عبد الكريم العامري*
من الغريب أن نجد قلة من الأديبات العربيات قد كتبن في المسرح، وتضمن منجزهن الأدبي كتباً لنصوص مسرحية، وهذا واضح جدا، إذا ما قارنّا ذلك بنتاجاتهن في الشعر والقصة والرواية، حيث تفتقر المكتبة العربية لهذا الجنس الذي أعتبره أدبياً، فهو (أي النص المسرحي) يعد من أصعب الكتابات، لما فيه من عناصر ملزمة لا يمكن إغفالها، وبناء متقن يتمحور في حبكة تجعل القارئ/المتلقي منجذبا للنص.
وتأتي الأديبة رفقة أومزدي في قائمة اللواتي تصدين للنص المسرحي من خلال كتابها "مينو Pause" والذي تضمن ثلاث مسرحيات حملت العناوين: (سبكتروفوبيا والخروج من العتمة ومينو Pause)، فضلا عن عناوين فرعية حملها كل مشهد كما في النص الأول (سبكتروفوبيا)، والذي أرادت أومزدي فيه أن يكون بخمسة مشاهد، وكل مشهد يحمل عنوانا فرعيا، في بناء أفقي لمجموعة من الشخوص التي تعاني في مجتمع متقلب واهن، جميع تلك الشخوص لنساء، وان اختلفن في ظروفهن، إلا أنهن حملن ذات الهمّ الإنساني، والقيود التي لم يتخلّصن منها، فيما انتقت الكاتبة أسماءهن (زهرة وياسمين وريحانة ونرجس) وهي أسماء وصفات لزهور معروفة لتشير بذلك الى طيب المرأة، وحسنها في مجتمعاتنا العربية.
الملاحظ على البناء الدرامي للنص الأول: سبكتروفوبيا، أنه جاء على شكل مونودراما في أجزائه الأربعة، فكل شخصية خصصت لها الكاتبة مشهداً قائماً بذاته، وأشارت فيه الى أبعاد كل شخصية، سواء الاجتماعي او النفسي او المادي، وجميعها شخوص محورية تحمل عقدا مختلفة، فمن شخصية زهرة، زوجة الرجل العاطل، والأم لشابة وشاب، والتي تعمل كمنظفة، حيث تكمن معاناتها في واحد من حواراتها، وهي تصف زوجها (شككت أنه استُبدل بآخر، لا أدري، ربما أخذوا شيئا باهض الثمن من دماغه وهو بالمستشفى! نقصت رجولته وكرامته وبالمقابل ساءت معاملته أكثر فأكثر)، إلى شخصية ياسمين/ أنور، ثنائية الجنس، والتي يشير اليها الحوار (آه متى أتخلص من هذين الثديين المقرفين، منظرهما جد بشع، تلزمك خطوة واحدة يا أنور، خطوة واحدة جذرية، وتنتهي مع هذا الألم، واللخبطة التي تتخبط فيها منذ سنوات) مرورا بشخصية نرجس الباحثة عن زوج والتي كانت ضحية علاقات فاشلة وهو ما تردده مع نفسها بالحوار التالي (هل سينتهي كالذين سبقوه؟ يستمتع لشهور، ويستغل مالك، وجمالك ثم في النهاية يفضل من هي أصغر منك، حتى لو كانت فقيرة، ومعدومة، أو يبحث لنفسه عن ضحية أخرى.) ومن ثم شخصية ريحانة المرأة القوية الثرثارة والتي يغيظها استقلالية أولادها بعد الزواج، وعدم اهتمامهم بها، فهي تردد (نظن أننا تخلصنا من ذلك الحبل السري عند الولادة لنجده في غفلة منّا يتقوّى، ويطول، ويطول، ويتضخم حجمه مع السنين، ثم نتكبد في النهاية ثقل جرّه خلفنا حتّى الممات، هذا إذا لم يَلتف حول أعناقنا، ويَشد خِناقنا لنَلقى حَتفنا مبكرا.)
وتنهي الكاتبة كل مشهد بصوت انفجار، يحيلنا الى المشهد الذي يليه، فيما جمعت الكاتبة الشخوص في المشهد الأخير.
في نص الخروج من العتمة، وهو نص برؤيا فانتازية، يحيلنا الى عمق التاريخ حيث الأندلس التي ضيّعناها، وقرطبة وابن حزم، وتلك الأيام التي ازدهرت فيها الحضارة العربية الإسلامية، فالفتى المغربي (سفيان) ينتقل عبر الزمن من عصرنا الى القرن الثامن الميلادي، حيث امارة قرطبة، وهناك يلتقي بشخصيات كان قد قرأ عنها، وحفظ موشحاتها الاندلسية، النص عبارة عن سياحة في التأريخ المشرق، ومقارنة ما بين ما كانت عليه الأمة، وما آلت اليه، ووقعت فيه، كما يرد في حوار (سفيان) وهو يرد على سؤال (أبو بكر القرطبي) الذي أراد فيه معرفة أحوال العرب:
سفيان: (يحدث نفسه) لو علمت حال البلدان العربية اليوم لأكلت نفسك حسرة.. (يجيبه) حقيقة لا أرى عما تتحدث، وماذا ترى أنت في هذه الفرق التي بدأت تسحب البساط من تحت أرجلكم وأنتم تنظرون، ما قولك في هذا الشتات والضياع التدريجي التي تتدحرج فيه الأندلس على زمانك؟ ما مآل هذا الارث وهذه العظمة التي ضحى من أجلها بواسل وستُقبر على يدي أمثالك؟ قل لي ماذا فعلت أنت وما هي خططك وتضحياتك من أجل ايقاف هذا التشظي أم ينطلي عليك ما يقال عن الجَمَل؟) النص يحمل من كثير من المقارنات، منها ما يتعلق بالحياة، والحب، والسياسة!
في النص الذي حمل الكتاب ثريّاه (مينو Pause) وهو نص مونودراما، وجعلته الكاتبة عتبة أخيرة من عتبات النصوص، ثمة شخصية تتشظى وتكون بمواجهة نفسها، (أنا هو أنت، وأنت هو أنا) هذا التداخل، والتشظّي يضع الشخصية أمام فشلها، بدلالة الحوار التالي: (على فكرة أنت فاشل وستبقى كذلك، لن يفيدك ما تفكر به في شيء.. حتّى في الحب تفشل كل مرّة فشلا ذريعا). ويكشف لنا الحوار تلك التجارب الفاشلة التي مرّ بها الشاب (مصطفى)، تجارب متعددة في الحب، فمن (صاحبة الشامة) الى (فتاة المحطة)، الفشل في الحب له مبررات وضعتها الكاتبة في النص، مثلا، الفتاة التي تقيس كل شيء بمقياس الدين والشريعة بشكل مبالغ فيه، والأخرى التي خيّبت ظنّه واستغلته بحثا عن رجل (غني ذو جاه ومنصب يغنيها شر البحث عن عمل والاستيقاظ باكرا)، النص يحمل في طيّاته حالات اجتماعية، وسياسية، وتمرد، وهو محمّل بالأمل رغم سلبية نظرة (مصطفى- الشخصية) للحياة، والوضع الراهن، وهذا ما يتجلّى في استذكاره لقصيدة الشاعر بدر شاكر السياب، والمهداة الى الثوار الجزائريين في فترة ثورة التحرير الجزائرية، واستذكاره، من خلال رسالة يوجهها للشاعر، رمز آلهة الحب (عشتار) وارتباطها بالآلهة تموز في أساطير بلاد وادي الرافدين.
كتاب (مينوPause ) للأديبة المتميزة رفقة أومزدي، نصوص مسرحية، تطرح تساؤلات متعددة، ومعالجات اجتماعية، وسياسية، كتب بلغة سلسة وأسلوب ممتع سيجد القارئ فيه لذة القراءة.
*عبد الكريم العامري: شاعر وكاتب مسرحي عراقي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق