حمزة الغرباوي
يقوم الفضاء المسرحي في العادة على عدة ركائز أساسية اتصالية من شأنها أن تصنع عرض صالح للتقديم على خشبة المسرح ، وأن من بين أهم تلك الركائز التي تستحق الوقوف والبحث، والتحليل ،والتفسير ،والنقد ، هي أولا النص المختار ثانيا الاخراج المتطور والمتجدد وأخيراً الاداء التمثيلي المكثف في الفضاء ، إذ أن مجموع تلك الركائز الثلاث من شأنه أن يشكل سياق تواصلي ،ومعرفي خطير يدهش المتلقي مرة ، ويثير فيه نوازع الإخلاص ، والعبثية ،والجنون والسخط ، والرضا مرات عديدة ، أما اذا كانت هنالك حلقة ركيكة، او مفقودة بين هذا الثالوث الاساسي المقدس ،فإن وقت الانفصال النهائي او المؤقت قد حل واستحل كل ما هو إيجابي في مكنونات العرض المعول عليه، وأن عملية طرح مثل هكذا جدلية معرفية لها اشتغالات فلسفية في النقد لم تأتي من فراغ، وأنما جاءت نتيجة متابعة جادة و قائمة على صور مرئية وحوارات سمعية ، سمعت وشوهدت ووثقت بدقة ، وعن طريق ذلك سوف أبدأ أولا بالنص المسرحي(سوء تفاهم ) للمؤلف و الفيلسوف (البير كامو) الذي تم تعريقه من قبل المؤلفة والمخرجة (عواطف نعيم) الى (جنون الحمائم) بشكل سلس ومفهوم يدعو الآخرين الى التواصل معه بشكل مستمر ، ولم يأتي ذلك الإتصال من فراغ ، وأنما جاء بشكل قصدي يلامس ما قد مر به المتلقي الذي يرى العرض ويستمع الى حواراته بواسطة الممثلين ، إذ نجحت المؤلفة في استخلاص مادة دسمة بواسطة تناص محكم يدعو المشاهد الى الانصات جيداً الى ما يقوله الممثلين ، ففي ذلك الحوار المنطوق معاناة ومرارة قاتلة شعر بها أغلب من شاهد العرض وحضره ، وبطرق مختلفة، بعضها قاهر والبعض الآخر أقل بقليل ، وأن كل كلمة منطوقة كان لها معنى ودلالة لغوية تحيل المخفي الى معلن والصريح الى مخفي ، وأن هذا الاشتغال العميق على النص العالمي(سوء تفاهم) وتعريقه بهذا التكثيف المتقن يعد حسنة كبرى تحسب للمولفة والمخرجة في ذات الوقت (عواطف نعيم) ، خصوصاً وليس خاصةً ونحن نعاني في الوقت الحاضر من أزمة مؤلفين يعملون ضمن دائرة ما يريده المتلقي وما يشعر به ، وعند الإنتقال إلى محور الإخراج أجد أن هنالك انفصال مؤقت لا يشعر به إلا من جاور صاحبه في ذات الاتجاه والموقف الفني
والاكاديمي ، وأنا أقصد هنا قد تمر الكثير من التفاصيل الاخراجية الغير محبوكة جيداً على المتلقي العادي، لكن في ذات الوقت لا تمر مرور الكرام على من اختص وتخصص في أي فرع من فروع دراسة المسرح ، ومن بين تلك الانفصالات الاخراجية المؤقتة التي حدثت في العرض ، هي عدم وجود ميزانسين حقيقي مرسوم بدقة في بعض المشاهد ، إذ ينفصل الممثل في بعض الأحيان عن الممثل الآخر في أداء مختلف يشتت المتلقي ويجعل منه إنسان تائه بين ما تقوم به( بنت الخاتون )من اشتغالات حركية وادائية وبين ما يقوم به (الخادم) من حركة مفتعلة فيها صوت داخلي خافت ينادي أنا الذي يجب أن يشاهد على خشبة المسرح فقط، وفي مشهد آخر نجد هنالك تواصل فكري عميق في طريقة إخراج مشهد الازياء الممزقة (التنورات) التي كانت تردتيها( بنت الخاتون) ، والتي كانت ترمز وتدل على تعددية الاغتصابات الكثيرة التي عانت منها (بنت الخاتون) ، بالوان وأشكال مختلفة جعلت منها إنسان ساخط عدائي ضد كل من يحاول الاقتراب منه، خصوصاً جنس الرجال، مما دفعها ذلك الى الانتقام من أخيها وقتله بخبث شديد كونه رجل فقط، قديم الملامح متغير الصفات والطباع لا أحد يعرفه من أهل بيته حتى أمه التي ولدته منذ زمن بعيد ، وعند الانتقال الى شكل الاداء التمثيلي ومواطن الإتصال والانفصال الذي تخلله ، أجد أن هناك أداء تواصلي عال بين المتلقي والممثلين ، في جو مشحون بالتطهير ، إذ كان اداء الممثلة (شذى سالم ) وهي تؤدي دور (بنت الخاتون) له أبعاد أكاديمية قائمة على صوت فاعل وجسد مرن مد خط كبير للتواصل الأفقي ، وتمايز اداء الممثل (عزيز خيون ) الذي يؤدي دور (الخادم ) في جعل حركة التواصل مستمرة سواء كان فوق خشبة المسرح او خارجها وهو يتحرك ما بين مقاعد المتلقين ، وقد يكون هنالك انفصال جزئي في جو هادر من التكرارات عندما يؤدي كل ممثل دوره معتمداً على قدراته الادائية في التمثيل من دون الأخذ بنظر الإعتبار أن المتلقي يفضل التواصل الجمعي في الأداء في أحيان كثيرة في العرض المسرحي ، وفي إشارة أخرى أجد ان تصميم السينوغرافيا بطريقة رقمية كان لها دور مهم في إطلاق كم كبير من الصور الدلالية التي كانت ترمز ،وتوحي ،وتشير الى معان متعددة من شأنها أن تكمل فكرة العمل المسرحي بشكل مدروس ومخطط له .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق