مجلة الفنون المسرحية
فاتحة الكلام
أسئلة الكتابة وكتابة الاسئلة
هي مسرحية، أقول هي مسرحية، والصحيح ان اقول هي كتابة احتفالية مسرحية تامة الأركان، كتابة برؤية أنسانية كونية شاملة، فيها شعرية شاعر، وفيها جماليات فنان، وفيها شهادة مؤرخ، وفيها نبوءة عراف، وفيها سحر ساحر، وفيها فكر يقرأ الواقع والوقائع بوعي العالم الحكيم، وفيها مخاطرة جريئة، في غير زمن القراءة، لتحرض على فعل الحياة في الكتابة وبالحياة، وفي هذا النفس الجديد من هذه الكتابة المتجددة، تحضر أسئلة الساعة الجديدة، والتي فجرتها في دماغي مسرحية الدكتور الطيب الوزاني، والتي أعطاها اسم (سفر في زمن معطل) والتي حملها إلى البريد من مدينة تطوان العالمة والشاعر والساحرة
وبخصوص فعل الكتابة، والذي هو فعل حيوي نحيا فيه وبه، يقول الاحتفالي في (بيانات كازابلانكا للاحتفاليةالمتجددة) كتابات لما بعد الجائحة ما يلي:
( وكل فعل في الحياة، وفي الواقع وفي التاريخ، ما هو إلا كتابة، وليس ضروريا ان تكون هذه الكتابة بالحبر وبالأقلام، وقد تكون بالأجساد والأرواح الحية، وتكون بهذا أصدق من الأوراق المسودة، وتكون أبلغ وأكثر بيانا وتبينا منها، ولهذا فقد كان الاحتفاليون - في حقيقتهم - مجرد بيانات حية تمشي على الأرض، وهم في حياتهم اليومية يمارسون فعل الكتابة حقا، وهذا ما قد يظهر لكل الناس، أو لبعض الناس، وهم في أعماق أنفسهم الخفية يؤمنون بانهم لا يكتبون، وأن الكتابة الحيوية فقط، تنكتب بهم وهم لا يشعرون، أو انهم فقط يرسمون بأجسادهم وأرواحهم وأقلامهم ما تمليه عليهم الحياة، وأيضا ما يمليه عليهم التاريخ، وما تمليه عليهم الأيام والليالي، وما تمليه عليهم الحقيقة، وما يمليه عليهم الجمال، وبهذا تكون الاحتفالية صوت الحياة، وتكون أبداع الوجود، قبل أن تكون فكر وفن وابداع وصناعة الموجودات الحية)
وأن يكتب الكاتب، في زمن تعطلت فيه الساعات، وأن يطرح الأسئلة الصعبة والشاقة والعميقة، وذك في زمن السهولة والسطحية وزمن الكسل العقلي، فإن مثل هذا الفعل لا يمكن أن يأتيه اي كان، وهو بهذا لا يمكن أن يكون إلا شهادة شاهد على هذا العصر، والذي عو عصر الخوف وهخ عصر التقنع وهو عصر التباعد الإنساني وهو عصر الغياب والمنفى، وبخصوص الأسئلة التي يمكن او ينبغي أن يطرحها الكاتب، في هذا المنعطف التاريخي الصعب، والذي مباشرة مرحلة ما بعد كوفيد، يقول الاحتفالي في نفس البيانات دائما
(لقد رأيت، واقتنعت، بأننا - في حياتنا اليومية- نتعامل مع الأسئلة بوعي انتقائي، ونكون في هذه الحياة عادة، كما يكون الطالب امام أسئلة الامتحانات، فهو محاصر بين حدين قاطعين، الأول تمثله الأسئلة، والثاني يمثله الزمن المحدود والذي لا يرحم، ولهذا فإنهو- رغما عنه - ينحاز إلى الأسئلة السهلة، ويترك الأسئلة الصعبة، على أمل أن يعودإليها في زمن لاحق، ولكن هل تسمح الأعمار المحدودة والمحددة بذلك؟)
وارى أن الأسئلة التي يطرحها هذا الاحتفال المسرحي هي أسئلة وجودية كبيرة وخطيرة جدا، ولعل سيد كل الأسئلة فيها هو سؤال: نكون أو لا نكون؟ والأمر إذن اكبر واخطر من مقاومة فيروس عابر في زمن عابر، وهو بتعلق بصراع من أجل الوجود، والوجودية ومن اجل الإنسان والانسانية، ومن اجل الحياة والحيوية، ومن اجل المدينة والمدنية
وفي نفس بيانات كازابلانكا للاحتفالية المتجددة يقول الاحتفالي بأن (أصدق الأسئلة- وأكثرها خلودا وبقاء - هي التي يأتي بها المبدع من المستقبل وليس من الماضي، وهي التي تكون نبوءة وكشفا، وليس مجرد استرجاع ألي لما في الذاكرة، وبهذا يجدد المبدع اسئلته، ويجعلها أطول عمرا من عمره، حيث يمضي هو، وتبقى هي من بعده، وبهذا يكون انتسابها إلى الحقيقة اكبر وأخطر من انتسابها إلى الواقع، وتكون مرتبطة بالقيم أكثر من ارتباطها بالمعلومات، وتكون منحازة إلى الإنسان- في شموليته وكليته ومطلقيته - أكثر من انحيازها إلى شخص من الأشخاص، أو إلى جهة من الجهات)
وبمثل هذا النص النص المسرحي، وبكل النصوص المسرحية الاخرى الجادة، يمكن للمسرح المغربي - العربي أن يستعيد حياته وحيويته، وأن يقبض على زمنه الضائع، وأن يقبض على الأسئلة الحقيقية في حيلة الناس وفي حياة المجتمعات
الكتابة ملح الحياة والكتابة ظل الوجود
المسرح كتابات متعددة، أساسها الأول هو كتابة النص، والنص المسرحي ليس مجرد ورق كما يقول المسرحيون والسينمائيون المصريون، لأن الكتب المقدسة التي هندست عبر التاريخ ارواح الناس، هي ايضا اوراق، ولكنها الأوراق المفعمة بالحياة وبالحيوية وبالمعرفة والحكمة، والنص المسرحي هو دستور المملكة المسرحية التي لا تغرب عنها شمس الحق والحقيقة، وهو قانونها الأسمى، وهو شرعها الذي يمكن أن نجدد قراءته، عصرا بعد عصر، ويمكن ان أن نعدل من زاويا النظر اليه، ولكنه ابدا لا يمكن الاستغناء عنه، وماذا يمكن أن يكون المسرح اليوناني بغير نصوص اسخيلوس وارسطوفان ويوربيديس؟
وماذا يمكن أن يكون المسرح الفرنسي بدون الكاتب الشاعر موليير، وبدون كورناي وراسين؟ وهل للمسرح الإنجليزي وجود خارج وجود أسماء الكتاب والشعراء الكبار فيه، والذين ياتي في مقدتمهم الشاعر والمؤرخ والحكيم والكاتب والساحر والمتنبئ وليام شكسبير؟
وبحسب د، فاطمة الزهراء الصغير في تقديمها الباذخ لمسرحية ( سفر في زمن معطل) فان هذه الكتابة، في هذا الاحتفال المسرحي، هي كتابتان متكاملتان، الأولى هي كتابة للزمن، وذكدلك في كليته ومطلقيته وشموليته وديمومته وتجدده، والثانية هي كتابة للوقت، وذلك باعتبارها عرضا واستعراضا في مسار الأيام والليالي، محدودة الصلاحية، ومحددة الاهداف، وضيقة في رؤيتها، وترى د. فاطمة الزهراء الصغير أن الكتابة الأولى هي كتابة للزمن المطلق، وللقضايا الإنسانية في تعدد ازمانها وامكنتها، اما الكتابة الثانية فهي (ترتبط بتحقيق متعة آنية (و) غالبا ما يكون مصيرها الزوال والتلاشي)
ولارتباط بعض نماذج هذه الكتابة بالوقت وحده، دون ارتباطها بالزمان، فلقد أوجد لها المسرح التجريبي المصري مثلا شعارات استهلاكية ظرفية، وذلك من مثل شعار (ساعتان من الضحك) فقط؟ وماذا بعد الساعتين؟ أليس هناك حياة؟ وهل العرض المسرحي هو نهاية الحياة ونهاية التاريخ؟
والطيب الوزاني، في هذه الاحتفالية المسرحية، تماما كما في كل كتاباته المسرحية الأخرى. نجده ينتصر للحضور في مقابل الغياب، وينتصر لاموجود في مقابل العدم، وينتصر للأمل في مقابل الياس، وينتظر للحضور في مقابل الغياب، ووينتصر للنهوض في مقابل السقوط، وينتصر للحياة في مقابل الموت، وهذا ما يمكن ان تكشفه في مسرحيته (سفر في زمن معطل)
وزمن الكوفيد هو زمن النوم مع اهل الكهف، وفي هذا الكهف الوجودي، الظالم والمظلم يتعطل كل شيء، ويبقى الزمن مجرد ارقام بلا دلالة، ويضيع الفرق بين الليل والنهار، وعندما يدخل الخائف زمنية الكهف، ويغيب مع الغائبين، ثم يعود إلى الحياة وإلى الزمن، فإنه يكوم مضطرا لأن يسترد زمنه الضائع، وأن يؤسس زمنه الجديد، وهذا ما ما يمكن أن نلمسه ونحسه في نهاية مسرحية (سفر في زمن معطوب) والتي تعيد للحي حياته، وتعيد للإنسان انسانيته، وتعيد للمدينة مدنيتها، وتعيد للساعة عقابها التي كانت خارجها بدل أن تكون داخلها...
ربنا ما خلقت هذا الوباء باطلا سبحانك
في هذه الاحتفالية غرابة، وفيها سوريالية فرضها ظرف تاريخي سوريالي بامتياز، وفيها مشاهد كثيرة من مشاهد العبث واللامعقول، وهي لا تقول بأن ما يجري وما يحدث لا معنى له، وكل شيء في هذا الواقع التاريخب يحمل معناه ومغزاه داخله، ومهمة الإنسان الجديد هو أن يقرأ السطور وما بين السطور. وأن لا يكتفي بأن يستمع فقط، إلى نشرة الاخبار اليومية، والتي تقدم الوقائع ولا تحيط بروحها الخفي
في هذه الاحتفالية المسرحية يحضر الإحساس بالملل، ويحضر الاحساس بالضجر، وبحضر الإحساس بالفراغ، ويحضر الإحساس بالاغتراب، وبحضر الإحساس بالخواء، ويحضر الإحساس باللامعنى، وهذه كلها بعض سمات ذلك المسرح الباريزي الذي جاء بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، والذي أعطي اسم العبث واسم اللامعقول واسم الطليعة واسم المسرح الجديد، تعددت الأسماء والمسمى واحد، وفي ذلك المسرح، يموت العقل، ويموت الإنسان ليصبح مجرد دمية فارغة تردد كلاما فارغا في عالم فارع بلا معنى
ولكن في مسرحية (سفر في زمن ميت) يحضر العقل، ويحضر الإنسان، وتحضر الحياة، وتحضر الرغبة في الحياة، ويحضر الفعل والفاعلية من اجل تحرير الزمن، ومن تحرير إرادة الإنسان والإنسانية فيه، ومن اجل الغد الذي ينبغي أن يكون جديدا، ويكونومجددا، ويكون مختلفا ومخالفا في قيمه الفكرية والجمالية والأخلاقية
والجديد في رؤية الدكتور الطيب الوزاني، هو أن الخلل موجود أساسا في الواقع وفي الواقع، وهو موجود بوجود شروط ذاتية وموضوعية قد لا نعرفها، وقد تكون هذه الجائحة القاتلة عنوانا على انتقام الطبيعة من جنون الناس، في المسرحية اليونانية القديمة (ادويب ملكا) لسفوكليس، يتعطل الزمن أيضا، وذلك بظهور الطاعون، ويذهب كريون إلى المعبد ليعرف سبب هذا الوباء، لتخبره (الالهة) بان هذا الطاعون وراءه جريمة غامضة وخفية، ووراءها الحرام، فهل يكون الأمر اليوم مشابها بين جريمتين متباعدتين في الادب والتاريخ، الجريمة الأولى في حق شريعة الحياة والأحياء والثانية في حق الطبيعة وفي حق نظام الحياة؟
وميزة هذا الوباء الذي عطل الساعات، هو انه منصف وعادل وديمقراطي، ولق اصاب كل الأحياء بدون تمييز، ولحق بكل الساعات، الغالية جدا والرخيصة جدا، وبالنسبة للمسرحية، فإن هذا الوباء العادل والجبار، قد جاء في نفس الشروط التي اصابت مدينة طيبةب عاصمة ملم الملك اوديب بالطاعون القاتل، لقد جاء ردا على جرم الانسان، وعلى ظلم الإنسان، ودفاعا عن الطبيعة، وفي هذا المعنى يقول الجندي في المسرحية
( جرمنا ايضا كان ومايزال كبيرا ولا يستهان به عندما كابرنا واغمضنا عيوننا عن أخطائنا المتكررة، ولم نحاول إصلاحها قبل فوات الأوان، ذابت ثلوج المحيطين المتجمدين ولم نتعظ; تفشت الأمراض والأمراض المزمنة ولم نتعظ؛تلاحقت الأوبئة أكثر من ذي قبل ولم نتعظ؛ فكانت النتيجة أن تفتقت عبقرية الأقوياء من الناس بالبحث في الفضاء عن كوكب يستقبل خلقنا، لأن الأرض ذاهبة إلى الاحتضار لا محالة)
هي صرخة مثقف احتفالي اذن، مثقف احتفالي فرض عليه ان يعيش شبه حياة في زمن ماتمي معطل، وهو كاتب يرى كوكب الأرض مهددا، ويرى الإنسان مهددا قي قيمه، ويرى المواطن المدني مهددا في مواطنته، ويرى الأرض كلها مهددة، وبهذا بأن هذه المسرحية، في معناها الحقيقي، هي أحسن رد على العدميين وأحسنورد على الظلاميين وأحسنورد على الأيديولوجيين المتاجرين بالإنسان بقضايا الانسان
هي ثنائية أبدية وسرمدية أذن، ثنائية اسمها ثنائية الجريمة والعقاب، ولقد اننتبه إليها الكاتب الروسي الكبير دستويفسي وخلدها في رواية ( الجريمة والعقاب) وعليه، فينبغي دائما في حال وجود العقاب، أن نسأل عن الجريمة، وبالمقابل، فانه مع وجود الجريمة، فإنه ينبغي أن ننتظر، وان نتوقع العقاب، في أية لحظة من اللحظات، وفي هذا المعنى يردد الناس دائما جملة أن (الله يمهل ولا يهمل) والطبيعة ايضا، تمهل ولا تهمل
هذا هو الكاتب د. الطيب الوزاني، وهذا مجرد نموذج واحد من كتاباته الجادة والمجددة، والتي جاءت اليوم، لتعيد للكتابة المسرحية المغربية والعربية تبلها وقدسية رسالتها
شكرا على هديتك الغالية والثنينة اخي وصديقي الدكتور الطيب الوزاني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق