مجلة الفنون المسرحية
ثامر مهدي .. تأملات في الحياة والرحيل
عندما قرأت خبر رحيل الاستاذ والمعلم ثامر مهدي ، تذكرت احلامه واشواقه لهذا الوطن الذي ادار له ظهره ، وتراءت لي السنوات التي قضيتها بصحبة " ابو لؤي " . ربما لا اتذكر السنة التي تعرفت فيها على ثامر مهدي ، فمثل هذا الانسان يجعلك تشعر انك تعرفه منذ زمن بعيد ، فلفرط حميميته تكاد توقن انه احد اقاربك ، فصاحب الوجه المبتسم كان يشيع الحميمية والاطمئنان من حوله ، وتظل تسأل ترى من اين جاء بكل هذه الطيبة التي ينثرها على الآخرين ؟ . لم يكن ثامر مهدي استاذا للجماليات في كلية الفنون الجميلة ولا كاتبا متميزا للسيناريو الدرامي ، ولا فنان وجد ان طموحاته اكبر من خشبة المسرح ، لكنه كان مثقفا اصيلا ومبدعا ، وقبل كل هذا انسانا يحمل معرفته الخاصة وذلك الولع التواق الى تحويل الفن الى قيمة جمالية وفكرية . ولعل بسبب تلك المعرفة وذلك الوعي ارتبط اسم ثامر مهدي باروع افلام السينما العراقية " الظامئون " وبأهم انتاج درامي عراقي " حرب البسوس " ، وبجيل من الطلبة حاول ان يحقق احلام اساتذته ورؤاهم الفكرية والجمالية للمسرح والسينما والتلفزيون العراقي .
قادتني الصدفة الجميلة للتعرف على الاستاذ ، عندما اخبرني الصديق جواد الشكرجي اننا سنذهب في سيارة " الفولكسن واغن " الى مدينة الحبانية حيث يتم تصوير مسلسل " حرب البسوس " وكان جواد يمثل فيه اول ادواره المهمة ، شخصية جساس ابن كليب . لم اكن اعرف ثامر مهدي ، كنت اشاهده في كلية الفنون الجميلة متأبطا ذراع احمد عباس صالح او منهمك في حوار مع المخرج جعفر علي او يجلس في الكافتريا وحوله شلة من المحبين ، وكنت اسمع عنه من خلال احاديثي مع الخال خليل شوقي الذي كان يسميه " بابا ثامر " . كانت السيارة التي ذهبنا بها واصبحت فيما بعد سيارتنا الخاصة انا وجواد الشكرجي هي ملك لثامر مهدي الذي اعلن انه سيتتلمذ على يد جواد ليصبح سائقا ماهرا ، واستمرت هذه التلمذة لسنوات ، كان فيها الشكرجي " يزاغل " من اجل ان تبقى السيارة اطول فترة ممكنة معنا ، في الوقت نفسه ك ثامر مهدي مستمتعا بما يجري
اتذكر الآن الحوار الاول الذي جرى بيني وبين ثامر مهدي عن مستقبل الدراما ، يومها كنت قد نشرت في صحيفة الجمهورية مقالة عن الدراما العراقية، لم اكن اتوقع انها ستحظى بمتابعته وكأي شاب متحمس وقليل الخبرة والمعرفة، اخذت احاجج المعلم واحاول ان استعرض قراءاتي ، فيما هو ينظر اليه مبتسما، وما ان انتهيت حتى تدفق محاججا على طريقة سقراط الذي كان يعشقه ، فاضاف العمق الى فكرتي ، وخلع عن حماستي ثوب المغالاة الساذجة ، وعلمني كيف اضع افكاري موضع المساءلة ، لأجد نفسي امام شخصية ساحرة امتزجت فيها الرؤية الانسانية، مع جمالية فنية متميزة ، كان وهو يحاول أن يصحح خطواتي الأولى في كتابة النقد الفني، يعلمني درساً في كيفية مخاطبة القارئ بلغة مفهومة ذات دلالات واضحة.
ظلت النزعة السقراطية في الحوار هي التي تَميز ثامر مهدي سواء في قاعة الدرس او في جلسات الاصدقاء او في الندوات التي كان يحضرها . ولم تكن رفقتي وحواراتي معه طيله السنوات التي كنا نلتقي بها بشكل يومي ، تحمل طابع التلمذة او الصداقة فقط ، وانما قبل ذلك وبعده تحمل معنى الابوة ، التي يتغلب فيها معنى الأب على معنى الاستاذ او الصديق ، فكان ثامر مهدي يتعامل مع طلبته والمقربين منه من مفهوم الرعاية الابوية لطلبته انسانيا ومعرفيا ، فكان بيته مفتوحا للجميع لايتردد في رفدنا بكل ما ينقصنا في مجال الفن والفلسفة ، هذه الانسانية التي امتزجت بنزعة وجودية كانت ترى في التمرد على الواقع سبيلا لبناء قدرات الانسان . هذا التمرد الذي دفع ثامر مهدي ثمنه حين تم نقله من كلية الفنون الجميلة التي كان يعشقها الى جامعة الكوفة عقابا على مشاكساته ورفضه الانتماء الى " الحزب القائد " .
اتسمت حياة ثامر مهدي الثقافية بسمة الموسوعية التي كانت تضرب في كل اتجاه ، وتتنقل ما بين حقول المعرفة ، في سعي لا يكف عن الحركة والكتابة ، تصل صاحبها بكل فروع الثقافة وتجعل من مسيرته متعددة الادوار ، فنجده استاذا جامعيا ، ومشتغلا في النقد الفني وصاحب مسيرة في مجال الدراما السينمائية والتلفزيونية ، وكان قبلها مخرجا مسرحيا خاض تجربة يتيمة " كاليغولا " وكتب مسرحية وحيدة " فائض عن الحاجة " ، وعددا من القصص القصيرة ، نَّظر للمسرح المدرسي وضرورته . ووضع كتابا منهجيا للتاليف التلفزيوني ، وفي الوقت نفسه ترجم عدد من الكتب تنوعت بين الفلسفة وعلم الاساطير والجماليات . وبسبب تلك المعرفة وذلك الوعي ، ارتبط اسم ثامر مهدي بالسعي لكتابة درامية حديثة، ولعل سيناريو فيلمه "الظامئون " كان علامة تمرد على طرائق السينما العراقية في اختيار موضوعاتها ، وايضا رغبة متمردة لتقديم شخصيات واقعية تواجه صراعاً مضاعفاً. فهي تقاوم الوقع الاجتماعي المتخلف من جانب ومن جانب آخر تواجه الطبيعة القاسية التي تعطلت بسبب الجفاف الذي أوقف كل شيء ولم يبق سوى الموت . كان ثامر مهدي آنذاك يخطو خطواته الأولى في السينما وكان الامتحان الأول الذي كما أخبرني، أن رواية الظامئون عالم يموج بالحركة والحركة فيها ليست عشوائية بل هي صراع محدد يدور وفقاً لقوانين فكر محدد وهو لهذا صراع واقعي في الدرجة الأولى لاتحركه بطولات فردية زائفة أوحوادث مفتعلة ولهذا سعى أن يقدم سيناريو يجمع بين ذاتية الإنسان وبين الحدث المليء بالحركة والشخصيات.. فنحن في الفيلم أمام شخصيات تجمع بين البساطة والتعقيد، فهي شخصيات عادية الى درجة غير عادية.. ولم يقتصر عمل ثامر مهدي وبالتعاون مع المخرج المبدع محمد شكري جميل ، في الظامئون على ترجمة رواية عبد الرزاق المطلبي الى حركة مستمرة على الشاشة بل تعدى ذلك الى خلق حياة تشد المتفرج، وتعيش وتنمو في مشاعره وفكره معاً.
في حوار قصير اجريته معه ونشر في صحيفة الجمهورية في بداية الثمانينيات سألت ثامر مهدي عن مفهومه للعمل الفني ، فكانت اجابته مرتبطة بمفهومه لقيمة العمل الفني ومدى قدرته على الاستمرار قائلاً :" العمل الفني يجب ان يرتبط بالمعرفة ، وان هذا الارتباط هو الذي يحدد قيمة هذا العمل من حيث ما يخلقه في وعي المتفرج او ما يعكسه في وعي الفنان ، ويفضي ذلك الى ان كل عمل فني يفترض ان يصدر عن رؤية متكاملة للواقع " .
في واحدة من المتع التي عشتها مع الاستاذ، هي الحوارات التي كان يجريها مع المخرج عمانؤيل رسام عن تصوره لمسلسه " حرب البسوس " ، آنذاك انتبهت للملاحظات الدقيقة التي يطرحها الاستاذ ، ولحالة الانصات التي تملكت المخرج القدير ، ومن خلال الحوار تتكشفت لي نظريته المتكاملة في الدراما، وفي اهمية الصورة التلفزيونية وتاثيرها على المتفرج ، وفي الدور الذي يلعبه الحوار الذكي ، واكتشف أن الأمر لا يتوقف عند كتابة سيناريو لرواية او تحويل حكاية تاريخية الى مسلسل تلفزيوني ، لكنه ينزل الى التفاصيل، احساسه بالصورة ، بالكلمة، بموسيقى الجملة، بالحركة الداخلية التي ستنفجر بحركة ابداعية على الشاشة ، بشخصية الممثل ومقوماتها، بالعلاقة الجدلية بين مجموع الممثلين وبين النص الذي سيقدمونه . قال لي مرة عليك ان تقرا باستمرار ، فكتابة السيناريو او المسرحية حرفة ، والاتقان وحده ليس كافياً. إن الحرفة هي الجهاز الذي ينفّذ به الفنان الموضوع الذي يريده ، لكن هذا الجهاز يحتاج أن يمتلئ بمادة ، فلا يمكن أن تعمل السيارة من دون بنزين . و" بانزيننا " نحن الكتاب هذه واشار الى مئات الكتب التي كانت تحتويها مكتبته المنزلية .
سألته ذات مرة وهو يقول لي انه في الطريق لدخول عقده الخامس :
- بأي معنى يفهم ثامر مهدي الحياة ؟
-بالولادة والموت
-لو قدّر لك أن تعيش بدون كتابة .. فماذا تفعل ؟
-يمكن أن أصاب بمرض الكآبة ، فالأيام التي ليس فيها مشاريع او دروس او اصدقاء ، أيام تعيسة .
قلت له بعد ان شاهدت حلقات مسلسله " حرب البسوس " :
- لو لو طلب منك ان تكتب نقدا .ماذا ستقول ؟
- اقول ان كاتب السيناريو يحتاح أن يجدد نفسه من أجل أبداع اكثر جديدة وحيوية لرؤيته وإحساسه .
ثامر مهدي المولود في بغداد عام 1942 تجرأت ذات يوم لاطلب منه ان يتحدث عن طفولته ، فقد كنت اعتقد ان ثامر مهدي ولد هكذا ، حياته كلها حوارات وجدالات وبحث وافلام ودروس ، من الصعب ان اتخيله بصورة اخرى غير صورة الرجل الذي يثير زوبعة من الاسئلة ومعها فواصل من الضحك اللذيذ .. قال لي وكأنه يتذكر شريطا سينمائيا :
-كانت طفولتي طويلة وممتعة
يرحل ثامر ويسحب وراءه باب زمن جميل ، اضاف فيه الى حياتنا نحن الذين عرفناه ما يجعلها اجمل وأقرب الى الفهم ، وزودنا بما يجعنا اكثر وعيا ، رحل وترك لنا على الاقل حق استثمار الذكريات الجميلة والصادقة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق