ثقافته ) فأعاد (كرومي ) في مهجره الالماني مسرحية (ترنيمة الكرسي الهزاز) تأليف (فاروق محمد) واشعار(عريان السيد خلف) والتي لاقت صدى واسعا حين قدمت في بغداد ، وقدم ايضا مسرحية (صلاح عبد الصبور)(مسافر ليل ) ايمانا منه بمفهوم المثاقفة والانفتاح على الاخر من خلال الانساني المشترك والمحلية العابرة للحدود ، الا ان كلا المسرحيتين قوبلتا بفتور بالغ من قبل المتلقي الالماني ، لان استمرار(عوني) في تقديم النسق الشرقي بجمالياته وافكاره من دون خلق مزيج ثقافي غربي/ شرقي متوافر على مشكلات واجواء غربية محضة لن يجد له اذانا صاغية في ذهن جمهور المهجر ، وبطبيعة الحال فأن المتلقي الجديد يريد ان يشاهد مشاكله وعلله شاخصة على الخشبة فهو قد يقبلك ببضاعتك بادئ الامر الا انه يريدك ان تنصهر بثقافته ومشكلاته اليومية فيما بعد ، لذلك ظلت هذه العلة حاكمة في فضاء الاستهلاك الجمالي للمتلقي بالنسبة لمسرحيي المنفى ، كل هذه الاسئلة والاستفهامات نناقشها من خلال قراءتنا لكتاب (المسرح العراقي في المنفى ) للباحث (محسن راضي) وهو على الارجح رسالة ماجستير او اطروحة دكتوراه دونها الباحث في مهجره الدنماركي وصدرها بكتاب بخمسة فصول اشترع فيه الباحث عنوانات فرعية عديدة فكك فيها المفهوم الثقافي للمنفى وملامح مسرح المنفى وعروض مسرح المنفى وليس انتهاءا بالنتائج والاستنتاجات والتوصيات التي خرج بها الباحث متخذا من بعض الاسماء المسرحية المهمة المنتقاة من اعداد غفيرة من مسرحيي المنفى عينة اجرائية له فأنتقى الاسماء (فاضل الجاف وحازم كمال الدين وجواد الاسدي وعوني كرومي) على اختلاف اساليبهم الاخراجية وتوجهاتهم الفكرية والجمالية بوصفهم من المسرحيين المؤثرين في المهجر ، ولديهم تجارب نفي في بلدان مختلفة ، ففاضل الجاف يزاوج بين التقنية المسرحية الغربية ممثلة بمنهج (البايو ميكانيك)في عمل الممثل ومصطلح (البنائية)في السينوغرافيا للمسرحي الروسي(مايرهولد)والموضوعات الشرقية واجواءها الخيالية من منظور غربي كما في مسرحية (حلم ليلة صيف )لـ(شكسبير) واعداده المائز لحكايات (الف ليلة وليلة) واخراجه لمسرحية (المهاجران)لـ(مروجيك) بنسق وظف فيه مبادئ البايوميكانك والبلاستيكا الجسدية مع نص اغترابي حالم ، فالجاف مسرحي متحرك اذاب موضوع المنفى بالعمل المستمر في اكثر من مكان منجزا للورش المسرحية فكان بحق وسيطا للثقافات ..اما تجربة المسرحي (حازم كمال الدين) فكانت اكثر انحيازا للطقس المسرحي الشرقي المستعاد من الممارسات الدينية والبدائية ولكن بأساليب جسدانية غربية اعتمدت فنون (الكيروغراف)و(البانتومايم) متمكنا من تاليف نصه البصري بمواضعات مغلفة بروح شرقية ف(كمال الدين) لم يستطع الخروج من دائرة المزاوجة بين الثقافتين الغربية والشرقية ، فنرى في عروضه حدث شرقي ورؤية فنية تقنية غربية في عروض (دماغ في عجيزة)و(ساعات الصفر) و(الاسفار) ولكن رب سائل يسأل لم اخذ (كمال الدين)بتأليف نصه بنفسه ولم يغرف من المنظومة الدرامية الغربية متنوعة الانواع الفنية ؟ وذلك لانه ابن تجربة مجتمعين وبيئتين مختلفتين فمن يستطيع ان يجمع بين هذين البيئتين المتنافرتين ويعبر عنهما دراميا سواه .. وينتقل الباحث لاكثر مخرجي المنفى حركية وانتشارا وتجذرا في المنافي والبلدان فـ(جواد الاسدي) يختلف عن الاسماء الانفة بكون منفاه جاء عربيا خالصا فقد مكث في سوريا ولبنان والامارات والمغرب الا في بعض سني لجوئه القصيرة في السويد ، وهو بذلك يتخلص من عائق اللغة وما تخبئه من عصي بوجه الخطاب المسرحي في المنفى ، واندك الاسدي بقضايا عربية خالصة كالقضية الفلسطينية والارض والثورة والسلام والدكتاتورية والعنف الثوري بعروض (الاغتصاب)و(راس المملوك جابر)و(عائلة توت)و(خيوط من فضة) الى ان تحول الى كتابة نصه بنفسه بعد فهمه واستيعابه لتجربة المنفى العربي بقضاياه الانسانية المشتركة ولكن بقي العراق شاخصا في موضوعات نصوصه كـ(نساء في الحرب) و(حمام بغدادي) و(مندلي) وغيرها ، ويطيب للباحث محسن راضي ان ينعت (الاسدي ) بكونه (غجري المسرح العربي)نتيجة الانتقال المستمر والتيه بين الامكنة والمدن التي مازال يبحث فيها عن ضالته من خلال مكانه الاثير خشبة المسرح .وفي نهاية الكتاب يدرج الباحث جدولا بأسماء مسرحيي المنفى المنتشرين في ارجاء المعمورة زادوا عن المئتي فرد بين ممثل ومخرج وتقني ومؤلف والعدد مرشح للزيادة طالما لم تتوفر البيئة الملائمة للنشاط المسرحي المستمر والمدعوم من قبل الدولة والقطاع الخاص معا .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق