تصنيفات مسرحية

الاثنين، 21 أغسطس 2023

التعبيرية تيار فني مات مبكرا لكن آثاره لن تموت .. المسرح التعبيري بطل درامي يمثل الإنسان الجديد الذي يتحدى كل ما ينافي الروح الإنسانية.

مجلة الفنون المسرحية


التعبيرية تيار فني مات مبكرا لكن آثاره لن تموت .. المسرح التعبيري بطل درامي يمثل الإنسان الجديد الذي يتحدى كل ما ينافي الروح الإنسانية.

محمد الحمامصي - العرب 

قامت الحركة التعبيرية احتجاجا على الظلم الاجتماعي، والبرجوازية الكاذبة، والمادية المتوحشة، والحرب العالمية الأولى بكل أهوالها وتجاربها المريرة. وبالرغم من قصر مدتها، إذ ولدت عام 1910 ثم سرعان ما ذبلت عام 1925، فقد تركت وراءها أعمالا عديدة في الشعر والقصة والمسرح خيم النسيان على كثيرٍ منها، إلا أن بعضها لا يزال موجودا يعبر عن أفكار هذه الحركة وفنها.

جمع الباحث عبدالغفار مكاوي وترجم بعض الأعمال التي تنتمي إلى التعبيرية في كتابه “علامات على طريق المسرح التعبيري” مثل مسرحية “المنقذان” لرينهارد جيرنج التي تقوم على مفارقة مبكية ومضحكة معا؛ إذ تتناول قصة عجوزين يحتضران على فراش الموت، وتزعج طلقات الرصاص الآتية من الشارع لحظاتهما الأخيرة، فيهبان لإنقاذ البشرية، ومسرحية “بعل”، وهي أول عمل ﻟبرتولت برشت، وتفيض بالعنف والشاعرية والهجوم المر على القيم البرجوازية المريضة والشوق إلى عالم أفضل وأعدل، و”الناس” تمثيلية من خمسة فصول لفالتر هازنكليفر، و”جحيم، طريق، أرض” لجورج كايز و”التحول” لإرنست تولر، و”الشاعر” لرينهارد زورجه، هذه الأعمال التي تعبر عن أفكار التعبيريين.

انتصار الإنسان
يرى مكاوي في كتابه الصادر أخيرا عن مؤسسة هنداوي، أن “التعبيرية كمذهب في الفن والحياة تنقصها العلاقة الحميمة التي كانت تصل الطبيعية بالدراما، فهي لا تقدم لنا الإنسان الذي تسيطر عليه قوة أكبر منه وتدفعه إلى العذاب والفشل والسقوط، بل تريد أن تقدم الإنسان المطلق المتحرر من كل قوة وكل سلطان. إن كل بياناتها وبرامجها النظرية والفكرية تحتم عليها أن تبين انتصار الإنسان، وهزيمة القوى المعادية له. وهي لا تتجه إلى الدراما كشكلٍ فني تريد أن تصلحه أو تحقق فيه أسلوبا بعينه، بل كوعاء يحتوي أشواقها، ومجال تعبر فيه عن انتصار الإنسان الجديد على أعدائه؛ ولذلك يصبح البطل الدرامي هو الذي يمثل هذا الإنسان الجديد الذي يتحدى كل قوة وكل نظام ينافي الروح الإنسانية”.

ويضيف “هذه القوة هي النظام القائم الذي يحيا فيه الإنسان، وهذا النظام يتمثل في الدولة وسلطتها المطلقة التي تحطمه بجهازها البيروقراطي المخيف، وجهازها العسكري المتوحش. وهذه الدولة نفسها لا تملك السيادة على نفسها، وإنما تستعبدها إرادة السلطة الحديثة التي تتمثل في الصناعات الكبرى ورأس المال”.

التعبيرية استطاعت أن تكشف عن موقف الإنسان الحضاري والفني في مرحلةٍ معينة، ولكنها عجزت عن تقديم حل

هكذا تظهر الدولة في ثلاثية فرتس فون أنروه المسرحية (التي كتب الجزأين الأول والثاني منها في مسرحيتيه “جيل” و”ميدان”، ولم يكتب الجزء الأخير)، كقوة تعمل على إشعال الحرب أو كصنم حكومي هائل يعبده أعداء الإنسان الذين يضحون بإخوتهم في أتونها. كما تظهر في مسرحيتين شهيرتين هما “غاز 1″، و”غاز 2″، لجورج كايزر (1878ـ 1945) كأداة للصناعة الضخمة التي حولت الإنسان إلى “إنسان آلي”، وعند إرنست تولر (1893 – 1929) كدولة استعمارية تخيب أمل المثالي الشاب الذي راح يبحث فيها عن مجتمعٍ إنساني حق (كما في مسرحية التحول).

ويضيف “مع ذلك فليست الدولة والعالم الصناعي الرأسمالي والإنسان أشياء مختلفة عن بعضها البعض؛ لأن العالم الحديث هو التعبير عن الإنسان الذي تحكمت فيه المادة فأتاحت للقوى غير الإنسانية أن تخرب روحه وتتغلغل في كل جوانب حياته. لقد أصبح البرجوازي الذي يزهو بكرشه الضخم وملبسه الفخم هو السيد الآمر المسيطر. إن الحياة العملية والوجود المادي هما الشيء الوحيد الذي يعنيه، والمنفعة هي الحقيقة الوحيدة التي لا حقيقة سواها. لم يعد الدين والأخلاق والحضارة والفن في نظره إلا واجهات خاوية يزخرف بها بناءه المادي. إنه الآن عنوان الدولة المطلقة التي تجردت من كل خلق وضمير”.

ويرى أنه “من الطبيعي أن ينهار نظام الأسرة في ظل دولة كهذه ويفقد قداسته. فالأزواج والآباء والأبناء يتصارعون، والمدارس تطفح بالنفاق والحذلقة. والكنيسة تفسد الدين بالتزمّت وتحويل رجالها إلى موظفين. الإنسان ضائع ولن يجد نفسه إلا بعيدا عن الطبقات البرجوازية، في رجل الشارع الصغير أو في الشعراء والمتشردين والصعاليك والفنانين والمشوهين وغيرهم من الخارجين على الدولة والحياة المطمئنة. بل إنه لن يجدها حقا إلا في إنسانٍ يمثل التعبيريين أنفسهم، وهو الشاب المثالي الذي يبشر بالمستقبل ويدعو إلى الخلاص وينتظر الفجر. هذا الشاب المثالي هو البطل الأول في الدراما التعبيرية، وهو الداعي إلى الإنسانية والمعذب في سبيلها”.

البطل المسرحي

في الأصل كانت التعبيرية ثورة حقيقية وكانت ككل الثورات على وعي تام بالقوى المعادية التي تواجهها
في الأصل كانت التعبيرية ثورة حقيقية وكانت ككل الثورات على وعي تام بالقوى المعادية التي تواجهها
يتابع “إنه يظهر في صورة الشاعر في أول مسرحية تعبيرية بحق، وهي مسرحية ‘الشاعر’ التي كتبها رينهارد زورجه (1892 – 1916) في سنة 1910، والبطل شاعر شاب، يحس بالضياع في عالم منحل منهار تسوده التجارة والمنفعة لا روح الأخوة البشرية. وتتحكم فيه فئة من الأغنياء ليس لديهم نصيب من نبالة الأرستقراطية، ويختفي منه ذوو الأصالة ليحل مكانهم المزيفون من الأوساط وعبيد الشهوات والنساء التافهات. وتغلق الصالونات الأدبية والفنية لتغص المقاهي بمشعوذي الأدب ودجاليه. ويروج البوهيمي بدلا من الفنان، وتاجر التحف النشيط بدلا من محب الفن، وثرثرة أدعياء الثقافة بدل الحوار العقلي الأصيل”.

وكان الشاعر الشاب وسط هذا الحطام يلقي بتهاويمه النبيلة التي تفيض إيمانا برسالته الإنسانية في صوت يشبه صوت النبي الضائع في الصحراء وهو يحاول أن يبلغهم هذه الرسالة السامية في لوحات درامية تفيض بآلامه وأشواقه وتعبر عن الدراما الجديدة كما فهمها هذا الجيل “ستكون روح الفن وقلبه. من كل البلاد سيتدفق الناس جميعا – لا الصفوة القليلة وحدها – إلى هذا المكان؛ ليلتمسوا فيه الشفاء والنجاة”. وهو يحلم برؤى المستقبل المجيد لهذه البشرية الجديدة “بحار! بحار جديدة! شواطئ لم تطأها قدم! بشر! بشر مضيئون! حب لم يجربه إنسان!”. ولكنه ينفجر في النهاية في مونولوغ يعبر عن اشمئزازه ويأسه من الجماهير ويختمه بصيحة تردد سخطه واحتجاجه على كل شيء وكل إنسان “كل شيء شرير!”.

وأوضح “هذا البطل عند كاتب مثل هانز يوست (الذي ولد سنة 1890 وكتب مجموعة من المسرحيات التعبيرية الناجحة قبل أن يصبح داعية النازيين الأول ويسقط السقطة التي لن يغفرها الفن ولا التاريخ) هو الملك الشاب الذي يريد أن يحكم على أساس الإنسانية المطلقة والخير المطلق، فيلغي البلاط ويحكم بالعدل الخالص ويضرب المثل الذي يعتقد أنه سيغير العالم، ثم لا تلبث أحلامه أن تتبدد، فتعلن أمه أنه مجنون ويلقى عليه القبض. ويستولي عليه اليأس – وكل أبطال التعبيريين الشبان يائسون أو مخفقون أو خائبو الأمل – فيلقي بنفسه من برج القصر في الوقت الذي ينادي فيه الشعب بإعدامه”.

عند نفس الكاتب هو توماس بين (في المسرحية التي ظهرت سنة 1927 واعتبرها بعض النقاد – على الرغم من تزييفها الواضح للتاريخ – أهم مسرحية سياسية في الأدب الألماني الحديث). وبين هو بطل حرب الاستقلال الأميركية المشهور الذي يدعو إلى الحرية ويلهم القواد العسكريين مثل واشنطن وغرين. ولكنه يذهب إلى فرنسا الثورة فتروعه مادية اليعاقبة ويعارض إعدام الملك، ويسجن كما هو معروف بتهمة الملكية، ويعود إلى وطنه بعد سبعة عشر عاما فلا يعرفه أحد. ويختم حياته بإلقاء نفسه في البحر، بعد أن تأكد من تحقيق رسالته واستقلال أمته.

التعبيرية كانت في نشأتها ثورة حقيقية وكانت ككل الثورات على وعي تام بالقوى المعادية التي تواجهها

ويتابع مكاوي “فالتر هازنكليفر (1890 – 1940، الذي كتب أشهر مسرحية معبرة عن صراع الأجيال وهي مسرحية الابن) يجعل من أنتيجون، في مسرحيته التي كتبها بهذا الاسم سنة 1917، بطلة مثالية تندد بالحرب وتدعو إلى الثورة على السلطة العسكرية التي تتمثل في الطاغية كريون. وجورج كايزر (1878ـ 1945)، وهو أنضج الكتاب التعبيريين وأخصبهم إنتاجا، وتقع أنجح مسرحياته وأشهرها في مرحلة متأخرة تجاوز فيها التعبيرية ولغتها الغنائية وصرخاتها العاطفية إلى البناء العقلي المحكم. يصور رجلا يسميه شباتسيرر (والتسمية تدل على شخصيته، فمعناها هو المتنزه) يعيش في حالة استعدادٍ دائمٍ لدعوة عالمه غير المكترث بالإنسان إلى الإنسانية الحقة (وذلك في مسرحيته ‘جحيم، طريق، أرض’ التي كتبها سنة 1919)”.

وقد تدور مسرحيات أخرى حول وجود البطل نفسه الذي تتهدده قوى معادية تريد أن تلغي كيانه وتدمر إنسانيته، فالكاتب جيرنج (وهو بالطبع غير مارشال الطيران النازي المزعج) يصور في مسرحيته “المعركة البحرية – 1917” مجموعة من البحارة في إحدى السفن الحربية الألمانية يجدون أنفسهم في موقف يحتم عليهم أن يحاربوا ويموتوا كالحيوانات الذبيحة. وتبدأ المعركة، ويسأل أحد البحارة المتمردين إن كان لهذا الموقف الحتمي ما يبرره، أو إن كان الإنسان هنا يختلف عن الخنزير الذي ينتظره الجزار، أو البهيم الذي ينتظر حد السكين.

طبيعي أن يخفق هؤلاء الأبطال المثاليون، وطبيعي أيضا أن تسير هذه الدراما التعبيرية على منطق التراجيديا ما بقي الهدف الذي يسعى إليه البطل هدفا خياليا يلفه ضباب الأحلام. لقد كانت فكرة اليوتوبيا أو مجتمع المدينة الفاضلة الذي لا وجود له في أي مكان، هي التي تشغل ذهن كايزر عندما صور بطله الذي يحث الناس على بناء المجتمع الإنساني الحق في مسرحيته سابقة الذكر “جحيم، طريق، أرض”. ولا يرجع هذا الإخفاق إلى سيطرة القوى غير الإنسانية التي قد تكون شيئا عارضا يمكن تغييره أو إزالته، ولا إلى عجز البطل التعبيري الذي قد يكون أحيانا واقعي النظرة محدد الهدف، بقدر ما يرجع إلى طبيعة الإنسان نفسه وطبيعة المجتمع الذي يحيا فيه.

لفت الكاتب إلى أن الحركة التعبيرية عاشت بحساب التاريخ ما يقرب من خمسة عشر عاما (1910 – 1925) ولكنها لفظت أنفاسها بأسرع مما تسمح به قوانين الميلاد والموت! فقد خنقتها الأزمات الروحية والمادية التي استشرت في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وشلها الرعب الذي استولى على أصحابها وهم يرون سحب التعصب القومي والعنصري تتجمع في الأفق، وذئاب النازية الهمجية تهدد بالزحف. وشعروا أن صرخاتهم النبيلة تختنق وسط صياح البرجوازية البليدة المتطلعة إلى المال والمنفعة والغزو والسيطرة، وأن مثلهم وقيمهم التي نادوا فيها بالمجتمع الإنساني والأخوة البشرية والمحبة والحرية ونقاء الروح تموت كلها وتنهار تحت أقدام الحقد والكراهية والمادية المظلمة، وتشرد معظمهم في البلاد أو تعذب في السجون أو سقط في الحرب أو مات في المعتقلات أو انتحر يأسا من الحياة.

 أما من بقي منهم فقد لاذ بالصمت أو اتجه إلى النقد الاجتماعي الساخر أو انغمس في أدب الترفيه والتسلية أو آثر أن يعيش منسيا من القراء والنقاد وكتاب تواريخ الأدب. ويكفي أن نتذكر أسماء رينهارد زورجه وأوغست شترام اللذين سقطا في ميدان الحرب العالمية الأولى، وجيرنج وإرنست تولر اللذين ماتا منتحرين، وهازنكليفر الذي فضل الانتحار في أحد المعتقلات الفرنسية على الوقوع في أيدي النازيين الزاحفين، وجورج تراكل – أعظم شعراء التعبيرية – الذي دفعته معارك الحرب الأولى إلى حافة الجنون فمات في الغالب منتحرا بتأثير الأقراص والحبوب المنومة، وجو تفريد بن الذي لزم الصمت طوال العهد الهتلري، وغيرهم ممن أحرق النازيون كتبهم في حريق برلين المشؤوم.

الحركة عاشت قرابة خمسة عشر عاما (1910 – 1925) ولفظت أنفاسها بأسرع مما تسمح به قوانين الميلاد والموت

ويؤكد مكاوي أن التعبيرية استطاعت أن تكشف عن موقف الإنسان الحضاري والفني في مرحلةٍ معينة، ولكنها عجزت عن تقديم حل إيجابي للمشكلات التي واجهته. صحيح أن الفن لا يقدم الحلول ولم يكن هذا ولن يكون من وظيفته ولا من طبيعته. ولكنه يستطيع مع ذلك أن يلقي الضوء على المشكلات أو يلفت الأنظار إلى الطريق الصحيح الفعال لمواجهتها أو السيطرة عليها سواء بالفعل أو بالوعي والوجدان، وقد أخفقت التعبيرية في تحقيق هذا في المجال الاجتماعي، وبقيت مثلها مطلقة، وأهدافها أشبه بالأحلام، وفكرتها عن مجتمع الأخوة البشرية أقرب إلى اليوتوبيا.

ولذلك فليس غريبا أن ينهار معظم أبطالها أو يقضوا على أنفسهم بالصمت أو الموت. إن الشاب يدفن نفسه بنفسه في مسرحية يوست سابقة الذكر، والملك المتحمس في مسرحيته الأخرى يلجأ إلى الانتحار. والشاب المثالي في مسرحية “التحول” لإرنست تولر يذوق مرارة الفشل وخيبة الأمل في الحرب التي ظن أنها ستخلص المجتمع من عفونة النظام الاجتماعي القديم. لقد أسرع بالتطوع فيها، فلم يجد إلا صور الموت والتشوه والخراب في كل مكان. ولذلك فهو ينتهي بأن يصبح ثائرا، يدعو الجماهير إلى الثورة على الحرب والسلطات التي تحرض عليها وتكسب من ورائها، والأغنياء الذين دفنوا قلوبهم حية تحت ركام الأطماع والخزعبلات.. “اذهبوا إلى الجنود وقولوا لهم أن يحولوا سيوفهم إلى محاريث. ازحفوا الآن! ازحفوا في ضوء النهار!”.

وخلص مكاوي إلى أن التعبيرية كانت في نشأتها ثورة حقيقية. وكانت ككل الثورات على وعي تام بالقوى المعادية التي تواجهها – أي تواجه الإنسان الذي تمثله – أكثر من وعيها بالأهداف المحددة التي تريد بلوغها. وإذا كانت قد أخفقت في تحقيق هذه الأهداف البعيدة فلا شك أنها قد نجحت في تأكيد هذه الغاية العظيمة بل الوحيدة لكل نشاط فني أو إنساني خلاق: ألا وهي كرامة الإنسان، الإنسان المطلق العاري، بعيدا عن كل الحدود والقيود التاريخية والاجتماعية والقومية والشخصية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق