أشرف الحساني
تسخير الأغاني والموسيقى لخدمة الدراما وخلق حال من التشويق في شرح الأحداث
يعتبر المسرح الغنائي أحد أهم الممارسات الجمالية التي أغنت الساحة الفنية العربية منذ خمسينيات القرن الماضي، ذلك أن التجربة على رغم أنها ليست عربية على مستوى السبق التاريخي إلا أنها تركت تجارب مسرحية مؤثرة ذات ميسم عربي، وهذا الأمر جعل "مهرجان ومؤتمر الموسيقى العربية" عام 2022 ينظم عرسه السنوي الكبير الممتد على مدى 14 يوماً في مصر حول تاريخ المسرح الغنائي وقضاياه وإشكالاته.
وتمثل آخر دورات المهرجان وعياً بأهمية هذا النموذج التعبيري الذي هو في طريقه إلى الانقراض داخل البيئة المسرحية العربية، إذ إن مثل هذه اللقاءات العلمية تسلط الضوء على مباهج التاريخ الفني العربي وتجعل الفنانين والنقاد ومؤسسات الإنتاج ينتبهون إلى بعض الأشكال التعبيرية التي تكاد تنسى ويطمس ذكرها مع أنها تشكل رافعة للتنمية داخل الفن العربي.
أبعاد جمالية
من يستطيع اليوم أن ينسى تلك التجارب الكبيرة التي قدمها المسرح الغنائي المصري منذ نهاية الخمسينيات؟ من يدعي اليوم أن نجوم الطرب الغنائي لم يستفيدوا بقوة من هذه التجربة بعدما لعبوا في مسرحيات وقدموا أغنيات لا تزال منطبعة في الذاكرة والوجدان؟
إن هذه التجارب بقدر ما امتلكت موهبة غنائية نادرة داخل أجيالها فإنها من جهة أخرى استفادت من الأبعاد الشعبية التي ميزت المسرح في ذلك الوقت مقارنة مع السينما، والسبب هو تلك الشعبية التي طبعت المسرح العربي بوصفه أهم شكل تعبيري كان يسهم في جمهرة الناس داخل فضاء محدد، بل إن هذا المسرح لعب مجموعة من الأدوار تجاوزت وظيفته الفنية والجمالية بعدما ارتبط بشكل كبيرة بالنضال والمقاومة والثورة.
والحقيقة أن المرحلة التي بزغ فيها الشكل الغنائي أسهمت بكيفية تلقائية في تخليص المسرح العربي من هواجس الأيديولوجية والوطنية صوب الانفتاح على الأنماط الجمالية المركبة فوق خشبة المسرح، مثل الغناء والرقص والشعر والموسيقى، وهي عناصر جمالية استحوذت على المسرح الغنائي وأعطته بعداً تجريبياً وفنياً مركباً.
ولم تعد المسرحية تكتسب جمالياتها من الموضوع المطروح بل من خلال طريقة المعالجة الدرامية ومدى حضور هذه الفنون داخل قالب مسرحي كان يتطلع إلى عيش نوعٍ من الحداثة المسرحية الغربية، إذ خلص المسرح الغنائي المسرح العربي من تقليديته وأخرجه من التوجه التراثي أو الاحتفالي أو النضالي الذي كات يطغى عليها، والذي عمل لسنوات طويلة على تحويل المسرح إلى الاجترار أكثر من كونه مختبراً فنياً لتجريب الأشكال المسرحية التي تتماشى مع سياقات وتحولات المرحلة التي كانت تشهدها البلاد العربية.
تاريخ غامض
تاريخياً تعود نشأة المسرح الغنائي إلى اليونان القديمة بعدما تعود الناس أن يمزجوا داخل نصوصهم المسرحية نوعاً من الأناشيد التي كانت تؤدى على شكل جماعات فوق خشبة المسرح، لا كمحور رئيس للمسرحية بل فقط كمونولوجات من خلال التعليق على أحداث المسرحية، مما يجعلها عنصراً مهماً في الخطاب المسرحي.
وتطور هذا الأمر بقوة في العهد اليوناني وأضحى المسرح الغنائي مكوناً فنياً قائم الذات في المجتمع، بل إن الرومان استبدلوا الحوارات الشفهية بأخرى غنائية وأصبحوا يتوسلون إليها بشكل مركب للتعبير عن بعض أحداث المسرحية، ولم يفكر الرومان في أي رغبة تجديدية أو الحلم بعيش حداثة مسرحية في ذلك الوقت، بل إن الأمر مرتبط بتاريخهم الفني وذاكرتهم الجمالية التي وجدوا أنفسهم داخلها، فعملوا وفقاً للنهج نفسه على إنتاج خطاب مسرحي يتماشى مع تاريخهم.
الحقيقة والمدينة في نصوص رائد الكتابة المسرحية الأميركية
وعلى رغم التأثير الواضح للمسرح اليوناني على الروماني إلا أن الأخير عمل على إخراج الموسيقى والغناء من أبعادهما الدينية والاحتفالية واستغلالهما داخل فوق خشبة المسرح، ومع ذلك يصعب الجزم بملامح المسرح الغنائي في العهد الروماني لعدم وجود وثائق تظهر بقوة تاريخ هذا المسرح وأنماطه وخصائصه وتحولاته في ذلك الوقت الباكر من الحضارة البشرية، لا لأن المؤرخين لا يجدون فقط وثائقاً مكتوبة أو شواهداً أثرية تسعف على التاريخ وكتابة تاريخ المسرح الغنائي، بل لأن تكوين كثير من المؤرخين اليوم هش، إذ لا يستطيعون الدخول في قضايا تتجاوز تكوينهم العلمي.
والمؤرخون العرب الذين كتبوا عن الحضارة الرومانسية أو اليونانية لم يتجاوزوا الجانب الأثري الذي يُظهر متى وكيف وأين تم بناء هذه بعض المباني والقصور والأقواس والمسارح من دون أن يشغلوا أنفسهم بالتفكير في خصائص ومميزات المسرح الغنائي في تلك المرحلة، كما أن غياب التأريخ الفني عموماً في العالم العربي يسهم في تغريب هذه البواكير الأولى للمسرح الغنائي ويجعل عملية البدايات صعبة وغامضة من الناحية العلمية.
لقد توقفت البحوث حول تاريخ الفنون بجامعاتنا العربية لمصلحة أمور تتعلق في عمومها بالسياسة والاجتماع مع استثناءات قليلة في تونس مثلاً، إذ يجد المتابع عدداً من البحوث الجامعية حول مفاهيم الحداثة الجمالية داخل المعمار والسينما والتشكيل والفوتوغرافيا وغيرها من الفنون البصرية ذات العلاقة بالتاريخ والذاكرة، ولأن المؤسسات العلمية لا تدعم هذا النوع من البحوث المتصلة بتاريخ الفن فإن الهوة تزداد يوماً بعد يوم في علاقة العرب بتراثهم الفني، سواء كان قديماً أو معاصراً.
البواكير الأولى
إن تلك الأناشيد التي كانت الجوقة الرومانية تغنيها يمكن اعتبارها شكلاً غنائياً بالمفهوم الحديث للكلمة، ولأن الموسيقى شكلت مكوناً من مكونات المجتمع الروماني لاستخدمها في مختلف المظاهر الاحتفالية والجنائزية فلا غرابة أن تجد نفسها داخل المسارح الرومانية بأشكال مختلفة من العزف الآلي والتوظيف الفني والتوليف الجمالي، ولم يتعامل الرومان مع الموسيقى كبذخٍ فني يرنون إليه كلما شعروا بضيق أو رغبة في الاحتفال أو الحزن، بل كانت عبارة عن تمرين يومي وأحد أشكال التعبير الأكثر تأثيراً في وجودهم وحياتهم وترحالهم، واستطاعوا أن يخرجوا تراثهم الفني من الاستخدام الديني له، بل إنهم حولوا هذه التجربة إلى شكل من أشكال التعبير الجسدي الذي سيستمر لقرون طويلة، في وقت تجاوزت فيه البلاد العربية الشأن الديني وأصبحت تستخدم الدين لخدمة أمور سياسية واستغلال في سوق المضاربات الحزبية، ولا من أجل تكريس الدين والحفاظ عليه بل لأهداف سياسية محضة تتمثل في الوصول إلى السلطة.
يقول الكاتب حاتم حسين إن أول مسرحية تحمل المفهوم العصري للمسرحية الغنائية ظهرت عام 1866، وهي مسرحية "الوغد الأسود" من تأليف تشارلز إم باراس التي عرضت للمرة الأولى في مسارح "غاردنز" بنيويورك في الـ 12 من سبتمبر (أيلول) من العام نفسه، ثم بدأت المسرحيات الغنائية على مدى السنوات التالية كأعمال شديدة الشبه بالأعمال الأوبرالية ولا تهتم كثيراً بالحبكة الفنية، وتركز في المقام الأول على نجومية الأبطال وأعمال الرقص المبهرة والأغنيات الشعبية، وظهر ذلك جلياً خلال فترة العشرينيات، غير أن أكثر المسرحيات قرباً في تلك الفترة إلى ما نعرفه حالياً من شكل المسرحيات الغنائية هي "المسرح العائم" التي بدأ عرضها عام 1927 في مسرح "تسيغفيلد" بنيويورك.
هشاشة الوعي
ونظراً إلى الفراغ المهول الذي يطبع المسرح الغنائي اليوم فلم تستفد المؤسسات الفنية والتلفزيونية العربية من توثيق وأرشفة المسرحيات الغنائية التي شهدتها بعض البلدان مثل مصر وسوريا ولبنان، مما يجعل الصورة تحفظ هذه الممارسات الفنية التي تعتبر أحد أبرز الأشكال الحداثية في المسرح المعاصر،
وهذا الأمر كان سيسهم لا محالة في تقريب المنتوج الفني للباحثين والنقاد والمؤرخين، ويشجعهم على التفكير والتأريخ والكتابة عن هذه المسرحيات، وإبراز ما تنضح به من جمالية التعبير وكثافة القول في إطار تحولات المسرح العربي المعاصر، فحين نتحدث عن نماذج مسرحية غنائية فنحن نستند في تفكيرنا وأقوالنا إلى ما قرأناه في الكتب والمراجع، لا ما شاهدناه عبر الشاشة الصغيرة أو الفيديوهات، مما يجعل عملية التقييم غير دقيقة بالمرة، فالكاتب يكتب عن مسرحية لم يشاهدها ولم يعاين فيها حركات الممثلين ولا عرف طبيعة الإنارة المستخدمة ونوعية الأكسسوارات التي لجأ إليها بعض المخرجين لإبهار المتفرجين في ذلك الوقت.
توثيق مسرحي
إن عملية العسر التي طبعت مسألة توثيق هذه المسرحيات لا يمكن النظر إليها إلا باعتبارها ارتباكاً فكرياً عانته البلاد العربية على مر تاريخها، فالعرب لم يعترفوا بالصورة إلا في اللحظة التي أصبحوا فيها مهددين من الاستعمار القابع في بيوتهم بسبب أمور تتعلق في أساسها بالدين من خلال مفهوم التحريم الذي رافق تاريخ الفنون العربية، ويمكننا القول إن هذه المسألة لا تزال مطروحة اليوم، إذ لا نعثر على مشروع تلفزيوني يخصص ضمن فقراته وبرامجه وقتاً لعرض مسرحيات قديمة أو جديدة كانت، مما يجعلها تبقى موسومة في ذهن المتفرج وتعطي إمكان المشاهدة للناس بشكل ديمقراطي ممن لا تتوافر لديهم مسارح في مدنهم وقراهم.
ويعتبر الناقد الموسيقي زين نصار أن "مولد المسرح الغنائي العربي الحقيقي في مصر على يد الشيخ أحمد أبو خليل القباني الدمشقي (1842- 1903) الذي رحل مع إسكندر فرح من دمشق إلى الإسكندرية وبدأت المسرحية على يد القباني تأخذ شكلاً جديداً، إذ كان الشيخ شاعراً وموسيقياً وأديباً وممثلاً، وقدم رواياته على مسرح زيزينيا وقهوة الدانوب".
وأضاف نصار، "كانت روايات القباني مستوحاة من التاريخ العربي الإسلامي وقصص ألف ليلة وليلة، وكانت تتميز بالرقص الإيقاعي ويتناوب الغناء بين فصول الروايات التي تقدمها فرقة المطرب الكبير عبده الحامولي والمطربة الشهيرة ألمظ، واستمر نشاط القباني وفرقته في مصر 17 عاماً، وبعدها قام بعض الحاقدين والمشاغبين بحرق مسرحه الذي أقامه في منطقة العتبة الخضراء عام 1901، وبعدها بعامين توفى الشيخ في دمشق".
ويمكن التمييز في المسرح الغنائي بين نمطين، الأول يتعامل مع الغناء بوصفه يشرح الأحداث فيكون عبارة عن "موتيف" فني أو عنصر جمالي داخل المسرحية، ويتميز هذا الشكل في أن الغناء أو الموسيقى عبارة عن مونولوج درامي يشعر من خلاله المشاهد بأهمية الحدث ومدى تدرجه درامياً داخل المسرحية، كما أن المخرج يروم إلى نوعٍ من التشويق الذي يكشف عبر الغناء ببعض مما تهجس به المسرحية من أحداث، وهذا النوع غالباً ما يتلاحم مع عناصر فنية أخرى مثل الرقص والشعر والصورة، لأنه في هذه الحال يكون مجرد مكون جمالي إلى جانب توابل فنية أخرى تتلاحم وتجتمع في إطار وحدة مركبة لتقدم فرجة مسرحية ذات خطاب جمالي جامع.
أما النمط الثاني فيحول المسرحية إلى عملية غنائية راقصة يصعب فيها التخلي عن الغناء وتقديم حوارات وفق النمط الأول، لأن الغناء يكون وسيلة وغاية في الوقت نفسه، بل إنه الهدف الأسمى في المسرحية، إذ يغلب عليها الاشتغال المكثف للدراما وموسيقاها من أجل دغدغة مشاعر المتفرج وزرع نوع من الإعجاب السطحي الذي يباغت الجمهور خلال مشاهدة العروض الأولى سواء كانت مسرحية أو سينمائية.
----------------------------------------------------
المصدر :.independentarabia
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق