مجلة الفنون المسرحية
يتواصل مسلسل الخسارات الفادحة والأليمة لرموز الثقافة والفن في العراق لاسيما مع رحيل الرمز العراقي الكبير الفنان والكاتب والناقد والسيناريست والتدريسي البارع الأستاذ ثامر مهدي الذي وافاه الأجل في التاسع من تموز 2023في صقيع الغربة في مدينة هاليفاكس الكندية – كما هو حال معظم كبار مبدعي العراق- عن عمر ناهز الواحد والثمانين عاماً، بعيداً عن وطنه الذي قدم له الكثير من علمه وفكره وفنه وثقافته ومعارفه الجمالية والفلسفية والإبداعية التي حفلت بها مسيرته وخرج من معطفه الكثير من فناني العراق ونهلوا من علمه وثقافته وفنه ومؤلفاته وفلسفته وفكره الجمالي الكثير منذ عقود ومازالت، وفوق هذا وذاك تميز بدماثة خلقه وتواضعه الذي هو سمة مبدعينا الكبارمن أمثاله، لتخسره الثقافة العراقية الرصينة والأصيلة باعتباره واحداُ من أبرز أعلامها الذين قدموا عصارة أفكارهم وجهودهم التي لم تنقطع أبداً داخل وخارج العراق.
لقد تميز الراحل الجليل بنبوغه المعرفي وحبه للثقافة منذ نعومة أظافره، حتى تخرج في قسم الفلسفة بكلية الآداب في جامعة بغداد عام 1964، وكان الأول في دورته، فعين معيداً في الكلية، وهو ما يحصل عادة في العراق السوي مع النابغين والمتفوقين آنذاك، وحصل على الدكتوراه في الفلسفة في الجامعة نفسها عن أطروحته (منطق الحكم الجمالي)، الذي ظل يلازمه كظله "واثق الخطوة يمشي ملكاً" في عوالم وفضاءات الإبداع المختلفة .
وبانت ميوله وحبه للفنون وبالذات المسرح باعتباره أحد معطيات (علم الجمال) الذي تخصص به الراحل ثامر مهدي، فتوجه لدراسة المسرح في معهد الفنون الجميلة، القسم المسائي، لكنه لم يكمل الدراسة من دون أن يتخلى عن ميوله الفنية، لاسيما حين تعرف على المخرج الكبير الراحل إبراهيم جلال، الذي اختاره ليكون مساعدًا له حين أخرج مسرحية (كاليغولا) لألبير كامو عام 1965، وجره هذا الارتباط العملي بالمسرح وبالراحل ابراهيم جلال الى أن يصبح عضواً في فرقة المسرح الفني الحديث التي كانت تضم كبار مبدعي المسرح العراقي، وشارك مع إبراهيم جلال في تقديم مسرحية (فوانيس) للراحل الكبير طه سالم، ومن ثم ليتولى الإدارة الفنية لأول تمثيلية أعدها للتلفزيون عن مسرحية لبيرانديللو وحملت عنوان (الفخ) وأخرجها الفنان القدير الراحل خليل شوقي ومثلت بطولتها الفنانة الراحلة زينب، ولم ينقطع عن عالم المسرح فكتب أيضاً مسرحيته الوحيدة (فائض عن الحاجة) وأخرجها للمسرح العمالي كتجربة أولى وأخيرة، لكنه قرر بعد ذلك الابتعاد عن المسرح.
لقد بدأ ثامر مهدي كتاباته الأدبية في أوائل ستينات القرن المنصرم، ونشر بين 1963و1966 مجموعة قصص في مجلة (العاملون في النفط) التي كان يرأس تحريرها الراحل الكبير جبرا إبراهيم جبرا.كما كتب مقالات نقدية عن المسرح وكان ينشرها في جريدة (الثورة العربية) البغدادية.. ليتجه بقوة وإصرار نابع من تخصصه في علم الجمال الزاخر بالجماليات المتعشقة بالفنون الابداعية ومن بينها الدراما التلفزيونية والسينما الى كتابة العديد من النصوص التلفزيونية والسيناريوهات السينمائية التي أثمرت عن العديد من أفضل الاعمال التلفزيونية والسينمائية التي مازالت يشار لها بالبنان لقوتا ومتناتهاعلى صعيد الفكرة والقصة والسيناريو ومن حسن حظه أنها وقعت بين أيدي كبار المخرجين في العراق.
ومن بينها سيناريو وحوار فيلم (الظامئون)، الذي أعده عن رواية (الظامئون) لعبدالرزاق المطلبي، وإخراج محمد شكري جميل، وسيناريو وحوار فيلم (العاشق) عن رواية (مكابدات عبد الله العاشق) لعبدالخالق الركابي، وإخراج محمد منير فنري، وسيناريو وحوار (العربة والحصان)، وإخراج محمد منير فنري، وسيناريو فيلم (السلاح الأسود، وﺇﺧﺮاﺝ محمد شكري جميل، الذي تم ايقافه بسبب وشاية سياسية مغرضة، وسيناريو فيلم (الجريء) ، وأخيراً سيناريو فيلم (المسرات والأوجاع) عن رواية فؤاد التكرلي، وإخراج محمد شكري جميل، ولعب أدوارها نخبرة من خيرة وألمع فناني السينما في العراق، وتميزت بموضوعاتها المتماهية مع معطيات وهموم ومعاناة الإنسان العراقي بمختلف تمظهراته الانسانية والاجتماعية والوطنية، استطاع ثامر مهدي أن يصوغها لتتحول الى صور مرئية مترعة بجمال لغة السينما وسحرها ودهشتها.
وعلى صعيد الدراما كانت لمهدي بصماته الأصيلة كما فعل في السينما، فكتب مسلسل (حرب البسوس)، إخراج عمانوئيل رسام، ومسلسل (ناظم الغزالي)، إخراج فلاح زكي وفارس طعمة التميمي..
أما على صعيد التأليف فكانت عطاءاته المتنوعة هي الأخرى قد تميزت بالأصالة، فصدر له عام 1990 كتاب (من الأسطورة إلى الفلسفة والعلم) عن دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد، وعن منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق كتابي (التراجيديا فلسفة) و(منطق الحكم الجمالي)وكان الأخير عن أطروحته للدكتوراه ، و(في المسرح المدرسي) وتناول فيه المعايير التعليمية واللغوية والجمالية، وأفلاطون) وهو دراسة في فكر أفلاطون الجمالي، و(المدخل إلى فن التأليف في التلفزيون) وهو كتاب منهجي لكلية الفنون الجميل، ومجموعة قصص في مجلة (العاملون في النفط) بين سنة 1963و1966، إضافة الى ترجمة كتاب (قصة النشوء والتكوين عند قدماء العراقيين وانعكاساتها على العهد القديم)، وترجمة كتاب (الجمالية) لمؤلفه ويليم بنتون، وترجمة كتاب (الخليقة البابلية) لمؤلفه ألكسندر هايدل، و(دراسة تحليلية لبعض النصوص المسرحية المقدمة على المسرح المدرسي 1978 – 1979).
مازال طلبته في كلية الفنون الجميلة يتذكرون محاضراته المحببة لهم أكثر من غيره لأنه – كما يذكرد. سالم شدهان- يمثل لوحده جانباً معرفياً وجمالياً وفلسفياً يتم طرحه في مجموعة محاضرات يمكنها أن تكون دروسا مقروءة ومرئية معاً، فتشعر بأنك أمام موسوعة في جميع الفنون السبعة، وتشعر وأنت تستمع اليه أنك تنهل من غزارة وفيض علمه وسعة خياله..
ومما كان يحسب له مبدئيته وتمرده على الواقع الخاضع ومشاكساته المبطنة تارة والصريحة تارة أخرى لأعتى ديكتاتورية عاشها البلد، كادت تودي به الى حبل المشنقة، وبتدخل الخيرين والأنقياء من محبيه تم نقله من كلية الفنون الجميلة الى جامعة الكوفة، وياله من عقاب أبعده عن الصرح الذي كان يغرد فيه بأجمل وأروع الأفكار والنظريات الجمالية التي مازال صداها يتردد داخل هذا الصرح الفني والثقافي الأصيل.
لقد كان الراحل ثامر مهدي يمتلك اسلوباً متفرداً في التدريس ويمزج مابين الجدية والسخرية، وهكذا هو في حياته العامة ..وهكذا هي مسيرته التي طرزها بجواهر إبداعه التي ستظل تلمع في مرآة الزمن العراقي الأصيل.. بماكان يكتنزه من قيم جمالية وفكرية وإبداعية ووعي قل نظيره ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق