مجلة الفنون المسرحية
تعتبر مسرحية (بيت أبو عبدالله) لمخرجها (أنس عبدالصمد) واحدة من أهم العروض المسرحية التي أثارت جدلا و اختلافا في التلقي و الفهم و القبول ضمن عروض مهرجان بغداد الدولي للمسرح بدورته الرابعة، العرض أثار كثير من الدهشه و الصدمة بسبب مغايرته في البناء و المشهدية و الارتكاز على المنظومة البصرية الصورية التي لغت الكلمة و المنطوق الدرامي بشكل نهائي من العرض.
يبدأ العرض مغايرته من العنوان حيث هناك نوع من احاله تقليديه للعنوان بحيث يأخذ المتلقي الى مساحات تقليديه من حيث مدلول العنوان و احالاته الدراميه، لكن العرض يكسر هذا الافق بطريقة ذكية و مغايرة عندما يؤسس لصورة اخرى لهذا البيت في ذهنية المشاهد بشكل مغاير و مضاد لما قد أحال اليه العنوان، فالبيت يغادر منطقته التقليدية المعروفه الى مساحات ايحائيه و دلاليه قد هدمت مرجعية العنوان التقليدية و سحبت
المتلقي من خلال احالاته الجديدة و المبتكرة الى الصورة الذهنية المغايره للمكان و لهذا المفهوم من خلال الاشتغالات الادائيه و السينوغرافيه العرض.
ارتكز المخرج في بناءه لمشهدية البصرية و الادائية للعرض على الافكار و التصورات التى نادى بها انتوان ارتو من خلال خلق فضاء ملئ بالوحشة و القسوة النفسيةو الذهنيه و العمل على جسد الممثل ككتل تعبيرية و صورية تؤسس للصورة
المشهدية من خلال علاقات انسانية معقدة و متشابكة و غير منسجمه تقودها الصدمة النفسية و الصراع مع الذات و الكينونة و البيئة و الطقوس المؤلمه التي يلجأ اليها الانسان لكي يعبر عن مكنوناته الداخليه و مشاعره المتضاده و المعقدة و العلاقات الانسانيه التي تحكمها النزوات و الصاعقات الكهربائية الانيه و المتقطعه، كل هذا من خلال أداء جسدي فيه كثير من الجلد للذات و الروح و الجسد و التعذيب النفسي و التعامل مع الجسد كأنه كائن يتلذذ بالعذابات و العقوبات القاسية و معاقبة الجسد بشتى طرق و أساليب مختلفة لكي يتخلص من موروثه الانساني الموحش الذي يحمل بذور الشر و الانانية و التدمير بداخله، اي أن هناك نوع من التطهير فيه كثير من الساديه و تقويم الجسدو تعذيبه من خلال حمله على دفع ثمن أخطاء و جنح الانسانيه جمعاء.
عمل المخرج أنس عبدالصمد بشكل كبير على تشكيل الصورة البصرية الموحشة من خلال دمج العلاقه غير السويه بين الكائن البشري و العناصر البيئيه- السينوغرافيه المتحكمه في كينونة البشر و نزواته و وجوده، فكان وجود الانسان هامشي و معذب في ظل الحضور الطاغي للاله الجهنميه التي ترسم مصير الانسان و تحدد له شكله و طريقه، بل أكثر من ذلك تحول الانسان في غمار حضور هذه السلطات المهيمنة الى مجرد عنصر مستهلك لايهمه الا بطنه، مجرد فئر منبوذ يرکض وراء قطعة الجبن التي تقدم له و يلهث ورائها و يلتهمها بشكل فظيع يدل على الحالة المجردة التي وصل اليها عندما أصبح كائنا مستلبا من السلطات المتحكمة به بأسماء و أشكال مختلفه، فلم يعد له بيت يؤيه أو يأمنه لانه لم يعد يتحكم بالجدران و الابواب و الفضاءات المحيطة بالبيت.
ارتكاز المخرج على هذه المنظومة الادائية المتجانسه و المتوافقة مع ثيمة العرض و البناء المشهدي و التركيبة السينوغرافية قد خدمت العرض جماليا كمنظومة جمالية متجانسة، كما نجح المخرج في خلق فضاء مسرحي قاسي و موحش من خلال العلاقات المتشابكة و المعقدة بين عناصر العرض و جمع كثير من الاضداد داخل الصورة المشهدية، كما أن طبيعة هذه العلاقات غادرت المنطقة التقليدية و أرتكزت على ابعاد جديدة في رسم
العلاقات من خلال خلق نوع من الصدمات الكهربائية و التشذي و التفتت و التحولات الارتدادية التى عمل عليها العرض بشكل متقن و واعي ، كما أستطاع العرض أن يخلق صدمة كبيرة عند عملية التلقي و يسحب المتلقي الى مساحات جديدة في التلقي ، فخلق نوع من الذهول لم يعتد عليها سابقا، فقسم المتلقي الى المؤيد و المعارض للعرض و هذا قد خدم العرض بشكل كبير لانه خلق نوع من الجدل و الاصطدامات الفكرية و الجمالية ينبغي للعمل المسرح ان يعمل عليها و تكون مصدر تساؤلات دائمة و ليس مصدر اجابات.
الاداء العالي و المنظبط للممثلين خدمت منظومة العرض بشكل كبير، فظهر الاداء الجماعي و الفردي للممثلين كأستجابة عالية للمنظومة الفنيه و النفسية الارتدادية التى ارتكز عليها العرض، فعلاقة الممثل بالسينوغرافيا و الفضاء النفسي و الذهني تجاوزت كل العلاقات الجدليه حتى تحول الممثل من خلال سياقات الادائية كتلة سينوغرافيه يؤدي وظيفة جامدة في بعض الاحيان، في حين على العكس السينوغرافيا دخلت حيز الممثل و أستلمت ريادة التجسيد و التعبير و الحركة و الاداء التحولي بشكل كبير، فالممثل في هذا العرض أصبح كائنا سينوغرافيا فيه كثير من التشيئ و التجمد و السكون في بعض الاحيان، في حين ان السينوغرافيا عوضت الممثل حضوره في رسم كثير من الحالات الذهنيه و الاحاليه في العرض، أي أن العرض أرتكز على علاقة جديدة بين الممثل و السينوغرافيا، فلم يعد واحد منهم مفضل على الاخر، كما أجاد الممثلون في الاداء داخل هذه المنظومة الادائية المتفردة التي يخلق نوع من عذاب نفسي و ذهني للممثل و هو يؤديه و يتشاكس و يتصادم و يتصارع معه، فقد أبدع كل من المبدعة التونسية ثريا بوغنامي و محمد عمرو أنس عبدالصمد و علاء قحطان و الاخرون في الاداء في هذه المنطقة الادائية الصعبة.
مأخذي على العرض هو الافراط في بعض المشاهد و الحركات الادائية التي لم تضيف للعرض بل خلقت عامل تشتت بصري و فكري كان العرض في الغنى عنها، خاصة أن العرض كان يحتاج نوع من الاختزال في المشهدية البصرية و المنظومة الحركية التي خلقت نوع من الاعتباطية و نوع من مغالاة يمكن أن يكون مقصود منهجيا و فلسفيا و لكن بصريا لم يساعد العرض و سحب العرض الى مساحة غير مرجوه من المبالغة البصريه و الحركية غير محببة.
في النهاية بالرغم من أشكالية التلقي لمثل هذه العروض الا أن هناك مرجعيه منهجيه لهذا العرض رسمت كل تفاصيله بوعي عالى من خلال عمل على مرجعيات أدائية و بصرية و مشهدية و حتى أشتغالات فكريه و فلسفية أستند عليها العرض من خلال توغله داخل سياقات مسرح القسوة و أفكار و تنظيرات أنتوان ارتو المسرحية، عرض مغاير و أكيد سيأخذ مساحات مغايره من التلقي و التأويل و التفسير و التصنيف و البحث و هذه نقطة قوة لأي منجز فني.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق