تصنيفات مسرحية

الاثنين، 6 نوفمبر 2023

اريان مونشكين ومسرح الشمس

مجلة الفنون المسرحية


اريان مونشكين ومسرح الشمس

الباحث : مجيد عبد الواحد النجار 


من يتحدث عن مسرح الشمس لا بد ان يتحدث عن المخرجة الجريئة اريان مونشكين، التي اخذت مكانها بين عباقرة المسرح في القرن العشرين، حيث ان المسرح ومنذ نشأته لم يذكر، او لم يُعرِفُنا على كاتبة مسرحية، او مخرجة مسرحية في زمن الاغريق، او الرومان او العصور الوسطى او... فيما بعدها، حيث كان المسرح حكرا على الرجال، ولم تتمكن المرأة من اختراقهم وتقديم اعمالا مسرحية تنافسهم فيها، هذا الاختراق حصل في السينما والتلفزيون في القرن العشرين، بصورة واضحة حيث اخذت المرأة مساحة واسعة في هذين المجالين، لكن المسرح بقى عصيا على النساء، لذلك نذكر هنا شجاعة مونشكين وتحديها للزمن وللرجولة، وتمكنها من اخذ مقعدها على خشبة المسرح، حيث تصدت الى العديد من القضايا في انتاجها المسرحي، بعد تشكيل فرقة مسرحية اسمتها(مسرح الشمس) بالتعاون مع زملائها.
حيث كانت لها ومنذ عام 1964 واحدة من أهم المساهمات في إعادة إحياء المسرح الفرنسي، من خلال تكوينها مع مجموعة من أصدقائها من جامعة السوربون فرقة (مسرح الشمس) في باريس وفقاً لتوجهات الجمعية التعاونية العمالية، وهي فرقة ربما تعتبر من أطول الفرق المسرحية عمراً وأكثرها إنتاجاً في تاريخ المسرح الفرنسي، حيث تمكنت من إنتاج ما يقرب من(50) عملاً مسرحياً ضخماً، كان الريبرتوار العالمي الاساس الذي تنهل منه الفرقة مواضيع وحبكات يقوم أعضاء الفرقة بالاشتغال عليها ابتكاراً وكتابة وحتى آخر أيام العرض بشكل جماعي اختارته آريان منذ البداية،  فهنا في مسرح الشمس كل المواقع والمهام متساوية وكذلك المرتبات، وكان اول عمل لها  مسرحية الإنكليزي أرنولد ويسكر (المطبخ) وهو أول إنتاج لفرقتها  الذي بدأته بمشهد صامت عام 1967 أظهرت فيه نزعتها اليسارية باتجاه مسرح شعبي.
كانت اريان مونشكين في احيان مخرجة "ديكتاتورة" لعمل مسرحي، وفي احيان اخرى تجدها عاملة تقطع تذاكر المتفرجين عند الباب، وتفسر هذه الصيغة التعاونية إنها تعلمتها في الخارج، حيث إن الخارج سيكون دائماً جزءاً من تكوينها وتكوين "مسرح الشمس"..()
لقد اصبح (مسرح الشمس) منذ تأسيسه على يد عشرة من الطلاب المثاليين، من اشهر المسارح في أوربا، وقد سعوا الى ان يدخلوا تعديلات في شكل الأداء المسرحي ونظرية المسرح باعتبار ان المسرح لونا من الوان الممارسة الاجتماعية، ولذا قاموا بدراسة وتقييم تراث منظري حركة الحداثة في أوربا مثل( ارتو، وبرشت، ومايرهولد، وكوبو ....) وكذلك ابتكروا أساليب وتقاليد مسرحية جديدة إضافة الى التقاليد المسرحية الشعبية، واعتمادهم على المشاركة الجماعية في الاعمال المسرحية، من اجل صناعة مسرح يتفاعل مع الجمهور بطريقة راديكالية قائمة على الحوار؛ فنجد ان المخرج والممثل ومصمم الأزياء والمؤلف الموسيقي، يعبرون جميعا عن فرصهم ومشاكلهم التي تبرز اثناء انشغالهم بالمسرح كنشاط وممارسة اجتماعية. 
وقد حاول مسرح الشمس في كل مشروع من مشاريعه المسرحية ان يتعامل مع لحظة تاريخية بعينها، وان يتدخل في الثقافة الشعبية ويعارضها ، ويثير التساؤلات حول طرف حياتها في ضل هيمنة الرأسمالية، واكثر عروض المسرح انتهجت في برامجها النقد النشط متعدد الأصوات ذا الطابع التاريخي الذي يدفع الحركات المتطرفة والاصولية(). 
سارت مونشكين مؤسسة الفرقة في مسرحها هذا وفي جميع عروض الفرقة المسرحية الحديثة على الخط الطبيعي الذي سار فيه ( جان لوي بارو، وهاينز مولر، وروبرت ولسون ) وتحولت الى الكلاسيكيات اليونانية . 
كما وتبنت فرقة الشمس أفكار(ا رتو) في نهاية السبعينات، والذي كان حلقة وصل بين منوشكين وبروك، وقد كانت مقولة ارتو بان( المسرح شرقي ) لها الأثر الكبير في اعمالها، حيث كانت عروضها الأولى لا تخلو من الأساليب والثيمات المسرحية الاسيوية التي سبقت تأسيس الفرقة، وفي عروض( جنكيزخان) انحصر تأثيرها الأستشراقي في المنظر والازياء ذات الطابع الغرائبي، بعد ذلك بدأت في التجريب على الرمزية في المسرح الصيني بطابعها الغير تمثيلي، والتجريب كذلك على استخدام الأقنعة، وكانت تؤكد انها لا تريد احياء مسرحيات قديمة او احياء الكوميديا ديلارت او المسرح الصيني التقليدي، بل إعادة صياغة اللعبة المسرحية، وان تكشف عما تنطوي عليه من قدرة على الادهاش والتحولات. 
يبدو ان المشتغلين في المسرح لم يعجبهم اسلوب(المسرحيات القديم)، (المسرح الاغريقي والروماني، ومسرح العصور الوسطى، ويمكن البعض لم يعجبه مسرح شكسبير نفسه)، لذلك راحوا يبتكرون اساليب جديدة من اجل طرح قضايا المجتمع، وهذه الاساليب خضعت تحت يافطة (التجريب) لان التجريب هو الاساس في اكتشاف كل ما هو جديد ونافع للمجتمع، (وهنا لا اقصد كل التجارب نافعة)، بل هي بالأساس تقام من اجل المنفعة، من خلال حاجة الانسان لهذه المنفعة،- المنفعة الشخصية او الاجتماعية-، جعلت المفكرين والعباقرة يدفعون بأنفسهم لاكتشاف ما هو جديد ومبتكر، لذلك استفادوا المسرحين بل الفنانين جميعا من التجريب، في وضعِ لبناتٍ أعمالٍ وأفكارٍ جديدة، وكذلك المجتمع الذي يعيشون فيه ومنه انطلقت هذه التجارب الى دول متجاورة ومن ثم تأثرت بها الدول البعيدة من خلال زيارة الفرق التي تعمل بالتجريب او من خلال زيارة الاشخاص المبدعين لهذه الدول، لذلك كانت الصين، واليابان، والهند كذلك، لها الاثر الكبير في دفع الكثير من المشتغلين في المسرح على ازاحة حجاب المسرح القديم(الكلاسيكي) وكشف اسرار المجتمعات التي كانوا قد نذرو انفسهم لخدمتها، ومن ضمن هذه الخدمات محاربة الرأسمالية، وتثقيف وتوعية المجتمع، من اجل تثويره لاكتساب، و اعادة حقوقه المسلوبة.
وعمدت منوشكين على اخراج عشر مسرحيات تاريخية لشكسبير والتي ارادتها كنموذج يهتم من خلال صياغة الاحداث السياسية صياغة درامية().هذه الاعمال التي أنجزها شكسبير ما بين 1589-1613، منها(ريتشارد الثاني، هنري الرابع (الجزء الأول)هنري الخامس، ريتشارد الثالث، يوليوس قيصر، كوريلانوس)، والتي عمد بها شكسبير على طرح الوقائع التاريخية، ولكن ليس بطريقة نصية- لأنه ليس مؤرخا- بل  كانت تقديم المشاكل أمام الجمهور من أجل مناقشتها، لذلك قلنا في دراسة سابقة ان المشتغلين في المسرح ومنذ الاغريق كان همهم الاكبر هو الجمهور، وقد اجتهدوا من اجل تعليمة وتثقيفه.
 كما قدمت منوشكين احد اعمالها الذي يتحدث عن الثورة الفرنسية والذي صُمم هذا العمل بالكامل بمكان مفتوح، في صالة العاب. وفي باريس قدمت عمل اخر تم عرضه في معمل مهمل، حيث وضعت اربع منصات في اربع جوانب وجعلت الجمهور في الوسط، وكان يعرض اكثر من مشهد في وقت واحد، وتركت الخيار للمتفرج يشاهد ما يريد، كما شاركت الجمهور في العرض من خلال الهمس الذي يحصل بين الممثلين وبينهم خلال الهجوم على سجن الباستيل والتي تطفئ الإضاءة في اثناء ذلك، ويتحول بعد ذلك الهمس الى أصوات عالية وتفتح الإضاءة ويبدأ الاحتفال().
وفيما يخص التمثيل في مسح الشمس، فان الممثلون يعتمدون في أعمالهم على الكوميديا ديلارت، والأسلوب الأوبرالي، كما وانهم يبالغون في حركاتهم واشاراتهم اكثر مما هي في الحياة الطبيعية بهدف الابتعاد عن التمثيل الواقعي()، لقد كان للمثل نصيبا كبيرا لدى المجتهدين في شؤون المسرح من اجل ارسال رسائل النص المسرحي وافكار المخرج وسيميائياته، كونه حامل العلامة وهو مرسل الرسائل الى المشاهدين، لذلك حدد البعض الممثل بقيود ولم يعطيه الحرية في تفسير وتحليل شخصيته واعتبره دمية تنقل الاحداث فقط، وليس لها دخل بالذي يحدث، ومنهم من طلب من الممثل ان يكون متمكنا من نقل الشخصية بدقة عالية بحيث لا يميز المشاهد بينه كممثل وبين الشخصية، اي الغاء شخصية الممثل والابقاء على الشخصية الدرامية، والبعض طلب منه ان يندمج في الشخصية بحيث لا يجعل المشاهد ان يشعر ولو للحظة واحدة ان ما يحدث امامه غير حقيقي، وذهب الاخر الى ان يطلب من الممثل ان يروي للأحداث فقط، وهنا اقول ان هذا الراوي مطلوب منه ان يمثل للجمهور الحاضر ايضا، وذلك اثناء وصفه الاشياء التي يتحدث عنها، فيجب ان لا يفهم ان الراوي مجرد قارئ للقصة، بل هو كثير من الاحيان يبالغ في حركات يديه ويغير في طريقة الالقاء، من اجل اقناع الجمهور بالقصة والشخصيات، والمقصود من كل هذا هو الصدق في الاداء، وانا اقول دائما على الممثل ان لا يمثل على خشبة المسرح لأنه الشخصية، اذا ما دام هو الشخصية المرسومة في النص اذن لماذا التمثيل. اما بالنسبة للملابس في مسرح مونشكين تكون في الغالب فاقعة الألوان ورمزية .
اما بالنسبة للمشاهدين في عروض مسرح الشمس، فلا شيء يحجب نظره، فهو يرى الممثلين وهم يستعدون للعرض، وللمشاهد حرية الحركة، ويمكنه ان يبحث عن مكان افضل للمشاهدة ان أراد، هنا لا بد ان اتوقف عند قضيتين، الاولى مسألة حجب النظر، واقول ان المسارح مصممة حسب ما أعتقد بطريقة لا يكون حجب في جلوس المشاهدين، وهذه الطريقة معمول بها ليومنا هذا- الا ما ندر- واذا كان المقصود بالحجب هو(الجدار الرابع) فانا استغرب من كيف اتوهم بوجود جدار ثم ازيله، كيف يحصل هذا،-الوهم هو ان اتصور شيء غير موجود- اذن كيف يمكن ازلته وهو شيء متخيل وليس له وجود؟. اما المسالة الثانية، ان المشاهد يبحث عن مكان افضل لجلوسه، فلا اعتقد ان يكون هذا جيدا اذا كان اثناء العرض، لأنه يشوش على الاخرين ويقلقهم، ومن الممكن ان يربك الممثلين كذلك، اما اذا كان المقصود في البحث هذا عن مكان قبل العرض فهذا من البديهيات، لان المشاهد يجب ان يكون في مكان مريح ورؤية جيدة من اجل متابعة العمل، للأسف في بعض الاحيان يكون التجريب عبء على صاحبه، لأسباب اما لم يرى التجارب التي سبقته، او لأنه غير متمكن من التجريب، ودخل منطقة ليس له دراية فيها، لذلك تجده يضع أسس، ومبادئ لعمله غير منطقية وغير معقولة.
وفي مسرح مونشكين يختلف الامر، حيث يوجد نوعين من المشاهدين: النوع الأول يجلس في المدرج ويستطيع ان يرى كل المنصات في ان واحد، وهؤلاء ثابتين ومنفصلين عن الحدث المسرحي، وهذا النوع من المشاهدين يسمونه البعض من المسرحيين بالمشاهد(السلبي) لأنه غير مشارك وغير فعال بل هو مستمع فقط، اما النوع الثاني: فهم المتواجدون خلف المنصات وفي الطرقات وبين المنصات، وهؤلاء مشاهدون مشاركون في الحدث، وهؤلاء هم المشاهدون(الايجابيون) المتفاعلون، والذين يعطون زخما كبيرا لما هم فوق خشبة المسرح.
وقبل الانتها تجول في خاطري اسئلة، لماذا التجريب؟ ماهي الحاجة التي دعت المجرب ان يجرب؟ هل هناك ضرورة؟ هل لدى المجرب شيء جديد؟، فما نشاهده لدى الكثير من المجربين ان تجاربهم تتشابه مع بعظهم البعض، ولم يوجد جديد سوى بتغير التعابير، او صياغة بعض الألفاظ بطريقة تختلف عن زميلة، الم تكن هناك اعمال في الفضاء المفتوح قبل مسرح الشمس؟ الم تكن المسارح همها الاكبر هو الجمهور؟ الم يبتعد المسرحيون قبل مسرح الشمس عن التمثيل الواقعي؟ اولم تعنيهم المشاكل الاجتماعية؟ اولم يبتعدوا عن ثيمات واساليب المسرح الكلاسيكي؟.... وهناك اسئلة كثيرة تثار عندما نتحدث عن التجريب ومعطياته، اننا نأمل من المجربين ان لا يكرروا ما طرحه زملائهم وان يأتونا بجديدٍ يدهشُنا.  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق