انور محمد - الضفة الثالثة
في مسرحيات الكاتب السوري وليد بن أحمد عون الله إخلاصي (1935- 2022) التي بلغت حوالي خمسين مسرحية، كانت أولاها مسرحية "القدر يحكُّ رأسه"، 1959، تراه يكتب وهو يحاول الصعود مُتجنِّبًا الوقوع من السلالم - نذكِّر بمسرحيته "كيف تصعد دون أن تقع"، 1972. وتشكِّل الحديقة في مسرحه أحيانًا مكانًا تلتقي فيه شخصياته وتتحاور كاشفةً عن مآسيها الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها، كما في مسرحيتيه "عجبًا... إنَّهم يتفرَّجون"، 1986 و"قريبًا من ساحة الإعدام"، 1989. وهذه الأخيرة تدور حواراتها في حديقة عامَّة بين رَجُليْن يلتقيان دون سابق معرفة، أحدهما شاب مُتخرِّج من الجامعة ويبحث عن عمل، والآخر طُرِد من عمله بسبب نزاهته. ولقد شاهدناها مؤخرًا على خشبة مسرح دار الثقافة باللاذقية من إخراج وسينوغرافيا: مجد يونس أحمد، وإضاءة: غزوان إبراهيم؛ ولعبًا حيَّا مع مُمثلَيْن: مجد عدنان يونس وأكرم الشيخ، في دورين شديديْ التفرُّد، إذ جَمَعَتْهُما المُصادفة واللاقصدية لنبقى مع عرضٍ مليء بالتراجيديا الحسيَّة – وهو النصُّ الذهني، فيَكادُ كلا الممثلين يصطدمان مع حبل المشنقة الذي سيلتف حول رقبة الممثِّل الافتراضي الذي سيتمُّ إعدامه في ساحة قريبة من الحديقة. إعدامٌ يحرِّض عندهما الشهوة للعيش بـ(كرامة) في هذه الحياة التي تمَّ فيها سلب الإنسان السوري في الحرب التي انتهت ولم تنتهِ كل ما يملك عينًا ونقدًا، وقد صارت حياته مثل أسطورة أو خرافة.
"أرانا المُخرج الممثليْن وهما يؤدِّيان دوري شخصيتيْن متنافرتين، ولكن بكثيرٍ من الحركية المحدَّدة والصارمة رغم حالات الفوران الجائشة التي كانت تذهب بهما نحو الصدام، فننتقل معهما من التألُّم إلى الضحك بألمٍ"
الممثِّل مجد عدنان يونس في دور الشاب وفي الإعداد الدراماتورجي الذي قام به المُخرج مجد يونس أحمد، يؤكِّد وهو المُتخرِّج من الجامعة بشهادة/ إجازة في الأدب العربي وقَدْ سُدَّتْ أمامه كل فرص العمل للرجل الخمسيني المطرود من عمله، والذي صادفه في الحديقة، أنَّه لا يعرف لِمَ لا يجدُ فرصة عمل، وقد ولَدَتْه أُمُّه حرًا أو من الأحرار، وعنده من البراهين ما يُثبت حريته وحقَّه في أن تؤمِّن له الدولة عملًا. مجد بدوره، وأكرم بدوره، وهما يضيقان بالظلم، والظلمُ يُضيِّق عليهما في هذه المأساة، يؤدِّيان دوريْهما وكلٌ منهما حَذِرٌ من الآخر- فلا يُفسَّرُ سببُ الهزائم والنكسات والغلاء والجوع الذي حلَّ بهما بخرافاتٍ تُبرِّر ضرورة شقاء الإنسان؛ هناك تفسيراتٌ علمية حتى في التنافس على إقامة العدالة والمساواة بين الناس، فنراهما يتجادلان، ويكادان يذهبان إلى الصدام؛ إذ ينقلان الصراع- أو إنَّ المُخرج مجد يونس أحمد ينقل الصراع من الحالة الذهنية عند المؤلِّف وليد إخلاصي إلى الحالة المادية/ الواقعية على أرض خشبة المسرح بديكور حطَّنا في ركنٍ من حديقة عامَّة، فنسمع ونرى مبارزتهما واستجابتهما الفطرية في تمثيلٍ رغم عنف حركاتهما وتشابكهما، إنَّما في غاية التناغم والانسجام؛ غير متأثرين بدوريهما، كانا يخترقان مأساتهما وإحباطاتهما بـ(الوعي)، بِلَا معقولية الواقع، فيرفضان فكرة الموت بلا ثمن – مجَّانًا، فالكوارث تُواجَه- سنرى من الممثِّليْن حركاتٍ وحواراتٍ تُضحِّك، ولكنَّه ضحكٌ من رعبِ وقسوة الفاجعة التي يعيشانها؛ شابٌ يبحث عن عمل، وعاملٌ صُرِفَ من العمل لنزاهته، ليبقى البابُ مفتوحًا أمام أسماك القرش التي تتصيَّد ضحاياها في مياهٍ صُبِغَتْ بالدماء. ضحكٌ من قهرٍ سياسي واقتصادي، يُشكِّل انفجارات على اختلاف أفكارهما التي استهلكتها محارق الأمل بِغَدٍ لا يُنتجُ إلاَّ كوابيس وهزائم، ضحكٌ ليس عبثيا، ضحكٌ من حياةٍ ليست حياة.
لقد أرانا المُخرج الممثليْن وهما يؤدِّيان دوري شخصيتيْن متنافرتين، ولكن بكثيرٍ من الحركية المحدَّدة والصارمة رغم حالات الفوران الجائشة التي كانت تذهب بهما نحو الصدام، فننتقل معهما من التألُّم إلى الضحك بألمٍ ومن أَلمْ، وكأنَّهما يعيشان لحظات انهيار عصبي من شدَّة القهر الذي يُقيدهما، ويقيداننا بحباله وعصيِّه؛ العَصَا التي كادت أن تتحوَّل إلى قذائف بيد الموظَّف المطرود من عمله بسبب نزاهته وهو يدقُّ بها دقَّاتٍ سريعة متصاعدة على خشبة المسرح، كأنَّه يعزف لحنًا جنائزيًا: ماذا فعلنا لنلقى كلَّ هذا الجزاء؟ ومن ثمَّ يسترخيان، ثمَّ ينفعلان، فنرى تعابير وجهيهما وصوتيهما يعلوان تعبيرًا عن جوعهما للكرامة، وكأنَّ الذي يجري التحضير لإعدامه إنَّما هما، فيستثيران المتفرِّج، لا لنجدتِهما ولا لإغاثتِهما؛ بل حتى لا نتحوَّل إلى ضحايا فيحقِّقان ذروة مسرحية.
المُخرج في مسرحية "قريبًا من ساحة الإعدام" يُقيم اتصالًا حميميًا مع المتفرجين. لم يكن عبثيًا ولا ملحميًا- ربَّما عرَّجَ بهما علينا ومن بعيد، فقد كان همُّه الضرب وبقسوة على بطون الأغنياء مُحدثي النعمة؛ فالجوع ليس للطعام وحده، فكلُّ الكائنات تشبعُ وتشبعُ من حشاش الأرض- ولكنَّه الجوع إلى الكرامة؛ الجوع الذي لا يُقاوَم بالتمائم والتعاويذ والأدعية، فنرى أنَّ مقعد الحديقة والمياه التي رشَّها الممثِّل أكرم الشيخ بلا مبالاة وثرثرته وهو يثغو، ويهدل، ويخرخر، ويزمجر، وذاك الآخر الممثِّل مجد الذي يمسك بفردة حذائه الممزَّق لعلَّها تتحوَّل إلى لقمة طعام وعدالة؛ والذي يُبدي استعداده بإشارة يرفع فيها أصبعيه فوق رأسه بمثابة قرنين، لأن يشتغل (قوّاَدًا) في حال استحالة الفوز بفرصة عمل لدى مؤسَّسات دولة تُخزِّن وتنشر أذاها (اللطيف) على مواطنيها، فيرد عليه الموظَّف ذاك المطرود من عمله لنزاهته، بأنَّ القوَّاد يحتاج إلى شهادة/ إجازة جامعية؛ وذلك إمعانًا في تصوير القهر والرعب، فنضحك هازئين. إذْ ماذا يمكن أن يفعل الإنسان أمام شرور وأذى شياطين الإنس ومَرَدَتِهم!!
المخرج كان حيّا ومتحرِّكًا ومتغيرًا، فأرانا عواصفَ وبروقَ المقهورين، حاثًّا إيانا على ألا نخشى الحياة مهما أمطرت السماء من حبال مشانق فوق هذه الأرض اليابسة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق